موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٨ مايو / أيار ٢٠٢٤

"بدايّة النهايّة" بين كاتبّ سفر المزامير والإنجيل الثاني

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (مز 46 (47)؛ مر 15: 16- 20)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (مز 46 (47)؛ مر 15: 16- 20)

 

أحد صعود الرّبّ (ب)

 

مُقدّمة

 

القُراء الأفاضل، نقترب من ختام الزمن الفصحي بالطقس اللاتينيّ حيث نحتفل هذا الأسبوع بعيد صعودُ الرّبّ. من خلال قرائتنا فيما بين العهدين. بالعهد الأوّل سنناقش المزمور 46 (47)، حيث سنتوقف أمام سرّ الله الملك، الّذي ينتمي علينا ونحن شعبه. بالعهد الثاني سنسمع صوت الصاعد إلى السماء في حواره الأخير، وقبل إنتقاله الدائم ليجلس ملكًا عن يمين الآب، مع تلاميذه. من خلال توقفنا على آيات قليلة من الخلّاصة الطويلة بحسب الإنجيل المرقسيّ ( 16: 15 – 20). يُشكل هذا المقطع براعة الكاتب، حيث يسرد حدث الصعود الإلهي ليسوع القائم مع تسلّيمه التفويض والتوكيل الكامل لتلاميذه لإستمرار رسالته الخلاصيّة من خلالهم، الّذي تستمر فينا نحن اليّوم. نهدف من خلال هذا التساؤل أن نبحث معًا عن معنى عنوان مقالنا "بداية النهاية".

 

1. صَعِدَ اللهُ الملك (مز 46)

 

التصفيق والعزف هو دعوة كاتب سفر المزامير قائلاً: «صَفِّقي بِالأيدي يا جَميعَ الشُعوب إِهتِفي للهِ بِصَوتِ التَّهْليل. فإِنَّ الرَّبَّ عَليّ رَهيب على جَميعِ الأَرضِ مَلِكٌ عَظيم يُخضِعُ الشُّعوبَ تَحتَنا والأمَمَ تَحتَ أَقْدامِنا» (مز 46: 2-4). إعلان تميّز الرّبّ الّذي يتوجب التهليل والتصفيق لأنه تممّ رسالته حاملاً النعم لنا ونحن الّذين نؤمن به. فقد أمّن الإله الأمين حيتنا كشعب ننتمي له من خلال الميراث الأبدي الّذي عينّه هو بذاته: «إِختارَ لَنا ميراثَنا فَخرَ يَعْقوبَ الَّذي أَحبَّه. صَعِدَ اللهُ بِالهُتاف الرَّبُّ بِصَوتِ البوق. إِعزِفوا لِإِلهِنا اْعزِفوا إِعزِفوا لِمَلِكِنا اْعزِفوا» (مز 46: 5-7). في كل مرة يجدد الرّبّ أمانته ويدعونا للبدء من جديد، من خلال وضع نقطة والبدء من أوّل السطر، مما يعني تواصله بجديّة في علاقة فريدة مع شعبه من خلال منحه الغفران. ثم يعلن كاتب المزمور قائلاً: «فإِنَّ اللهَ مَلِكُ الأرضِ كُلِّها. إِعزِفوا لَه بِمَهارة. اللهُ على الأمَمِ مَلَك اَللهُ على عَرشِ قُدْسِه جَلَس. إِجتَمعَ أَشرافُ الشُّعوب: هم شَعبُ إِلهِ ابراهيم لِأَنَّ للهِ تُروسَ الأَرضِ وهو المُتَعالي جِداً» (مز 46: 8- 10). تشمل هذه الآيات إفتتاحيّة لما سنتعمق به بمقطع العهد الثاني والّذي ينوه فيه الـمُرنم إلى إنتصار الرّبّ وإعلان مُلكه فهو الجالس على العرش. وهذا الّذي سيتمَّمه يسوع بإتمّام سرّ صعوده.

 

 

2. بدايّة النهايّة (مر 16: 15- 18)

 

 يختتم مرقس الإنجيلي بشارته بخلاصة مُطولّة، والّتي تكتشف من خلال الدراسات اللّاهوتيّة بأنها قد كُتبت بشكل مختلف، بصيغة مؤكدة، عن باقي الأناجيل وعن سيّاق الإنجيل المرقسيّ ذاته. يروي الإنجيليّ، كمرحلة أوّلى، ظهورات القائم من بين الأموات (مر 16: 9-14)، والّتي تُمثل حوار القائم مع تلاميذه. وفي مرحلة ثانيّة نلتقي بالنص الّذي يتحاور فيه القائم والّذي يسبق صعوده مباشرة، وهو مضمون حديثنا بهذا المقال (مر 16: 15 – 20)، والّذي يرويّ فيه حدث صعود الرّبّ مع الإشارة إلى تنفيذ التلاميذ لأقواله. يحملنا هذا الحدث إلى التركيز على بعض العلّامات اللّاهوتيّة بهذا المقطع المرقسي والّتي تتمركز حول جوهريّة عيد الصعود وتعاونا بالتعمق في بعض العلامات اللّاهوتيّة بحسب الفكر المرقسيّ.

