موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٨ مارس / آذار ٢٠٢٢

إن لم تتوبوا تهلكوا جميعكم

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
الأب منويل بدر

الأب منويل بدر

 

الأحد الثالث للصوم (الإنجيل لو 13: 1-9)

 

الأربعين يوما قبل عيد الفصح، كانت تُدعى لمدَّةٍ طويلة، زمن الصّوم الأربعيني. لكن ومنذ الإصلاح الليتورجي بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، أُعْطِي إسم التوبة الأربعيني. إذ الصّوم لأسباب عديدة، منها الإجهاد في العمل والوظيفة المُضنية، التي تتطلّب قوّة جسميّة، لا يقدر الإنسان أن يحتملها لمدّة طويلة، أصلحت الكنيسة هذا القانون القاسي، فما عاد الصّوم عن الطّعام، الطّابع الأساسي الرّئيسي في هذه الفترة، بل دينيّاً هو مُقتصر على يومين إلزاميّين فقط، وهما بدايته، أي أربعاء الرّماد، ويوم الجمعة الحزينة، مؤاساةً ليسوع بيوم موته. لكن للاستغراب فقد أصبح للصّيام شعبيّة كبيرة، وذلك كطريقة مُحبَّذة للوصول إلى النّحافة وتخفيف الوزن الزائد، حيث أصبحت هواية الكثيرين في الإجازات مثلا، أو العُطَل الطّويلة، الأكل والشرب، فيزداد وزنهم بفترة قصيرة، لذا فيجب التخلّص من هذا الوزن الزائد بالصيام. فهذا النوع من الصّوم، لا يمكن اعتباره صوماً دينيّاً، أذ هذا ليس في الوارد، وليس هو المعني.

 

بتغيير التّسمية تقصد الكنيسة أيضا إعطاءَ أهمّيّةٍ أكبر، لمعنى الصوم الرّوحي، ألا وهو الصّوم عن الخطيئة ومُغرياتها، وذلك بإعطاء الإرادة دوراً قياديّا، بمحاربة ميولنا إلى الشّر، وهذا ممكن باللّجوء إلى الوسائل الرّوحية المعتمد عليها، وهي تكثيف الصلاة وقراءة التوراة، وليس فقط في المناسبات، "صلّوا كلَّ حين. أو أيضاً: صلّوا ولا تَملّوا،" كان يسوع قد قال. هذا ولا ننسى ممارسةَ أعمال الرّحمة الّتي منها الصدقة. أما التوبة والاعتراف بالخطايا، التي أصبحت نادرةً ممارستُهما، علما بأنها أهم من الصوم عن الأكل والشرب في الصيام. سبب عدم ممارستها هو معروف، وهو ضعف الإيمان في القلوب، فضاع معه معنى الخطيئة، لذا قلَّ التقديرُ والاحترامُ لله ووصاياه. هذا يعني إهمال توبيخ الضمير المعروف فينا، حيث هو الّذي يجعلنا نميّز بين الخير والشّر. لذا ما عاد الضمير فينا يشعر بذاك التوبيخ، عندما نخالف الوصايا أو نقترف أيّة خطيئة، وبالأخص لا يريد الإنسان أن يُقِرَّ أمام الأخرين أنّه خاطئ. الإيمان هو بمثابة ميزان الحرارة للحياة الرّوحية. فزمان الصيام بوسعه أن يُحيي الإيمان في قلوب الكثيرين.

