موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١٨ مايو / أيار ٢٠٢٢

الروح سيذكركم بكل شيء

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
الروح سيذكركم بكل شيء

الروح سيذكركم بكل شيء

 

أحد الفصح السادس (الإنجيل يو 14: 23-29)

 

قبل ستة أسابيع احتفلنا بأكبر عيد يعرفه العالم، أي عيد قيامة سيدنا يسوع المسيح من بين الأموات. وهو عيد يتطلّب منّا إيماناً قويّاً، لا عاطفيا، كعيد الميلاد للأطفال. فهل نحن لا نزال نتذكّر ما جلب لنا هذا العيد من أملٍ لمستقبلنا؟ ولكي لا ننسى تذكّرنا بذلك الصلاة الجماعية، الّتي تقول: اللهم، امنحنا أن نُواصل الاحتفال اللائق في ذكرى الرّب القائم من القبر، وأن يؤثّر على حياتنا ويحوِّل مجراها... أعني أن قيامة يسوع، التي هي أساس إيماننا، يجب أن تكون أيضا أساسا جديداً لتصرُّفنا اليومي، وإلا لبقيت القيامة حفلة دينية جميلة، لكن بلا التزامات، لا أكثر ولا أقل. إذن ماذا تعني القيامة لحياتنا بل للعالم أحمع؟ هل أحيت فينا الأمل بأنَّ كلّ شيء سيتبدّل لحياة جديدة. سأجعل كلَّ شيءٍ جديدا. نحن نتعرّف على البلاد أو النوادي والجمعيات والأخويات، من خلال علامات خارجيّة مثل العلم الوطني، أو الزّي المُوحّد أو الشعار الرّمزي. وأمّا كيف نتعرّف على المسيحي، فهذا غير مرتبط بعلامة خارجية، كما وأنه ليس اسمه أو شكله، فهو بشر كباقي الناس، أو لأنه يدفع الضرائب الكنسية، فهذا نادر في العالم، إذ هي فقط بعض الدّول القليلة التي تدفع ضرائب كنسية. المسيحي هو بالاختصار، ذاك الّذي يتمسّك بتعاليم الله والكنيسة، ولكن بالأخص يمارس الوصية الجديدة، التي وضعها يسوع مقياسا للكل: بهذا يعرف العالم أنّكم تلاميذي، إن أخببتم بعضَكم بعضاً. نعم هذه هي الإشارة الواضحة، التي تُعرِّف على من هم المسيحيّون أو تلاميذ يسوع: هم من يصفحون ولا يحقدون. فهذه علامة تٌميِّز الدّيانة المسيحيّة عن غيرها من باقي الدّيانات أو من ممارسة أتباعها، كالطالبان أو جيش الدولة الإسلامية داعش، فهذه الدّول لا تعرف كلمة سلام أو محبة القريب بل العكس هي لا تعرف إلا الحقد والانتقام وتمارسها يوميّاً. نقول: المسيحية ليست لباساً نرتديه لبعض المناسبات، وذلك لنيل القبول أو الاحترام من المشاركين، ثم نخلعه بعد الاحتفال، فتعود حليمة، كما يقول المثل، لعادتها القديمة. أما قال يسوع: متى صنعت صدقة، فلا تُصوِّت قدّامك كما يفعل المراؤون كي يمجِّدهم الناس. وإن صنعت حسنة، فلا تعرف يمينك ما تصنع شمالك"(متى 1:6). من هذا النّص نفهم ما معني أن يكون الإنسان مسيحياً. المسيحي هو الذي يُجسّد تعليم يسوع عمليّاً في حياته، في ظُلُمات هذا العالم، كالنّور، الّذي لا يجوز وضعه تحت المكيال، يل على المنارة يضيء على مَن في البيت. وكالملح الّذي يعطي طعما للمأكولات. إذن لا غنى عن حضور وعمل المسيحي في العالم. وكل مسيحي يُرسل إلى العالم، ليشترك في إصلاح ما خرّبته خطيئة آدم، لنقل في وضع حجر ملائم قي بناء العالم الجديد، وأن يجتهد في إحلال السّلام. هذا ما قاله البابا فرنسيس يوم 2007.05.11 قي قداس زيارته للبرازيل، أمام أكبر تجمّع بشري، عاشته البرازيل حتى الإن. على المسيحي أن يكون رجل سلام ويسعى لنشر السلام في محيطه "طوبى لفاعليّ السلام". المسيحي لا بقدر لا أن يُعلن حربا أو أن يحامي عن الحرب أو يُبرِّرَها، دون أن يخسر هويّتَه كمسيحي. إن جورج بوش الابن، والّذي أعلن عن نفسه كمسيحي مقتنع، قد أمضى طيلة الثماني سنوات (2001-2009) من حكمه من حرب طاحنة إلى أطحن: كوسوفو، أفغانستان ثم العراق. إنه لم يُشرِّف المسيحية بشيء، إذ المسيحيّة لا تعرف الحرب، بل حياة بوش كانت خزياً كبيراً على المسيحيّة. لقد قال (يمكن بعد سكرة، إذ كان محبّا للشرب) إن المسيح دعاه ليخلق سلاما وديمقراطية ونظاما جديدا في العالم، لكنّه لجأ إلى الوسيلة المغلوطة، أي باستعمال وسائل القوة، لذا لم يحصل شيءٌ من مواعيده. المسيحي يجب أن يُخرِج ما في داخله، وعلى أيِّ شيءٍ هو قادر. هو الخميرة، التي تُخمِّر العجين كلَّه من الدّاخل.