 

نستوحيّ العلامة الأوّلى من خلال إصغائنا للكلمات الّتي يوجهها يسوع إلى الأحد عشر تلميذاً. حيث يبدو أنّ الرّبّ من خلال أقواله بأنّ حدث صعوده هو بمثابة النهاية وقد يُشكل، للوهلّة الأوّلى، إنفصاله عنهم. هذا الحدث الفريد الّذي يرويّه مرقس على مسامعنا اليّوم، لهو روايّة طويلة بدأت في الجليل وعلى ضفاف البحيرة بينما كان بعض من الصياديّن يرتبون شباكهم في نهاية يوم صياديّن بسطاء بحرفتهم وهي الصيّد (راج مر 1: 16-20)، أهي نهاية حقًا؟ النهاية، وإن كانت نهاية سعيدة، لروايّة آلام يسوع وموته وقيامته، لكنها في واقع الأمر، وهذه هي أصدق رسالة عيد الصعود، إذ تُحفزّنا وتدفعنا بشدة للحديث عن بداية جديدة! إنها ليست روايّة تُختتم الآن ثمّ ينتهي الأمر، ولكنها الروايّة الّتي تحمل بُشرى مُفرحة وبإستمرار. هذه الروايّة الّتي يعرضها مرقس، والّتي غيّرت وجه العالم، تتجدد اليّوم لتصل بشارته الـمُفرحة إلى إنحاء الخليقة بأكملها. فقد بدأت البُشرى المرقسيّة هكذا: «بَدءُ بِشارَةِ يسوعَ المسيحِ ابنِ الله» (مر 1: 1). الآن يكرر في نهاية الإنجيل ثانيّة، وهو بمثابة البُشرى السّارة والـمُفرحة بأنّ هذة "البشارة"، الّتي إتخذت وجهًا بشريًا على طرق الجليل واليهودية، لابُدّ وأنّ تصل الآن إلى «الخَلْقِ أَجمَعين» (مر 16: 15).

 

لا يكفي أنّ تصل، هذه الرسالة الخلّاصيّة إلى كل إمرأة ورجل: بل يجب أنّ تصل إلى كلّ إنسان بكلّ الأماكن الّتي بكلّ أنحاء الخليقة. والّتي بحسب قول بولس الرسول: « فالخَليقةُ تَنتَظِرُ بِفارِغِ الصَّبْرِ تَجَلِّيَ أَبناءِ اللّه» (روم 8: 19). إذن نحن كمؤمنين اليّوم لسنا أمام حدث يشير للنهاية ما بل يصير سرُّ الصعود سرّ البدايّة حتى نتجلى نحن أيضًا على مثال الابن القائم، لأن مَن صعد عن يمين الله يستطيع الآن أنّ يملأ ويفيض علينا وعلى كلّ شيء من ذاته (راج أف 4: 10). وهنا العلامة الأوّلى تتمحور في بدأنا كمؤمنين من ذات النقطة الّتي إختتم بها يسوع حياته الأرضية فقط، إذ سيستمر بروحه وبحضوره السريّ فينا وفي مسيرة تبشيرنا برسالته الخلاصيّة.

 

 

3. الآيات العجائبيّة (مر 16: 17- 18)

 

يسرد يسوع بحسب إنجيل مرقس، عكس ما قد يتوقعه المؤمن، إذّ إنّه بعد روايّته سلسلة من العلّامات الّتي سترافق أولئك الّذين يقبلون البشارة الّتي يحملّها التلاميذ، وينتشر الإنجيل وفي أولئك الّذين يعرفون كيف يقبلونه ويؤمنون به سوف يظهرون بعلّامات ملموسة ومرئية في وجودهم: «الَّذينَ يُؤمِنونَ تَصحَبُهم هذهِ الآيات: فبِاسْمي يَطرُدونَ الشَّياطين، ويَتَكَلَّمون بِلُغاتٍ لا يَعرِفونَها، ويُمسِكونَ الحَيَّاتِ بِأَيديهِم، وإِن شَرِبوا شَراباً قاتِلاً لا يُؤذيهِم، ويضَعونَ أَيديَهُم على المَرْضى فَيَتَعافَون» (مر 16: 17–18). سيتم التعرّف على أولئك الّذين ستصل إليهم البُشرى السّارة ويقبلونها، إذ سيتمكنون من طرد الشرّ والشرير بالقوة الإلهيّة الّتي ستسكن فيهم. إذن يسوع سيستمر حاضر من خلال المؤمنين به وتستمر أيضًا أعمال يسوع في حياتهم، والعلامة اللّاهوتيّة الثانية الّتي يشير إليها مرقس هي التكلّم بلغات جديدة. التلاميذ سيصيرون مثل معلمهم الّذين سمعوه سمعوا "كلمة جديدة" مُعلَّنة بسلطان (راج مر 1: 27). إذن الأعمال العجائبية والإعجازيّة الّتي أتمها المعلم في فترة حياته الأرضيّة، مُبشراً بالملكوت، ستصير ذات الأعمال الّتي ترافق تلاميذه بعد إتمامه سرّ الصعود. في هذه الآيات العجائبيّة أيضًا الّتي سترافق حياة أولئك الّذين يقبلون البشرى الـمُفرحة الّتي أعلنها يسوع لتلاميذه هي الإنتصار على الموت. علامة ميزّت حياة يسوع ذاته، بتحقيقه النصر النهائي بعبوره سرّ الموت من خلال قيامته المجيّدة. علاوة على ذلك، إذا تمكّن أي شيء مميت من الإنسان الّذي قبلّ الإنجيل، فلن ينال منه ولن يصير هناك أيّ ضرّر، لأنّ كنزه، هو إيمانه بشخص يسوع ولا يستطيع سوس ولا يفنيه صدأ ولا يسرقه سارقون (راج مت 6: 19-20). آية الشفاء هي الآية الأخيرة شفاء المرضى مثل يسوع، سنتمكن كمؤمنيّن مِن تخفيف مرض مَن يقبل الإيمان بيسوع؛ إذا كان بإمكان الآخرين إيذائنا، فسنجلب لهم نعمة الشفاء بقوة الصاعد إلى السماء. هذه هي الآيات الّتي سترافقنا نحن الّذين نودع ثقتنا وإيماننا في إنجيل يسوع. كل الآيات السابقة الّتي رافقت حياة يسوع التاريخيّ في رحلته من الجليل إلى أورشليم هي بذاتها سترافق أولئك الّذين يؤمنون به. وهذا ما نعيشه اليّوم بعد مرور قرون وأجيال من إتمام يسوع سرّه الخلاصي.

