موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١١ فبراير / شباط ٢٠٢٢

التطويبات

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
التطويبات

التطويبات

 

الاحد السادس الانجيل لو 6: 17-26

 

من لا يسمع المديح بكل سرور، خاصة إذا جاء عن صدقِ ومن صديق، فكم بالحري من يسوع نفسِه. إنَّ المديح هو غذاءُ النفس. لقد قال أحدهم: من كلِّ كلمة مديح، أعيش شهرا سعيدا. وما سمعناه اليوم هو مديح وتقدير من يسوع، لمن يرضيه في حياته وفي إيمانه. إنَّ الحياة مليئة بالمناسبات، لنمدح شخصا. هذا ومديح يسوع يذكر ثماني مناسبات يستأهل أصحابها المديح، وقد سمعنا هذه المناسبات، المرتبطة طبعاً بالتّواضع والايمان

 

 فكما هي الحقيقة، وكما نفهم من هذا النّص، إنّ يسوع لا يهنّئ الاغنياء، بل الفقراء والجياع والعطاش ، إذ ماذا ينفع الغنى وتكديس الاموال، ما دام هناك جياع وعطاش بيننا؟ إن موعظة الجبل هي من أشهر ما قال يسوع وعلّم, ومنهم من يرى فيها اختصار تعليمه كاملا. حتى غير المؤمنين يُقدِّرون هذه الكلمات بل يستعملونها في مواقف خاصة. قال عنها ستالين، مؤسس الشيوعية "لوكانت هذه الكلمات مني، لغيّرت بها كلَّ الهالم".

 

ما تلفّظ به يسوع هو ليس جديدا بل هو عبارات وردت كلُّها في العهد القديم، نجدها مُبعثرة هنا أو هناك، جمّعها كلّها في أهمِّ موعظة له، تحت إسم التطويبات، فأصبحت، كما الوصايا العشرة في العهد القديم، وصاياه العهد الجديد الثمانية. هذه الوعظة تريد أن تقول لنا، إننا لسنا وحدنا على هذه الارض، بل هي مسكونة من جميع الطبقات، فإلى جانب الحقوق، علينا واجبات تجاههم جميعا، خاصة الطبقات المُهمّشة منهم: أي الفقراء والجياع والعطاش والمحزونين والمظلومين. فمن لا يهتمُّ بهؤلاء، هو لا يستحقُّ ان يُسمِّي نفسه مسيحيّاً، إذ إنّي لمثل هؤلاء قد أتيت، قال يسوع. هم المرضى الّذين يحتاجون إلى طبيب. فالطبيب الّذي لا يهتمُّ بالمرضى هو ليس طبيباً. من كلمات يسوع نفهم أن قلب الله يخفق للضُّعفاء والفقراء. وهم المُفضَّلون عنده في الملكوت الّذي أتى ليؤسِّسه على الارض.

 

لنتصوّر يسوع واقفاً على هضبة جبل التطويبات، وأمامه المئات من المستمعين، بينهم طبعا هذه الفئة من النّاس، الّذين ما كانت لها قيمةٌ في مجتمعها، وإذا بيسوع بخطابه المهم، يفضِّل هذه الفئات من البشر على غيرهم، هي فئة الفقراء أمام الله والجياع والعطاش والمحزون، والباكين والمُبغضين. هو يفضِّل هذه الفئات على غيرهم ويُعلِنهم طوباويّين، أي أصحابه السُّعداء. هم أنفسهم ما كانوا انتظروا، لا منه ولا من غيره، أن يُمدحوا علناً، إذ هذه الطبقات بالذّات كانت مرذوله ومحتقرة من الكهنة، الّذين كانوا يُذيعون، أنهم وقعوا في هذه الحالة، إمّا بسبب خطيئة شخصيّة أو عائلية، وهذا كان يعني قصاصها من الله، ويجب محاشاتُهم أو الاختلاط بهم.

