موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٠ يونيو / حزيران ٢٠٢٢

عيد الثالوث الأقدس

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
باسم الآب والابن والرّوح القدس

باسم الآب والابن والرّوح القدس

 

باسم الآب والابن والرّوح القدس (الإنجيل يو 16: 12-15)

 

اليوم الأحد، الواقع بعد عيد العنصرة، هو عيد الثالوث الأقدس، إنّ كلَّ أحد، هو عيد الثالوث الأقدس، إذ نجتمع كل أحد ونباشر حديثنا وصلاتنا باسم هذا الثالوث. لغة الكلام مع الله هي الصّلاة. وكلّ صلواتنا تبدأ بالبسملة: باسم الأب... الّتي تذكِّرُنا بهذا العيد. ديانتنا ما لها شبيه في كل ديانات العالم: بينما باقي الدّيانات لا تؤمن إلا بالتوحيد، أي إله واحد وشخص واحد، تعلن ديانتنا أيضا التوحيد، لكن الثلاثي، أي: الأب والابن والرّوح القدس. 3 أشخاص هم إله واحد في ثلاثة أقانيم، التعبير اللاهوتي لهذا السّر.  نعم اليوم نُعيّد رسميّاً سرّ الثالوث الأقدس: نمدح الله الخالق الثلاثيّ الكِيان. هذا هو أكبر وأعمق وأغمض سرّ في ديانتنا.

 

من لا يتذكّر قصة القديس أغسطين ومحاولته لفهم هذا السّر، فلم يفلح، وفي انشغاله خرج إلى شاطئ يتنزه فصادف طفلا ينقل مياه البحر بقطعة صدف حلزون ويرميها في بركة صغيرة. لكن أغسطين استغرب وسأل: هل تستطيع أن تضع البحر في بركة صغيرة؟ فأجاب الولد: وهل تستطيع أن تضع الله الكبير في عقلك الصغير؟ مَن مِنّا لا يجد نفس الصّعوبة ويحتاج إلى نفس الجواب؟ بُقال إنَّ البابا بندكتوس السادس عشر، اللاهوتي الكبير، قد وضع صدفة في تاجه، حتّى لا ننسى، أننا لا نستطيع فهم الله بعقلنا، بل فقط جاثين أمامه على رُكبْنا، نستطيع أن نقترب منه. فنحن ما خُلِقنا لنفهم الله، إذ إله يفهمه العقل هو ليس إله. لذا يجب أن يبقى الاله كبيرا، حتى لا يفتكر عقلُنا، بأنه يستطيع أن يغوص في العمق، ويكتشف سرَّه. يجب أن يبقى فهم الله لنا كفهم النملة للعقل البشري، أي مستحيلا. الله يجب أن يبقى قمّةً لا توصل، فها العقول اليونانية قد اكتشفت سرَّ آلهتها فأسقطتها عن عروشها. وهم قدروا على ذلك لانَّ آلهتهم بالتّالي ما كانت أرفع من عقلهم البشري وعمل أيديهم. وأمّا إلهنا المُثلَّث، فهو فوق فهم عقلنا، ولا يستطيع عقلُنا أن يخوض في سرِّه ويفسِّره لنا علميّاً، فهو أعلى من فهمنا، لذا فنحن لا نستطيع أن نُسقطه عن عرشه. هو فوقَنا وإن اكتشفنا شيئاً عنه، فهو صفاته وبواسطة ابنه الّذي أرسله لنا، ليبرهن لنا عن حبّه، فلا يسعنا إلا أن نسجد له ونحبّه، إذ المهم هو ليس أن نكتشف سره، بل الضروري هو أنه هو يفهمنا ويجلِّلُنا برحمته. الله ما خلقنا لنكتشف سرَّه بل لنحبّه ونعبده ونسجد له. جاء متعلٍّمٌ إلى رابّي يسأله: - إنني قرأت كتباً كثيرة عن الله، لكنني ما وجدتّه! فأجابه الرّابي: لكن يبدو أنّك ما سجدّت له كفاية، حتى تكتشفه! كما قال يوري جاجارين الرّوسي، وهو أوّل رجل وضع قدمه على كوكب القمر في يوليو عام 1969 لقد فتّشت عن الله في كل مكان لكني لم أجده!

 

فإن كان العقل المتعلِّم يجد صعوبة في فهم سرِّ الله، فكم بالأحرى العقل البسيط، فإنّه يجده أكثر من صعب ومستحيل، لكن للمؤمن ليس من أمرٍ مستحيل عند الله، وقد قال القديس توما: ما هو مستحيل للعقل البشري، هو واقعي وحقيقي للمؤمن. وقد اختصر تعليمه بالكلمة: الإيمان وحده يكفي. أي إنَّ فهمَه غير ضروري. إذ الإيمان هو وحي من الله ويجب القبول به إذ لا مجال فيه لايِّ خطأ أو تحريف. إذن الإيمان يكفي بدون العلم والفهم. "إذ هو ساكن في نور لا يُدنى منه، الّذي لم يره أحدٌ من الناس، ولا يقدر أن يراه" (1 تيمو 16:6).

 

هذا الاله، الّذي تجثو أمامه الملائكة وترتّل له ثلاثا: قدّوس، قدّوس، قدّوس، كما جاء في القراءة الأولى من سفر الأمثال، وهو يفرح من مقامه بين البشر. والسّؤال هو: كيف عرفنا أنّ إلهنا الواحد هو في ثلاثة أشخاص إلهيّة، ونُكرَّمه كذلك؟ العهد القديم يُقدِّم لنا إلهنا الواحد، خالق السّماء والأرض، وكيف أنّه اختار له شعبا من باقي الشّعوب، ليشهد لها، أنَّ هذا الاله هو الاله الواحد، ولا إلهٌ غيرُه. أمّا في العهد الجديد، فنلتقي مع إنسان، هو يسوع النّاصري، يُعرِّف على نفسه أنه ابن الإنسان، أي كواحدٍ منا ومثلنا في كلِّ شيء ما عدا الخطيئة، وفي الوقت نفسه يُعلن أنّه ابن الله، أي أنَّ الله هو أبوه، ويعرف أنه واحد مع الأب، إذ قال: أنا والآب واحد، من رآني فقد رأى الأب (يو 45:12). ففي يسوع إذن يسكن إنسان حق وإله حق. فمن يلتقي معه، يلتقي في الوقت ذاته مع ابن الإنسان وابن الله. هذا الابن يتكلّم عن روحٍ بسلطة إلهيّة ومحبّة، يعطيه اسم الرّوح القدس، به يُهدي الله نفسَه لنا، فمِن إلهٍ بعيد يُصبح منا قريباً، أي إلهّ قلبنا، كما يصفه صاحب المزامير (مز 26:72).

 

من هذه الأقوال نكتشف بوضوح، أنّ هذا الاله الواحد، يعيش ويعمل ويحب، كثلاثي الكيان الإلهي، أو جماعة ثلاثية متساوية، نتوصّل إلى معرفة الأب بواسطة الابن، الذي كشف لنا عن وجهه بمحبّة الرّوح القدس.

 

هذا الثالوث ظهر على أرضنا بحسب التوراة على ثلاث أزمنة بثلاثة أفعال رئيسيّة: الله الأب هو الخالق. الله الابن هو المُخلّص، وأمّا الإله الروح القدس، فهو بعيد العنصرة تسلّم قيادة العالم والكنيسة بعد صعود الابن إلى السّماء، ليوصلها إلى كمالها النّهائي. فنحن نعيش في هذه الفترة، أي فترة قيادة الروح القدس. آمين!