 

المسيح يُلزِمنا أن نمارس كلمته: من أحبّني يحفظ كلمتي. لوثر قال: نحن نحاول أن نفهم الأسرار الخفية، لكنّنا لسنا قادرين أن نمارس أبسط الوصايا: أجبب قريبك كنفسك! فهل نقدر أن نبني بيتاً بدون أساس؟ للأسف تدخل آذانَنا اليوم كلماتٌ لا تٌعدُّ ولا تٌحصى، فتخنق بينها كلمة الإنجيل، بل صارت غريبة بين كلمات السوشيال ميديا، وعادت تحتاج إلى مُترجم. يسوع كان يعرف أن أزمنة صعبة ستأتي على الكنيسة، التي فيها لن يعمل النّاس بكلمته، أوضحها بولس في رسالته إلى تلميذه تيموثاوس بقوله: "إنه سيكون وقت لا يحتملون فيه التعليم الصحيح، بل حسب شهواتهم الخاصة، سيجمعون لهم معلِّمين مستحكّة مسامعه عن الحق، وينحرفون إلى الخرافات" (2 تيمو: 3:4). هذه الأوقات الصعبة رآها يسوع مُسبقا، لذا وعد تلاميذه ووعدنا من بعدهم، بإرسال الرّوح القدس، روح الحق، ليقف إلى جانبنا ويُذكِّرنا بكل ما علّمنا ويريد منّا أن نعلِّمه.

 

هذا الأسبوع هو أسبوع صلاة التَساعيّة لحلول الروح القدس، فلنشترك في هذه الصلاة المهمّة، طالبين من هذا الرّوح، أن يحلَّ علينا ويقوّينا، حتّى نقدر أن نُغيِّر عالمنا من الدّاخل، ويحلّ عليه سلام يسوع المنشود. سلامي أمنحكم، سلامي أُعطيكم. لست كما يُعطيكم العالم أُعطيكم أنا.

 

القيامة ليست فيلم تمثيلي، كلُّ ممثّل فيه يتخفّى تحت جلد شخصيّة أُخرى ليلعب دورا، غير دوره في الحياة الحقيقية، وبعد انتهاء الفيلم يعود الإنسان إلى وضعه القديم، بل العكس هو المطلوب قيامة يسوع يجب أن تٌغيّرنا وتغيِّر مجرى حياتنا جذريّاً، داخليّاً. فهي تعني ابتداءَ حياةٍ جديدة، في عالم جدّده الله بموته وقيامته، رغم إنّنا لا نري فيه غير حروب ومصائب وحرائق وزلازل وخرابات، فهو يبقى عالم َالله، مكانَ سكناه فبه، وهو يرعاه ولا يسمح أن يحدث فيه ما هو خارج عن إرادته. فمن يحلم بعالم أحسن البشر، بل عنده العالم الواحد، الذي وضعنا فينا، حتى نحن نتحمّل قسماً من المسؤوليّة فيه بل والعناية به وتحسينه وتجديده، فنعيش منه وفيه، ولو بعرق الجبين. مطلوب منّا أن نكون خلائق فصحيّة أي فرحة لأننا نعرف أن الله عمل كل شيء لخلاصنا، فلماذا لا نفرح؟ لا تضطرب قلوبكم، إذ المسيحي هو بالتالي المنتصر، لان المسيج هو المنتصر الأخير حتى على الموت، وهذا يعني أننا سننتصر معه. من هنا الصلاة الجماعية في بداية القداس: اللهم، امنحنا أن نواصل الاحتفال اللائق بأيام الفرح هذه، في ذكرى الرب القائم. آمين