 

لقد قالوا: إنَّ الانسان يتعامل مع أخيه الانسان، معاملة الوحوش لبعضها، فهو لا يعرف إلا مصلحته ومنفعته، وكأنّه لا يعرف أصلا لمحبة القريب. وكأنَّ يسوع لم يقل: احبب قريبك كنفسك، إذ لا يوجد حبٌّ أعظم من أن يموت الانسان عن أحبائه.

 

إنَّ كلَّ واحدةٍ من هذه التطويبات، تصلح أن تكون موضوعا لكرزاتٍ عديدةٍ بل لِكُتب دون أن تنضب. فبكلامي هذا أريد أن أتطرّق لاثنتين منها، دون نسيان الباقي. أوّلها طوبى لفاعلي السّلام، وليس لمن يقود حروبا، مهما كانت ناجحة، فالحرب تبقى شرّاً، وذلك لانّها لا تحمي الحياة بل تُعرِّض كلّ حياة إلى خطر، هذا وقد تُفنيها، إذ هذه هي نتائج الحرب، كلٍّ حرب. إفناء أرواح بريئة عديدة

 

عندما زار البابا بندكتوس السادس عشر بلده ألمانيا عام 2009، جعل محور خطاباته حماية الحياة. هنا يجب التذكير، لماذا اختار البابا هذا الموضوع، بما أنّ الكنيسة في ألمانيا، منذ الكونكوردات، أي الاتفاقية بين هتلر والفاتيكان عام1933 الذي فيه أُعطيت الكنيسة حكمها الذاتي، بشرط أن تتحمّل بعض المسؤوليات الاجتماعية المستقلّة، مثل إنشاء المدارس والمستشفيات وملاجئ المعوّقين والمُسنّين، ورياض الاطفال حتى تجمع لها الحكومة الضرائب الكنسية. كانت الكنيسة تُدير أيضا مكاتب استشارات باسم الحكومة لحماية الحياة، وتأخذ مقابلها مساعدات مالية. هذا وكانت مكاتب الكنيسة تعطي النساء الحبالى والواقعات في ضيق، شهادة توصية ،يذهبن بها إلى مكاتب الحكومة، التي تسمح بالاجهاض، والتخلّص من الجنين الغير مرغوب فيه. فرغم إنذارات من الفاتيكان، كي تكفّ الكنيسة عن مثل تلك الاستشارات، بقيت بعض مكاتب الكنيسة تخالف مطلب روما، فاتخذ البابا مناسبة زيارته لالمانيا لان يجعل من هذا الموضوع، حيث سنحت له الظروف، ويلقي خطابات بصدد حماية الحياة في كلِّ مراحلها، إذ راحت أيضا بعض الدّول الاوروبيّة تسمح بقتل المرضى والمٌسنّين، إن طلب هؤلاء الموت بأنفسهم. كذلك عنى البابا بكلامه ليس فقط الاجهاض، بل كل القتل على أنواعه، كما في الحروب والابادة المتعمّدة، بالاسلحة الفتّاكة والقنابل السامة  المُدمِّرة كما في هيروشيما ونكازاك وغيرها في حرب فيتنام والعراق, فمن يسمح أو يُقدِم على إعلان حروب كهذه، أو يأمر بإنتاج هذه الاسلحة، لا يمكن أن نسمّيه فاعل سلام. فقد قال الاحصائيّون، إنَّ أوروبا هي مركز إنتاج أكثر الاسلحة الحربية، فيها ما يُقارب 60 مليون طن أسلحة جاهزة. لقد عادت الارض ضيّقة لكثرة مخازن الاسلحة، إذ بوسع الشرق والغرب أن يُفنيا بعضهما بعضا أقلّه عشرين مرّةً بالاسلحة المتواجدة. ليس فقط هذا بل وراحت الدّول الكبيرة تهيءُ أماكن أسلحة مٌتجوِّلة في الفضاء وعلى الافلاك القريبة إلى ألارض. ونقدر اليوم أن نقول أنّه الان اكثر من 3000 حربا طاحنة دائرة في أنحاء العالم، أمضى من الحرب العالمية الثانية. هذا وما يحدث من السياسيّين يمكنه، تحت وجهٍ آخر، أن يحدث في المجتمع البشري اليوم. فهناك أكثر من35 مليون جائع في اليوم وأكثر من مليون عملية إجهاض سنويا (فلنتصوّروا مليون جريمة قتل من الاهل بحقِّ أولادهم في السنة!... فهل نعرف الان لماذا لم يُعلن المسيح أمثال هؤلاء طوباويّين؟ قال فيلسوف يوناني 100 سنة قبل مجيء المسيح،: إنَّ السياسيّين، الجالسين فوق، هم صُنّاع المُجتمع بقوانينهم، للجالسين تحت، وذلك لئلا يفقدوا سلطتهم أمامهم.

