موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٠ أغسطس / آب ٢٠٢٢

سأله أحدُهم: هل الّذين يخلصون قليلون؟

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
الأب منويل بدر

الأب منويل بدر

 

الأحد الحادي والعشرون (لو 13: 22-30)

 

هل يهمُّنا فعلا أمر خلاصنا جدّياُ، لا كما تقول أُغنية الكرنفال الهزلِيّة: كلُّنا كلُّنا صالحون، لذا فكلُّنا سندخُل السماء! تُرى، هل دخول إلى السّماء بهذه السُّهولة بدون عمل أي شيء؟ كم هو عدد الخالصين أو الهالكين؟ عدد المسيحيين يبلغ اليوم 1.7 مليار من سكان الأرض. فهل الّذين يخلصون هم فقط المسيحيون؟ والهالكون هم كلُّ الباقين من يهود ومسلمين وشيوعيين ووثنيّين. هل أولويّة الدّخول إلى السّماء هي للمسيحيين فعلا دون غيرهم؟ هل في أيديهم فعلا كرت الدّخول الأكيد؟ هذا وإن كان كذلك، فما هي المعايير للدخول إلى السّماء؟ هذه السؤالات تُراودُنا اليوم بعد سماعنا إنجيل هذا الأحد. فالقديس سيبريان الأفريقي كان قال في القرن الثالث: لا خلاص خارجاُ عن الكنيسة الكاثوليكية. فهو لم يكن يعلم، كم من احتجاجات ستقوم على قوله، وكم من انتقادات سلبية سيتعرّض لها لاحقاّ. إذ هذه مقولة لاهوتية مغلوطة، تتعدّى على تعليم الإنجيل ومحتوى تبشير الكنيسة الرّسمي، لأنّ سيبريان يقتصر عمل الله الخلاصي، على الكنيسة الكاثوليكية والإيمان الكاثوليكي. وهو يُعلي شأن الكاثوليك دون غيرهم. لكن هذا الادّعاء لا مكان له في الدّيانة، إذ أنّ إرادةَ الله هي أن يخلص جميع البشر وإلى معرفة الحق يُقبلون (1 تيط.4:2). فلا يجوز لا للكنيسة ولا للكاثوليك، أن يحتكروا الخلاص على أتباعهم، إذ المسيح قد مات عن الجميع ويريد أن يُخلِّص الجميع.

 

هل هم كثيرون الّذين سيخلصون؟ لا أظن أنّ هذا السّؤال اليوم يأتي على شفاه أحد، إذ مَن عاد يسأل عن الخلاص أو الهلاك؟ الإنسان يهتمّ جدّاً بأمانة حاله الصحّية، ولا يريد تعريض نفسه للخطر، بل يُفتِّش دوماً عن الأمن والأمان، وقد يُكلِّفُه هذا أحيانا مبلغا ماليا، إن كان شخصيّة مرموقة، إذ يضطرَ لتوظيف حراسة خاصّة حوله. لا سيّم افي الظروف الحالية، حيث كثر الإرهاب بأشكاله التخريبيّة.

 

السّؤال: لماذا يشعر الإنسان اليوم بضرورة حماية نفسه؟ الجواب لا يحتاج إلى تساؤلات وتكهّنات، بل هو بسيط، وهو لانَّ الحياة ثمينة، وفريدة، فيحاول كلُّ واحد، أن يحميها بقدر الإمكان من المخاطر الخارجية. الغريب أنَّ الأغلبية لا تفتكر إلا بمصير الحياة الخارجيّة، يهتمون لها بالمأكل والمشرب، ولا يفتكرون بأن فيهم حياة أهمَّ من الحياة الخارجية، هي حياة النفس، وهذه يجب الدفاع عنها والحفاظ عليها كبؤبؤ العين. فيبدو إذن أنّ هذا، كان يهمُّ الذي سأل يسوع، فهو ككثيرين غيره في ذلك الزّمان، كان يهمّهم فعلا خلاصُ نفوسهم. كبف يمكنني أن أشاطر الله حياته؟ كيف يمكنني الدّخول في ملكوت الله، حسب كلمات يسوع: أٌطلبوا أوّلا ملكوت الله وبرّه والباقي يُزاد لكم (متى 33:6).

 

ففي جوابه، الّذي يبدو وكأنّه تحذير لسائله، يقف يسوع ضدَّ أفكار البشر الخاطئة، أي ليقول لهم، إن خوفهم لعدم الدّخول إلى السّماء، هو من جهة غير مُؤسس، ومن جهة ثانية أيضا لا يحق لهم الاعتقاد، أنّ السّماء هي في متناول اليد ولكلِّ واحد، دون شرط أو قيد. فهذا اعتقاد خاطئ، إذ ليس كل من يقول: يا رب! يا رب! يدخل ملكوت السّموات.

 

