موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٣ ابريل / نيسان ٢٠٢٢

طوبى لمن يؤمن وهو لا يرى

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
طوبى لمن يؤمن وهو لا يرى

طوبى لمن يؤمن وهو لا يرى

 

الأحد الثاني لعيد الفصح  (الإنجيل يو 20: 19-30)

 

هذا هو البرهان. هذه الجملة معروفة وهي جملة دعاية في التلفزيون لنوع منظِّف غسيل خاص، وبعدها يَظهر حبل غسيل طويل يرفرف عليه ما طاب وما هبّ ودب، من ملابس كلُّها نظيفة، تمّ غسلُها بهذا المُنظٍّف. من الممكن أنّنا نريد أن نستهزأ من هذه الدّعاية، لكنّها واقعيّة، إذ البشر اليوم يريدون الاقتناع، ببرهان واضح، قبل ما يُقْدِمون على شراء أيٍّ شيء مُهم.

 

من الممكن أيضاً، أن هذا هو السبب، في الدّيانة المسيحيّة، الذي يجعل الكثيرين يشكّون في صحّة القيامة، فهم يريدون برهانا عصريّاً، وبما إنّه غير ممكن تقديم أيَّ برهان عصري، لأنها حدث قديم، فهم يشكّون في صحّتها. بل هذا كان أيضاً مطلب توما، إذ هو لمّا أخبره التلاميذ بقيامة يسوع، قد طلب البرهان، من الذين أخبروه. أي مقابلة القائم من الموت، إذ كان مُمكناً مقابلته. توما كان من التلاميذ المودّدين البارزين، بل المٌتحمِّسين ليسوع. يوحنا يذكره 7 مرات في إنجيله، لكنه يُقدِّمه لنا اليوم بطريقة غريبة، يمكن مُفتعَلَة، يريد فيها إعطاء مثلٍ للمؤمنين في الكنائس التي كرز فيها (يوحنا). فتوما الّذي أمضى 3 سنوات مع يسوع كباقي الرّسل، وكان مُتحمِّساً لسيّده بل ومُعجَباً به، الّذي من أجله كان ترك كلَّ شيء وتبعه، فهو لما سمع، أنَّ يسوع يُعلن أنه في طريقه إلى أورشليم، حيث سيُقبَض عليه من مبغِضيه وأبناء شعبه، ويقتلونه، تحمّس، إذ لم يقدر أن يمنع يسوع من الذهاب إلى هناك، كباقي التلاميذ وقال: "لنذهب نحن أيضا لكي نموت معه" (يو 16:11). فهذا يدل، على أنّه كان متعلِّقا بسيّده ويحبّه. وبالطبع هو حزن كالباقين أن يسوع فعلا قُبض عليه وقتل وقُبر. لكن لما قام سيّده وظهر لباقي الرّسل، لم يكن لسبب أو لآخر، معهم في تلك الساعة، لذا فيوحنا يقدِّم توما بأنه يتصرّف لا كوثني بل كرجل منطقي. ونحن لا نزال شكورين ليوحنّا أنه قدّمه بهذه الطريقة، إذ نتج عنه حلٌّ لإيمان الملايين في التاريخ: طوبى لمن يؤمن وهو لا يرى. وذلك ليقول لقارئيه، أن طريق الإيمان ما كان أبداً سهلا. حتى اليوم، فهناك أساقفة ولاهوتيّون لا يتقبّلون بإيمان الكنيسة: هل نسينا اللاهوتيّين المعروفين دريفامان الألماني وهانس كنج السويسري الجنسية، لتعليمهما اللامنطقي بما يخص لاهوت القيامة؟ وغبرهم. كما وهناك علمانيّون كثيرون، يتركون الدّين لأنّ الكنيسة رجعيّة كما يقولون أو محافظة، لا تجديد فيها في بعض المواقف: العزوبية، الكهنوت أو الشّماسية للنساء. لو كان هؤلاء مطّلعين على تاريخ الكنيسة، لتغيّرت آراؤهم عنها: ما معنى قولهم: أومن بيسوع لكن لا بالكنيسة!