 

نقدر أن نقول: إنَّ الاجهاض والتسليح هما فقط وجهي الايقونة، إذ لكل أيقونة وجهان. أمّا إسم الايقونة نفسها فهو العنف.

 

ألا نعرف أنّه دون احترام الحياة، ينهار كلُّ نظام قائم؟ فعلى السياسيّين أن يُدافعوا بالدّرجة الاولى عن حقّ الحياة، حتى المجتمع أيضا يحترمَها، دون لفٍّ أو دوران، بالقول مثلا: هناك حرب عادلة! يا تُرى من قال إنّه توجد حربٌ عادلة؟ وأنّ القتل عادل ومُصرَّحٌ به؟

 

 

إنَّ موعظة الجبل، هي مرفأَ النجاة ضدَّ العنف السائد في زماننا. العنف هو ليس علامة حضارة، بل علامة الوحشيّة، وأنّنا لا نزال نعيش حياة الغاب في القرون الوسطي، حيث كانت القاعدة: العين بالعين والسّنُّ بالسّن. وأمّا ديانة يسوع فلا تعرف العنف، ويسوع ما ميّز في تعليمه، بين القانون العام والقانون الفردي. فحياته وتعليمه كانت في إطارٍ واحد. فموعظة الجبل اليوم، هي ليست اختيارية ولقوم دون قوم، بل للجميع، وتضع الفرد كالمجموعة تحت الامر الواقع: أي إنَّ العالم سيتغيّر إلى الاحسن، فقط إذا الفرد بدأ أوّلا بتحسين نفسه. وليس هي الكلمات السّلميّة التي ستُغيرني وتغيِّر العالم وإنّما الافعال. فمن الضّروري العودة إلى احترام وحبّ الحياة من جديد، ونبذ العنف، وإلا فلن يعرف العالم ما هو السّلام. إذ الحبّ هو أساس السّلام.

 

إن موعظة الجبل هي شهادة على محبّة الله لنا وللعالم، وهي أسمى حكمة بشريّة، لانها تحوي كلَّ الحكمة الالهية، فيها نجد أسمى التفكير الالهي والبشري. كلمة السّرِّ فيها، الّتي بوسعها أن تُغيِّر العالم، هي المحبّة وليس العنف. فكم من تجربة قامت باللجوء إلى الحرب والاسلحة الضارية والعنف للوصول إلى السّلام، لكنّها كلَّها فشلت، إذ هي ليست من تعليم يسوع. منذ أكثر من ألفَي سنة، خيّبتنا حكوماتنا، بإقناعنا بأنَّ الوصول إلى السّلام هو وليد القوّة،  كما قال الرّومان: إن أردت السّلام فتهيأ للحرب! لكن أي سلام هم يعنون؟ يهذه أوهام، أو كما يقول المثل: هذا حصرمٌ رأيته في حلب!

