موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٥ فبراير / شباط ٢٠٢٢

تركوا كلَّ شيء وتبعوه!

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
تركوا كلَّ شيء وتبعوه!

تركوا كلَّ شيء وتبعوه!

 

الاحد الخامس من السنة (الانجيل لو 5: 1-11)

 

إنجيل اليوم يعود بنا إلى أوّل مرحلة من حياة يسوع، حينما ابتدأ حياته العلنية. فها لوقا الانجيلي يصف بداية عمل يسوع في الجليل، بعد أوّل خطابه العلني في المجمع في النّاصرة، وبعد طرده بعض الشياطين، وشفاء بعض المرضى، التي كانت أساس عمل الخلاص، الّذي من أجله كان جاء. وحالا دعا له تلاميذاً، أوّلهم بطرس ليذهبوا مباشرة لخدمة الله في هذا العالم. "تعالوا اتبعوني، أجعلكم صيادي بشر". فمنذ البداية، اهتم يسوع بتوظيف بشر لرسالة التبشير، التي ستكون الاساسيّة، في نشر بشارة الخلاص. هو نفسه كان أوّل مبشِّر: ها أندا أُرسلني! سمعنا من القراءة الاولى من أشعيا، الله بحاجة إلى عُمّال بشر بين البشر، وذلك لنشر البشرى السّارة، التي نشرها في العالم، والتي لا يعرفها الانسان بديهياّ، بل يجب أن يسمع بها، حتى تصل إليه فيعرف حتواها. طوبى لاقدام المُبشِّرين، قال بولس. الكنيسة بحاجة إلى عمّال، إلى مبشِّرين ووُعّاظ، يحملون كلمتها، ابتداءً من أُورشليم وإلى أقاصي الارض. هي تحتاج إلى سفراءٍ يمثّلونها وينوبون عنها، ليُعلّموا ما علّم يسوع في العالم. هي بحاجة إلى علمانيّين ومؤمنين، يَشهدون بكهنوتهم العامّ، الذي حصلوا عليه بقبولهم لسرّي العمّاد والتثبيت، الّلذين يؤهّلان كلَّ من يقبلهما ليُصبح رسولا جديدا في عالمه، ويبشّر بكل ما قال يسوع وعلّم، مثلما هو يفهم، ولنقل مثلما هو يؤمن. الفضلُ، كلُّ الفضل للمجمع الفاتيكاني الثاني، الّذي أبرزَ دورَ ورسالة المُعمّدين والمُثبّتين العلمانيّين في مجتمعهم، والذين ما كان لهم أي دور في التبشير، إذ قيل: هم غير ناضجين للتبشيير، فأعطاهم المجمع دوراً مُهمّا، مثلا كمعلّمي لاهوت ودين أو وُعّاظ في حفلات دينية شعبية، يشهدون، بالقول والعمل، لما فهموا من تعليم يسوع.

 

إن الله لا يُحبُّ فقط عمل الانسان، بل ويريده. نعم هو يُريد إشراك الانسان في العمل الخلاصي. اتبعوني، أجعلكم صيّادي بشر. من هنا أهمّية المرسلين، الّذين منهم أيضاً العلمانيون اليوم، نقرأ من خلال حياتهم وخدماتهم، ماذا يعني كيانهم كمسيحيّين. أعطِ للانجيلِ وجهاً، هذا ووجه الانجيل العملي هو الانسان الحي. فكم هم الّذين يعرفون ذلك؟ بل كم هم المقتنعون بدعوة الله لهم، ليُصبحوا عمّالا فخريّين في الكنيسة؟ تُرى من يشعر بالمسؤوليّة لنشر كلمة الله، قولا وفعلا في حياته اليومية؟ أليستْ كلُّ هذه الاهمالات، هي سببَ أزمة الايمان التي نعيشها، وعدم مصداقيّته في الحياة؟ العمّال قليلون، بل لنقل المبشرون المتطوِّعون هم قليلون. وإن تساءلنا عن السبب، فهو كامن في الدّاخل. الايمان هو كفة ميزان، والكفة الاخرى هي العولمة، أي عدم إدخال الدّين في الحياة اليوميّة. لذا فقط ذاك المملوء من روح الله، وفقط ذاك الّذي اختبر أنَّ الله وحده يُعطي معنىً لحياته، بوسعه أن يُقنع غيره. وبسبب عدم الاكتراث للدّين، كأنّه غيرُ مُهمٍّ، أو غيرُ ضروري للحياة اليوميّة، فيقلّ التفكيرُ في الله  في الحياة اليوميّة، والالتزام بوصاياه.