 

إنَّ مُهمَّة الكاهن الرئيسيّة تقوم، من أسبوع إلى أُسبوع، على التبشير، وأهمّه الوعظة في قداديس الآحاد والأعياد، خاصة آخر الأسبوع، حيث جمهور الحاضرين والمستمعين، يُمثِّل جميع طبقات الرّعايا. لذا فَهَمُّ المبشِّر، هو أن يلاقي كلَّ آخر أسبوع، الموضوع المناسب، ويشرحه ببساطة بالكلمات السلسة وبالطريقة، التي تلقى قبولا في القلوب، وخاصّة تساعد على تقوية الإيمان، وهذا هو الأهم: " فبُهتوا من كلامه لأنه لم يتكلّم أحد مثله. وبالرّغم من ذلك، فإنَّ قلوبا كثيرة، رغم ما تسمع من وعظات وشروحات عن أهمّيّة الإيمان تبقى مُغلقة، ولا تتأثّر به. عبّر عنها البابا القديس يوحنا بولس الأول، الذي جاء مباشرة بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، لكنه ما جلس على كرسي بطرس إلا 33 يوما ووافته المنيّة. ذكر هذا المثل من الهند. قال: أخبرني رجل هندي جلس على شطِّ البحر، أنه أخرج حجراً من قعر البحر وكسره إلى شقّين، فكم كان دهشه كبيرا، حينما اكتشف أن الحجر كان فقط من الخارج مبلولا، وأمّا داخله فكان جافّاً، كأنه ما كان في الماء من مئات السنين. هذا وجاء تعليق الباب على هذا الحجر، قال: هكذا قلوب كثيرة، رغم أنّها تعترف بأنها مولودة في الإيمان، إلا أنَّ الإيمان لا يخترقها.

 

هناك كتاب أمريكي بعنوان: مدينة بدون الله، أليس هذا هو درس الحجر لنا؟ فهو ولو كان من مئات السّنين في الماء، داخله جاف ولم يعرف بوجود الماء. بهذا المعنى قال صاحب المزامير: اليوم إن أنتم سمعتم صوته فلا تُقسُّوا قلوبكم. فوقت الصوم، الّذي نعيشه، هو لخرق القلوب وفتحها لإحياء الإيمان فيها من الدّاخل. لذا فهذا الوقت مهم. وأهم ما يمكن أخذَه بحدّية، هو إعطاء التوبة مكانا أوّلِيّاً، إذ بدون التّوبة، لا معنى، لا للصوم عن الأكل والشرب، ولا للحياة الرّوحية. فلو لم تكن التوبة مهمّة، لما شدّد يسوع على ممارستها: إن لم تتوبوا تهلِكوا جميعكم.

 

وكما سمعنا قبل قليل، فهو لا يتوانى عن معرفة الحقيقة، ويُسمِّي الخطيئة باسمها. فلو لم توجد الخطيئة، لما أتى هو ولا كان بحاجة لان يموت، بل تجسُّدُه ما كان ضروريّاً. ففي صلاة قانون الإيمان نقول: تجسَّد من أجلنا ومن آجل خطايانا. هذا وبولس يوضّح ذلك بالتأكيد، أنه برجلٍ واحدٍ دخلت الخطيئةُ إلى العالم، وبرجل واحدٍ مغفرةُ الخطايا. فللتخلّص من هذه الخطيئة، تعطينا الكنيسة المُناسبة، أثناء هذه الأربعين يوما، لممارسة أعمال توبة واضحة، تعتمد على قوّة الإرادة بالامتناع عن الشر. الإنسان هو أعلى المخلوقات وتاجها، لكنّه يبدو أضعَفَها أمام الشر. فالآن قد حان الوقت لِيُبدع بعمل الخير.

 