 

أمّا كيف نصل إلى السلام ومحبة الله، فلنا مثل في قصة تصرّف شعب الله مع ربه. فهو كل مرّة كان لايحافظ على الوصايا وتحذيرات الانبياء، كان الله يقاصصه ويُسلمه للعبوديات المتعدِّدة، وكل مرّة كان يتوب، كان يُحرِّرُه منها ويرجعه إلى هيكله في أورشليم. فهذا يبرهن لنا، كم هو ضروري التمسُّك بتعليم يسوع وإنذارات التوراة. فإمّا مع الله وإمّا عليه. فهذه أيضا قصّة حياتنا. إن عشنا بحسب موعظة الجبل، واحترمنا وصاياه، سننتصر على كلِّ شرٍّ، وبكلمة سيحلُّ السّلام بيننا. آمين

 

 

التطويبات

 

طوبى للفقراء

آخيرًا، واحدٌ يَمْدَحُ الفُقْرَ عَنْ صِدْقٍ لا الغنى

إذِ المالُ يُتْعِبُ البالَ، ولا يَجْلِبُ للغَنيِّ الهنى

 

طوبى للحزانى

آخيراً، واحدٌ يَفْطَنُ لِمُنْكَسِرِ القَلْبِ والحزين

الشُّعورُ مَعْهٌ بَلْسَمٌ، وما بسواك هو يستعين

 

طوبى للودعاء

آخيراً، واحدٌ يَفْطَنُ للوُدَعاء لا للمتكبرين

إذِ الأعمالُ بالنِّياتِ، لا بِقُوَّةِ المتعجرفين

 

طوبى للجياع

آخيراً، واحدٌ يَفْطَنُ اليومَ للجِياعِ بل وللعطاش

في عالَمٍ لا يَعْرِفُ إلّا البُخْلَ والمالَ، بلا نِقاش

 

طوبى للرحماء

آخيراً، واحدٌ يَفْطَنُ للمُسامِحيِن الكُرماء

إذِ التّسامُحُ أعلى قِيمَةً، مِنْ نَقْمِ الشُّرفاء

 

طوبى لأنقياء القلوب

آخيراً، واحِدٌ يُبَجِّلُ القَلْبَ والعَقْلَ النّظيف

في عالَمٍ يُبَجِّلُ الشّرَّ، على الحُبِّ العفيف

 

طوبى لفاعليِّ السلام

آخيراً، واحدٌ يُنادي بالسّلامِ ليس بالكلام

صاحِبُهُ ابنَ الله يُدْعى، فهذا قِمَّةُ السلام

 

طوبى للمطرودين

آخيراً، واحِدٌ يفطن لأَلَمَ المُهَجَّرينَ بلا وطن

فَيَعِدَهُمْ بالْوَطَنِ الحقيقيْ، حَيْثُ يَحْلو السكن

 

طوبى لكم

آخيرًا، واحِدٌ مِنّا عاشَ مِثْلَنا العارَ والإضطهاد

يُكَفْكِفُ عنّا مَرارةَ الحِقْدِ، لِيَنْقُصَ لا أن يزداد

 

أحبّوا أعداءكم

آخيراً، واحِدٌ يقول لنا أحبوا ليس فقط أقرباءكم

بل اسْعُوا بأَمْثالِكُمْ، أنْ تُحبّوا كَأنْفُسِكُمْ أعداءكم

 

كبيركم صغيركم

آخيراً، واحِدٌ يقولُ لِيَكُنْ كَبيرُكُمْ خادِماً بينكم

إذْ لا قِيمَةَ لِلْحَسَبِ والنَّسَبِ عِنديْ، أَنا ربكم

 

ماذا ينفعكم المال

آخيراً، واحِدٌ يقولُ لا يَنْفَعُ  تَجْميعُ المالِ هنا

إنْ لَمْ يَكُنْ لِشِراءِ الملكوتٍ مُسْبقاً، عِنْدَ ربنا

 

طوبى لكم إذا آمنتم

آخيراً، واحِدٌ يقولُ مَنْ آمَنَ بيْ لَنْ يموت

فالإيمانُ حياةٌ تَجْريْ في العُروقِ، ثُبوت

 

إفرحوا فأجركم عظيم

آخيراً، واحِدٌ يقولُ افرحوا فأجْرُكُمْ عظيمٌ عند أبيكم

سِتنالونَ عَنْ كُلِّ عَمَلٍ أَجْرَاً، بِوَزْنٍ سوف يرضيكم

 

 

تمَّ نظمها يوم السبت 2022.01.29

أذيعت لأول مرة من راديو مريم الثلاثاء 2022.02.01