موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٧ أغسطس / آب ٢٠٢٢

رأى كيف يتخيّرون المقاعد الأولى

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
رأى كيف يتخيّرون المقاعد الأولى

رأى كيف يتخيّرون المقاعد الأولى

 

الأحد الثاني والعشرون (الإنجيل لو 14: 1 و7-14)

 

رابّي مسنّ ومريض، زاره طلابه على فراشه وراحوا يمدحون فضائله. قال الآوّل: منذ سليمان ما جاءنا حكيم مثله. قال الثاني: لا ننسى إيمانه فهو قوي كإيمان أبينا إبراهيم. قال ثالث: وأمّا صبرُه فهو أقوى من صبر أيوب. قال الرّابع: وأمّا ثقته بالله فهي قوية كثقة موسى بربّه. فلما تركه تلاميذه، اقتربت منه زوجته وقالت له: هل سمعت كيف مجَّدَك التلاميذ؟ قال حزينًا: صحيح! لكن لماذا أنت حزين؟ قال لأنهم نسوا بساطتي! فلا واحد منهم ذكر بساطتي!

 

إلى جانب الوصايا المسيحية، مِثل محبة القريب واحترام القيمة البشريّة، وحماية السلام والحريّة، هنالك فضيلة مسيحية مهمّة، ألا وهي التواضع والبساطة. قبل سنوات أجرت صحيفة مقابلة مع مطران كانتربري Canterbury اللوثري وسألته: برأيك: ما هي أكبر خطيئة عند المسيحيين، أجاب دون تلعثم: هي خطيئة الكبرياء. فالتواضع يحتوي على كل الفضائل الإلهية والإنسانية: أي المحبة، السلام التسامح والخدمة ببساطة. كما وإنَّ بوسعها أن تصلح الرأي الخاطئ، وكيف يمكن للإنسان أن يتصرّف وسط الجماعة، أن يظهر صغيرًا أي خادمًا، إذ ما إنسان له الحق على مكان شرف. وهو الله الّذي يُعيِّن لكلِّ واحدٍ مكانه في الحياة. فعندما أدعى، يكون المهم ليس المكان الذي سأجلس فيه لكن الدّعوة والظهور أمام الدّاعي. هذا والدّاعي في خطابات يسوع، هو دائما الله. وهذه النقطة هي ما عناه مقطع إنجيل اليوم. يسوغ كان مدعوّاً عند الفرّيسيّين ورأى بعينه اختيار الضيوف للمقاعد، فوجدها مناسبة أن يقول لنا نحن أيضا، وليس فقط لفرَيسيّي زمان يسوع، كيف نتحاشى الإحراج: إن دعيت إلى عرس فلا تجلس في المقعد الأوّل، فلربَّما دُعي من هو أكرم منك، فيأتي الّذي دعاك ودعاه فيقول لك: إخل الموضع لهذا، فتقوم خجلا وتتّخذ الموضع الآخير (لو 14:10). إذ من رفع نفسه وُضع، ومن وضع نفسه رُفع. هذا وحتى لا يحدث فوضى أو سؤ تفاهم اليوم، يجري الجبوس اليوم حول طوائل وكتابة كل أسم ضيف على كرت ووضعه في صحنه.

 

يوجد قصص وأمثال في الإنجيل، منها نطّلع على نوع حياة البشر قبل أكثر من ألفي سنة، فإذا بها هي هي، لا تختلف عن حياتنا اليوم، منها الأطروفة الواقعية، التي شاهدها يسوع، وهي أن البشر، خاصّةً في الشرق، يُحبُون المظاهر، الذين يفتكرون أنّ الحسب والنّسب، مهمَة جدّا، فيفتّشون دائمًا، دون سؤالِ أو جواب، عن المقاعد المٌهمة، مقاعد الشخصيات، التي ليست لهم، وذلك ليَرفعوا من قيمة حالهم أمام الآخرين. هذا التّفتيش عن المقاعد الأولى يتكرّر كلّ يوم، فمَن حصل على مقعد مركزي، كأن حلما بتحقّقُ له في حياته.

 

من هو الأكبر بينكم؟ المنافسة على المراكز الأولى غير مٌقتصرة فقط على دعوة طعام مثلا، بل تشمل كل وجوه الحياة العامة: الاقتصاد، الانتخابات، إنتاج الأسلحة، إشغال الوظائف الأولية، كما افتكر ابنا زبدى وطالبا يسوع بوظيفتين مُهمّتين إلى جانب سيّدِهم، حينما يؤسّس مملكته، التي فهموها خطأً. حتى المكان الثاني صار يُعتبر نوعًا من الفشل لا التّفوّق. على لقاء يوبيل صفٍّ مثلا بعد ثلاثين أو أربعين سنة بعد التّخرّج، نسمع كيف الكل يتباهى بما وصل إليه في تأسيس كذا وكذا. أمّا وإن صدف وما حالف الحظ واحدًا منهم، فكم عليه أن يُبرِّر موقفه قدام رفاقه الآخرين، يهزّون رؤوسهم متشفّين منه، لأنه لم يكافح مثلهم ولم يصل إلى مستوىً عالٍ. فمن لا يجلس فوقًا يشعر باستهزاء المجتمع الكامل عليه، وحسب تعليقات الباقين عليه، كأنّه يجب عليه أن يعتذر.