في بداية تبشيره يجعل يسوع من التوبة، العامل المهم، للانتماء إليه وإلى ديانته: توبوا وأمنوا بالإنجيل فقد اقترب ملكوت الله، وإن لم تتوبوا تهلكوا جميعكم. هذه كانت أوّل كلمات تلفظ بها في بداية حياته العلنيّة. فمن المُؤكّد، أنّه فقط ذاك الذي يتوب، بوسعه أن يقبل ملكوت الله. أنا أعتقد أنَّ يسوع لمّا قال هذا، كان مُسبقاً عارفاً، بأنّنا نستطيع أن نتوب، وهو فقط ذكَّرنا بذلك. لذا قال: إن لم تتوبوا. فمصيرنا ليس مُقرّرا سلفاً الهلاك، بل هو مرتبط بالاحتمال وبالشرط: إن... وهو دائماً يُعطينا المناسبة، لنتوب ونرجع إليه ونبدأ حياتنا من جديد. هذا ولنا بمثل التّينة خير برهان. إذ أيُّ فلاح او بستنجيٍ خبير، لا يأخذ الفأس ويقلع الشجرة اليابسة في حقله، إذ وجودُها لا فائدة منه. بينما راعي بستان الله لا يعرف اليأس، بل عنده أمل لآخر لحظة، ولا يقول: فات الفوت. بل يتّصف بالصبر والأمل؟ فليس هو الله الذي يبعث الألم، بل هم البشر أنفسهم، الّذين يجلبون الألم على أنفسهم، حينما يسيرون على طريق غيرُ طريق الله. فنقدر أن نقول، إن وصل الألم قمّة مُعيّنة، فهذا برهان على أنّهم لا يحبّون الله، وهذا صراخ لنا كي نعود إلى التوبة، الّتي عمل يسوع لها دعاية كبيرة في بداية إنجيله، وهي التوبة ومصالحة الإنسان مع قريبه ومع ربّه. لكن من لا يتوب فهو المسؤول عن مصير حاله، كما حدث لضحايا برج سلوام وغيرُهم، إذ هم المسؤولون عن تسلّق البرج فماتوا. نحن نعرف أنَّ الله يُقدّم لكل خاطئ محبّته، لكنه لا يُجبر أحداً أن يقبلها أو يتجاوب معها. هذا لا يعفي من المسؤولية، الفردية والعمومية: أتظنون أن هؤلاء أكثر خطيئة من غيرهم؟

 

وهو دائماً مستعِدٌ لمنح الغفران لمن يطلب منه: خطاياك غُفِرتْ لك. قم احمل سريرك وامشِ. فإنَّ مَن يُهدي يسوع الثقة الكاملة، يحصل على الخلاص، ويجد معناً لحياته، إذ الحياة بعيداً عن الله لا معنى ولا هدف لها، إذن جامدة فارغة. الإنسان يُفتِّش عن السّعادة، لكنه لا يجدها إلا في اتّباع يسوع وتعاليمه. والتوبة هي من أسلم الطُّرق للوصول إلى السّعادة وربط صداقة متينة مع الله. هذا فبتحذيراته وأمثاله، كان يسوع يدعو تلاميذه، وكلَّ الّذين كانوا يريدون أن يتبعوه، إلى التوبة وتغيير مجرى الحياة، مُحذّراً من التّبرير الذّاتي، والتّخلّي عن عدم تجمُّل المسؤوليّة. مؤكِّداً تحذيرات الأنبياء قبله، فلا مكان لللامبالاة وموت الضّمير. إن لم تتوبوا، تهلكوا جميعكم.

 

إنّ رسالة ولغة ومهمَّة الكنيسة في هذا الزّمان، هي التذكير بكلام يسوع عن التوبة وتغيير السّلوك، بما نسمّيه الصيام الرّوحي، إذ هذه هي علامات وواجبات المسيحي طيلة حياته، ليس فقط كلاما بل مُمارسة واشتراكاً بالصلاة المكثّفة والاستماع لكلمة الله، وخدمة القريب. فهذا الوقت هو أحسن تحضير للمصالحة مع نفسناـ مع قريبنا ومع الله. فما هو خزي أو عار أن يُقِرَّ الإنسان بخطئه. لكل شيء وقتُه. والان هو وقت التوبة. آمين

 

 

بستان الرب

 

ها قد حلَّ فصلُ الرَّبيعِ أروع الفصول

فيه يبدأُ الّليلُ يَقْصُرُ أمّا النّهارُ فيطول

 