 

البابا يوحنا بولس الأول، الذي كانت حبريّتُه 33 يوماً فقط (أغسطس 1978)، كتب رسائل لشخصيّات التّاريخ ومن ضمنهم الرسول توما، مدحه على جرأته في سؤالاته، متمنّياً نعته بتوما المؤمن لا بتوما الشكّاك. إذ السؤال لا يعني عدم الإيمان، لكن دعم الإيمان الخاص، إذ الإيمان لا يصل قمّته مرّة واحدة، بل يبقى ينمو كل يوم حتى الموت. هذا وحتّى الإيمان القوي عنده سؤلات. نحن نقرأ الكثير عن الإيمان ونسمع دروسا ومحاضرات وكرزات، ومع ذلك يبقى علمنا بالدين ناقص، غير ناضج ويحتاج إلى تنوير ومعرفة أكثر. إذ العلم عن الله والدّين، نبع لا ينضب، فهو ليس عِلماً فقط. فلماذا ننعت توما باللامؤمن

 

 هو طلب برهانا منطقيّاً لنفسه، إذ خبر القيامة كان مُهمّا، حتى أنه لا بمكن قبولها إلا ببرهان. لذا لم يتباطأ يسوع نفسه عن إعطائه وإعطاء كل المتسائلين البرهان المطلوب: أي ظهوره الشخصي. نعم هذا هو البرهان!

 

في كنيسة في مدينة رافينا، بلد الفسيفساء Ravenna غرب إيطاليا، صورة فسيفسائيّة ليسوع القائم من القبر، حاملا علم الانتصار يُزيّنه الصليب وسط العلم. فقيامة يسوع هي برهان انتصاره على الموت. فالموت ما هو النهاية ولا بمكن أن يكون النهاية، كما افتكر تلميذا عماوس. بل الموت هو بداية حياةٍ جديدة. أما هذا عزاء لنا، أن نعرف أنّ الموت هو الطّريق إلى الفردوس المفقود، وساعة المكافأة، الّتي يقول عنها بولس: لم يبق لي إلا إكليل البرّ، الّذي يهبه لي في ذلك اليوم، الديّان العادل" (2 تيمو 8:4).

 

فقيامة يسوع هي أساسٌ متين لحياتنا ولإيماننا، لأننا بدونها لا نفهم لماذا وُلدنا؟ ولماذا نموت؟ وهل لحياتنا من هدف؟ وُلدنا لنُجمِّل عالم الله، كما تُجمِّل الورود الطبيعة، سنة عن سنة، في بداية كلٍّ ربيع. هكذا نحن البشر، فكلُّ مولود جديد هو وردة جديدة في حقل الرّب. ذبول الوردة من بعد ما جمّلت العالم، لا يعني فناؤها، بل هي تبقى حية تحت الأرض لتقوم في السنة القادمة إلى حياة جديدة. هكذا موتنا عند الله، فسيتبعه حياة جديدة، أكّدها لنا يسوع بقيامته. فالعالم حميل لان الله فيه.

 

بين يدي كتاب بعنوان: الشخصيات التي غيّرت العالم. هذا الكتاب يذكر الشخصيات التي عاشت قبل وبعد المسبح إلى يومنا هذا. يذكر كل شخصيّة قالت أو اكتشفت أو اخترعت شيئا استفادت منه البشرية كلُّها وجعلتها مشهورة ومعروفة، لكن مهما كثرت هذه الشخصيات وتعدّدت تبقى شخصية يسوع الأقوى والأكثر معروفة قي جميع أنحاء العالم. أمّا ما نعرفه عنه بل أحسن ما كُتِبَ عنه، فنجده في الأناجيل. نعم هي الأناجيل التي تقول لنا من هو هذا الرجل؟ هو جاء من عالم الله. بميلاده كطفل بيننا، قرّب لنا الله بشخصه، وعرّفنا على من هو الله، إذ هو ابن الله: من رآني فقد رأى الأب. وفي الثلاث سنوات الأخيرة من حياته، أرانا لماذا هو جاء إلينا، وماذا علينا أن نعمل، إذ قد بشّرنا بشارة خير، يحب على العالم أن يعرفها. هذا وقد وكّلنا نحن البشر، أن ننشر هذه الرسالة: اذهبوا وبشّروا العالم بما قلته لكم. حسداَ، لأنه ناقض رؤساء الشعب وراح يكسب أتباعاً أكثر منهم، لجأوا إلى تهديد بيلاطس، بالشكوى عليه إلى روما، حتى أسلمه هذا للصلب كأكبر المجرمين. إننا لا نقدر أن نقول إنَّ كلَّ المحاكم عادلة، فكم من بريء، خاصة تحت الحكومات الظالمة، أُرسِل إلى الموت ظلما! ويسوع هو من هذا النّوع. فمات وقبر، لكنه في اليوم الثالث قام، وهكذا أصبح أكبر شخصيّات العالم، وبالتالي سيملك على العالم كله. ولو أن بعض الّذين انضموا إليه، ومنهم توما، الذي نحن بصدده، أراد براهين لصدق قيامته، فلم يتوانَ يسوع أن ظهر له وقدّم له كلَّ ما طلب من براهين، فأعلن إيمانه: ربّي وإلهي!