 

 

4. إعلان البُشرى السّارة (مر 16: 19-20)

 

 يُختتم المقطع الإنجيلي بروايّة صعود يسوع الّذي يترك تلاميذه ليجلس عن يمين أبيه. يُنّوه الإنجيلي من خلال ملخص يصف عمل الكنيسة الّذي يتمثل في التنفيذ الأمين للكلمات الّتي وجهها الرّبّ القائم من بين الأموات إلى كلّ الخليقة. إن إعلان الإنجيل ليس عملاً بشريًا فقط، إنّ الرّبّ الّذي صعد إلى السماء لمّ ولنّ يتركنا، بل يعمل معنا «بَعدَ ما كَلَّمَهُمُ الرَّبُّ يسوع، رُفِعَ إِلى السَّماء، وجَلَس عَن يَمينِ الله. فذَهَبَ أُولئِكَ يُبَشِّرونَ في كُلِّ مكان، والرَّبُّ يَعمَلُ مَعَهم ويُؤَيِّدُ كَلِمَتَه بِما يَصحَبُها مِنَ الآيات» (مر 16: 19- 20). إنّ العلّامات الإعجازيّة الّتي يتحدث عنها الإنجيليّ تصبح بمثابة المعيار لتميّيز صدق عمل الجماعة المسيحية وبشارتها الّتي تستمر من خلالنا اليّوم كجماعته في تاريخنا البشري.

 

 

الخلّاصة

 

 نختتم مسيرتنا من خلال قرأتنا فيما بين العهدين نحو مضمون بداءة النهاية، من خلال قراءة العهد الأوّل بالمزمور الـ 46 والّذي يعلن بشدة سرّ صعود الله وتعاليّه على عرشه. وهذا ما حققه يسوع بالنص المرقسي (16: 15-20) من خلال حدث صعوده وتسليمنا كلّ آياته العجائبية. لذا نهايّة حياة يسوع تاريخيًا ستكون بمثابة بدايّة لنا نحن جسده وسنستمر بتبشيرنا الحياتي بسرّ صعود الرّبّ، كما يرويّ مرقس في حدث الصعود الّذي قرأناه معًا، من خلال نقاشنا الكتابيّ في طُرق العالم كنساء ورجال تغيّرنا بفعل قبولنا الإيمان بيسوع، وعَلِّمْنَا بأنّ الرّبّ يعمل بنا ومعنا، نحن تلاميذه في هذا العصر. يُشكلّ صعود يسوع إشارة إلى الهدف الّذي يُدعينا إليه جميعًا. في واقع الأمر، أتمّ يسوع صعوده إلى السماء ليكون هو بذاته الملء لكلّ شيء. إنطلاقًا من حضور الرّبّ الجديد في أعمالنا، نستطيع كمؤمنين أنّ نفهم الرجاء الّذي دُعينا إليه يتجسد من خلال وحدة إيماننا في يسوع ومعرفتنا بيسوع وهو الإنسان الكامل إلى قياس ملء المسيح (راج أف 4: 4). مدعوين اليّوم أنّ نصغي للصاعد إلى السماء من أجلنا وهو يهمس في أذاننا قائلاً ليّ ولك: «اِذهَبوا في العالَمِ كُلِّه، وأَعلِنوا البِشارَةَ إِلى الخَلْقِ أَجمَعين» (مر 16: 15). دُمتم في مسيرة من قبول البُشرى السّارة وبثّها لـمَن يحيط بكم.