بالقرب من أسيزي على جبل سوباسيو Subasio، حيث أسّس فرنسيس رهبنته، توجد كهوف صَخريّة صغيرة، كان فرنسيس مع أعضاء الرّهبنة الابتدائية يعيشون فيها ويختلون للصلاة. كانت المداخل إلى هذه الكهوف واطئة وضيّفة، فكان على الداخل أن يحني قامته حتى يدخل فيها. فأظن أن هذا يجب أن يكون موقفَنا، حتى نقدر أن ندخل ملكوت السّموات، إذ هذا أيضا كان موقف يسوع، حيث تواضع وصار خادما للكل. فيسوع يُحذِّر المتهوّرين الّذين يفتكرون أنهم لا يحتاجون أن يُجهدوا أنفسهم، حتى يدخلوا السّماء، بل يُحذِّرهم أن يدخلوا من الباب الضّيق. هذا ولا ننسى هنا، الباب الضّيق الذي يقود إلى كنيسة الميلاد في بيت لحم، كيف يجب على الإنسان أن يحني قامته حتى يقدر أن يدخل إليها. فملكوت الله ليس رخيصاً، ولا يقع في حضن الإنسان مجّانا، بل هو يكلِّف جهداً وجهاداً لمحاربة ما يمنع الدّخول إليه، كمحبّة المال، أو التفكير بالذّات فقط، كالفلاح الّذي غلّتْ له أرضُه، فبدل أن يساعد المحتاجين، ما افتكر إلا بنفسه: نامي الآن واستريحي يا نفسي فإنّ لديكِ غلّاتٍ كثيرة لسنين عديدة. فمن لا يفتكر إلا بنفسه، كيف له أن يدخل السماء، وبأيِّ حق؟ إنه لأسهل على الجَمَل أن يدخل في خرم الإبرة من أن يدخل غني ملكوت الله! (متى 24:19).الغنى لا يمنع من دخول السماء، المهم هو ماذا نعمل بالمال، حتى ولو كسبناه بعرق جبيننا، يجب أن نستغلّه للخير: إكنزوا لكم كنوزا في السّماء.

 

بجوابه للسائل، لا يحذِّر يسوع بالهلاك لرجلٍ واحدٍ دون غبره، بل جميع الّذين لا قلب لهم، لا للفقراء ولا للمحتاجين. بينما هو يُشجِّع المتخوّفين عندما يؤكِّد لهم أن السّماء ليست فقط لأبناء إبراهيم الدّمويّين، بل لكل البشر من الشرق والغرب والشّمال والجنوب، إذ ملكوت الله هو عالَمي وللجميع. هذا الملكوت فيه منازل عديدة. فالّذين يدخلونه هم ليسوا أقلِّية، بينما الأكثرية تبقى منفيّة خارِجاً، إذ الخلاص الّذي استحقّه يسوع، يُقدَّم للكلّ، وليس من واجبنا أن نبدأ بجداول إحصائيات وتوقّعات لعدد الّذين سيستفيدون من هذا الخلاص، إذ البشر منهمكون اليوم بغير ما يهمّهم من عدد الخالصين أو الهالكين، بل لربّما السّؤال عن عدد الّذين يدفعون الضرائب أو يحاولون التّملّص من دفعها. وهي أهم لهم من السّؤال عن جهنّم او السماء. حتّى كثيراً من الكهنة عادوا يتحاشون في وعظاتهم، التّطرّق إلى موضوع الجنة أو السّماء، لانّ كثيرين ما عادوا يؤمنون، لا بهذه ولا بتلك. بينما التّوراة فهي لا تتعب مِن التكلُّم عن الجنة وجهنَّم. حتى يسوع مُقدِّم الخلاص والذي يريد الخلاص للجميع، قد تكلّم بكلمات واضحة لسامعيه عن الجنّة وجهنّم، كما وحذّر من خطر الانفصال عن الله. عشر مرّات جاءت كلمة جهنم في الإنجيل على فمه، يُحذِّر الناس منها، هو الرّحيم واللطيف مع الكل، والّذي جاء ليخلِّص الناس من الهلاك. فبما أن يسوع نفسَه يُحذِّر منها، فعلينا نحن أيضا ألا نصمت وننسى أو نتحاشى التكلّم عن جهنم، كما لو أنّها ما كانت.

 

التوراة أصدق كتاب في العالم. فإمّا أن نُصدِّق أن جهنم موجودة، وإمّا أن نعتبرها كتاب تهريج. لكن حاشى وكلا، إذ ما هو مذكور في التوراة هو حق. فجهنّم إذن حقيقة، لذا كان سامعو يسوع خائفين منها، فسأله أحدهم كيف ينجو منها ويدخل الملكوت. في جوابه حذّر يسوع أيضا من أن الباب الذي يقود إلى جهنم واسع وكبير. هو لم يُعطِ أرقاما بل أثبت وجودها. الخطيئة هي التي أوجدت جهنم: يقول بولس "إنَّ أٌجرة الخطيئة هي الموت، وأما هبة الله فهي حياة أبديّة بالمسيح يسوع ربِّنا" (روم 23:6)

 

هذا ولنعلم، أنه ما دمنا أحياء وقديرين أن نقرِّر المصير لذاتنا، فلا تزال السماء ممكنة لكل إنسان وبوسع كلِّ إنسان أن يحصل على مكانه فيها. قبل المناولة يُصلي الكاهن: لا يكن تناول جسدك ودمك دينونة لنفوسنا وأجسادنا، بل لخلاص نفوسنا وحصولنا على الحياة الأبدية، ولا تسمح لنا أن ننفصل عنك أبداُ. فمن ينسى بهذا الصدد كلمة القديس أغسطين: لقد خلقتنا لك يا رب، ولن بتسريح قلبنا إلا فيك. فلكي يكسب الناسُ الخلاص: مطلوب منهم الالتزام الشخصي بخدمة الله، إذ السّماء تُكتسب بالأعمال الصّالِحة، فهي سُّلَّم يعقوب، الّذي بوسعنا أن نصعد عليه وندخل السماء، فهذا هو رجاؤُنا. فمن لا يسعى أن يكون من أبناء الملكوت وأن يقوم بأعمالٍ صالحة، سيطرح في الظلمة الخارجية. هناك يكون البكاء وصريف الأسنان (متى 12:8).."أقول لكم يا أحبائي لا تخافوا. ممّن يقتلون الجسد وبعد ذلك ليس لهم ما يفعلون أكثر. بل أٌريكم ممّن تخافون: خافوا من الذي، بعد ما يقتل، له سلطان أن يُلقي في جهنّم" (لوقا 12: 4-5).