 

إنّ الشاهد مهمُّ، خاصّة في عالم الأفلام، في توضيح أمور كثيرة غامضة لذا ففي أفلام القتل أهم ممثّل في كل القصة هو شاهد العيان، فكم من مقابلة تتمّ معه يُطلب منه وصف ما شاهد، وذلك ليُهوّن على الشرطي اكتشاف المجرم. ما عرف التاريخ شخصيّةً تساءل وتجادل النّاس حولها مثل حول يسوع. مَن أنت سأله التلاميذ المرسلين من يوحنا؟ هل أنت ملك؟ كان سؤال بيلاطس. وفي كلِّ عصرٍ تأتي السؤالات عن هذا الجانب أو ذاك منه. وأمّا الوجه الحقيقي ليسوع، فلم يُكْتَشف بعد حتى اليوم. كثيرون يرون فيه رجلا مثاليّاً، أما أنّه مات فداء عن الشعب وخلاصه، فهم لا يريدون الاعتراف بهذا الحدث.

 

لكن بالمقابل هناك فئةُ أخرى، لا تقدر أن تصمت على هذا الافتراء، بل تعطي شهادة عيان شخصية، تؤكِّد رؤيتها وحديثَها مع القائم من الأموات. منهم بوحنا وبطرس. ثمّ النسوة، وها بولس يتحدّث عن ظهور القائم من الأموات لأكثر من 500 شخص، أكثرهم أحياءٌ يُرزقون. ثمّ لكيفا، ثُمّ ليعقوب. ثمّ لكلِّ الرسل. وآخر الكل له بالذات (1 كور. 15:15)، ويقول بالتالي: إنّي سلَّمتُ إليكم ما قد تسلّمته أنا أيضا من الرّب.

 

والان، هل كلُّ هؤلاء الشهود كذبة؟ هل كانوا سيموتون شهداء لشيْ غير صحيح، لكذبة صارخة؟ بل أليست هذه الأقوال الشخصية، براهين كافية وقاطعة لإثبات قيامة يسوع من بين الأموات، ولتصديقها وتصديق شُهود العيان هؤلاء؟

 

من يقرأُ العهد الجديد بتمعّن، سيكتشف أن يسوع هذا هو النّبي المٌنتظر ومخلِّص البشر، ذاك المُخلِّص، الّذي وعده الله في الفردوس بعد خطيئة آدم وحوّاء، إذ نكتشف أنّ الخٌطّةَ الّتي قرّرها الله، ما تحقّق منها أي شيء، ولا في أيِّ نبيٍ آخر سواه. حتى عند موته أعلن: قد تم.، أي قد تمّم في جسده ما كان الله خطَّطه له مُسبقاً.

 

لقد أنهي يسوع مقابلته مع توما بالعبارة: طوبى لمن يؤمن بأقوال الله وبشهادة شاهدي العيون، وهو لا يرى، إذ الاعتماد على الله ممكن، إذ كلّ ما يقول هو حق، ويمكننا أن نهديه الثقة العمياء، إذ الإيمان هو إنّي عارف بمن أثق وأُومن، أي بيسوع.

 

الإيمان لا يُمكّنُني أن أربح اليانصيب، لكنّه يساعدني على أن أكسب الحياة الأبديّة. إذ من آمن بي، يربح الحياة الأبدية. بل من أمن بي سينال الحياة الأبدية، حتى وإن مات. آمين