 

المنافسة في الكنيسة أيضًا، تلعب دورًا كبيرًا، بين الجالسين فوق والجالسين تحت. منافسة بين الدّيانات، منافسة في التنظيم الدّاخلي والخارجي. كل واحد يريد أن يكون أكثر ممّا هو. فالتّصرّف بين المعزومين في إنجيل اليوم وانتقاء المقعد، يصف نفس تصرُّفنا اليوم. كل واحد يريد أن يكون أكبر ممَّا هو. كل واحد يريد أن يجلس أقرب ما يمكن على طاولة الدّاعي، وذلك ليَبْرُزَ بعين الآخرين، بأنّه من المدعوِّين المرموقين. لذا يُحذِّر يسوع من هذا الموقف، ويُذّكِر بما فعله هو في العشاء الآخير. هو السّيدُ والمُعلِّم، أعطى تلاميذه درسًا في التّواضع، حتّى أنتم تصنعون لبعضكم ما صنعته أنا لكم (يو 15:13). الله لا تهمُّه الألقاب والنياشين على الصّدور، كنياشين الشيوعية الكاذبة، التي كانت تمنحها، للتشجيع فقط. المسيحية لا تحتاج إلى كفاح كالرّياضي أو المنافسة. ففي خطابه يقلب يسوع المعايير، إذ في ملكوته نظام آخر. هذا النظام الجديد يختصره لوقا بكلمات مريم: صنع قوّةً بذراعه، وشتّت المتكبّرين بأفكار قلوبهم. أنزل الأعزّاء عن الكراسي ورفع المتواضعين. أشبع الجياع من الخيرات، والأغنياء أرسلهم فارغين (لو 1: 51-54).

 

ففي هذا النّظام الجديد، لا يوجد تقسيم للبشر، بين العالي والواطي، المرموق وغير المرموق، المُهم وغيرال مهم. إذ في ملكوت الله لا يُقال: المظهر أهم من الشكل، أو حسب المقولة المعهودة: معك شيئًا فأنت شيء. لا، لا يوجد شخصيات مُهمة في ملكوت لله. بل في ملكوت لله يعتبر كلُّ فردٍ كما هو، أي خليقة الله، الخالص بموت ابن الله ومحبوب من روحه القدّوس، ومُؤهّلاً، يجلس مع الثالوث الأقدس على طاولة واحدة. فهذا هو الجميل في الديانة المسيحية: بشراها الفرحة السّارّة، أنّها لا تستثني أحدًا، بل هي تُقدِّم الخلاص للكل. وفي كرازاته وتعليمه يُنبِّهنا يسوع، إلى المخاطر، الّتي بوسعها أن تمنعنا من الحصول على مكان في ملكوته، أوّلُها وآخرها الكبرياء، التي تطرّق إليها إنجيل اليوم، والتي ما هي إلا ما قاله يسوع: من وضع نفسه ارتفع ومن رفع نفسه اتضع.

 

التواضع صفة كبيرة، وهو لا يُقارن مع الاستعباد أو الإذلال، بل هو يُري عظمة الإنسان الطبيعيّة وصدقه. من لا يذكر بهذا الصّدد، تواضع المٌمرضة، الأم تريزا وبنات رهبنتها، اللواتي هنا المثال الحي للتواضع والخدمة المجانيّة، محبّةً واقتداءً بيسوع، الوديع والمتواضع القلب. هن يخدُمْن يسوع في القريب، ولا يسألْن كيف يَدْخُلْ السّماء.

 

وكيف نقول عن المُوظّف البسيط في ملجأ العجزة، الّذي لا يحمل ساعة في معصمه، بل لا يترك مكان العمل، إلا بعد أن يتأكّد من أنَّ أهل البيت لا يُعوِزُهم شيء، قبل أن يخلدوا إلى النوم. ألا يُذكِّرنا كلُّ عيدٍ نحتفل به بدعوة الملك لعرس ابنه، مع نظام الجلوس حول طاولة المائدة، وكيف لكلِّ واحدٍ مكانه. المُميّز، إذ الجميع جالسون على طاولة المحبة. فلا أوّل ولا آخِر: إذ كبيركم ليكن كصغيركم، خادماُ للكل: لقد نظر الرّبُ إلى تواضع أمته، البابا نفسه يحمل لقب الشّرف: أنه خادم الجميع، بالمقابل الأم تريزا حملت لقب: فقيرة الفقراء