 

سمعنا في القراءة الثانية من بولس يقول لنا، إنّ الله قد تجلّى لجميع البشر، ودعاهم للعمل معه في حقله، نفتقد أثار نعمته في قلوبنا وفي عالمنا، بل ورحنا نحن نسأله كالكتبة والفرّيسيّين: أيّة علامة تُرينا حتّى نؤمن بك؟ عوامل عديدة، منها الجفاف الرّوحي، الفراغ والانعزال عن الجماعة الفعّالة الناشطة، الالتزامات الدُّنيويّة، النّمط اليومي في حياتنا وعدم التنوّع، تمنعنا من استماع صوته، أو اكتشاف الاشارات التي تقود إليه. فالايمان يعيش فترة صعبة، وزماننا أصعب من زمان النّبي أشعيا، صاحب القراءة الاولى، التي فيها يقول: خلقتنا لك يا رب! لكنّنا كالفرّيسيّين، الّذين كان لهم عيون، لكنّهم لا يروا، ولهم آذان لكنهم لا يسمعوا. هل نحن أفضل منهم؟ الضجّة الصاخبة حولنا سبّبت لنا هذا الجفاف، فما عُدنا نَسمع صوت الله، او انّنا نَصُمُّ آذانَنا، كي لا نُغيِّر أنفسنا لبداية جديدة. وأظنّ أنّ هذا هو السبب الرئيسي، إذ الانسان لا يحب إزعاج نفسه، بل يفتّش عن راحته، حتّى لا نقول كما هو قال لابيه: هوذا أنا، أرسلني! فما زلنا لا نُظهر اهتماماً للدّين، ولا نفكِّر إلا في أنفسنا، فلن نفكِّر في الله، وبالتّالي لن نسمع صوته، وبذلك لن نجد راحة لانفسنا في هذا العالم، لانه كما قال القديس أوغسطينوس: لقد خلقتنا لك يا الله ولن يستريح قلبُنا إلا فيك. الفشل سيرافقنا كلَّ حياتنا، إلى أن نسمع نداء الله، ونجاوبه بكلمات بطرس: على كلمتك يا رب أُلقي الشبكة. أو أيضا كلمة صموئيل: تكلّم يا رب فإنَّ عبدَكَ يسمع. صموئيل لا يختبئ أمام الله كآدم: يا آدم! أين أنت؟ بل يقول: هوذا انا! تكلّم فإنَّ عبدك يسمع! فهذا يعني الانتماء إلى الكنيسة والسّماع لنداء الله، لكن لا يعني جمعية استهلاك لنعمة الله، بل الالتزام بالعمل لما يخصّ الله، وهو في الوقت نفسه العمل من اجل الانسان. الله هو الّذي يُرسلنا إلى البشر، لنظهر لهم محبّته لهم من خلال حياتنا ومثالنا. اين تسكن يا رب؟ فقال: تعالا وانظرا! فهذا يعني ان الانسان بكتشف نفسه ومؤهلاته قرب الله، لا بعيداٌ عنه.

 

مع الله ستثمر حياتنا ثلاثين وأربعين بل وسبعين ومئة. نعم يا رب، نحن نؤمن، لكن قومِّ إيماننا. آمين