كان في غفوةٍ أمْضاها في البَرْدِ والظلام

أمّا الآنَ فقامَ على أنغامٍ حُلوةٍ دُونَ كلام

 

فَتَحَ العَيْنَ وإذا بالسُّهولِ والجبالِ والغابات

هِيَ غيرُ ما كانتْ عليهِ قَبْلَ أشْهُرٍ وساعات

 

كأنَّ يداً خفِيَّةً مِنْ تحتِها أسْقَتْها فَنَمَتِ الأوراق

وراحتِ الورودُ تَلْمعُ لا مثيلَ لها في الأسواق

 

فالأشجارُ أَرْعَلَتْ وامتلأتْ أغصانُها بالحياةْ

تتمايَلُ مَعَ النَّسيمِ وتِرَقْصُ صامِتَةً بانحناآت

 

الحُقولُ اخْضَرَّتْ حتّى قبلَ أن يَبْذُرْها فلاح

إذِ البِذْرُ فيها دائِمٌ ويَخْتَمِرُ خِفيةً بِكُلِّ ارتياح

 

يَنْتَظِرُ حرارةَ الشَّمْسِ لِيَبْرُزَ إلى حَيِّزِ الوجود

فَيَصيرَ مَراعٍ خَصْبَةً للمواشِي لِشُهورٍ لا تعود

 

الوِديانُ تَحْتَها لا تزالُ بغُيومٍ مُغَطَّاةً مُكثّفة

أمّا رؤوسُ جِبالها فبِشُعاع الشَّمْسِ مُشَرَّفة

 

ماذا نقولُ عَنِ الغاباتِ الكثيفَةِ أمامَنا وحولنا

هِيَ جنّةٌ لا تُوصَفُ بِسَماءٍ زَرْقاءٍ من فوقِنا

 

فلا صُراخُ ولا ضجيجُ إِذْ لا ساكِنُ فوقَ الجبال

بَلْ هُناكَ تَشْعُرُ بالهدوء فالنَّسيمُ لا تَشُدُّهُ الحبال

 

هُناكَ تَبْدأُ بالتَّأمُّلِ بالعَقْلِ والقَلْبِ إِذِ العالَمُ شاسع

لا تراهُ بالعَيْنِ المُجَرَّدَةِ بَلْ بِعَقْلِ الخالِقِ الواسع

 

ما أجْمَلَ التَّأمُّلُ في الطّبيعّةِ إِنْ دَبَّتْ فيها الحياة

في التَّأَمُّلِ تَسْتَريحُ الأعْصابُ وَهْوَ للتَّعَبِ نجاة

 

فوقَنا تَتَراقَصُ الغُيومُ بَيْنَ زرقاءٍ وبيضاء

لا ضَجِيجُ لها أما مهمتها فتزويدنا بالماء

 

ولمّا تَنْفَتِحُ الغُيومُ مِنْ فوقِكَ وينْزِلَ المطر

على العُشْبِ ويَسْتَقِرُّ تَحْتَها يَنْتَعِشُ الشجر

 

الماءُ تَبْقى صافِيَةً وإنْ غابَتْ عَنِ العيون

واخْتَفَتْ فيْ دِهلازٍ َعميقٍ فماؤه مخزون

 

لا نَعودُ نتكلَّمُ عَنْ حُدودٍ للعالَمِ من فوقنا

ولا عن حدودٍ للخالِقِ فذا ليس مِنْ حقنا

 

رائِحةُ الورودِ مِنْ جَنْبِنا يَنْقُلُها لنا الرّيح

وَهو يجفِّف الحُقولَ لما المَطَرُ يستريح

 

بِشُروقِ الشّمسِ يَتَمَلْملُ النَّحلُ يُريدُ الخروج

لتَجْميعِ الرَّحيقِ مِنْ زَهْرِ الحُقولِ والمروج

 

كما وتَبْدأُ الطّيورُ بأَنْواعِها تُسْمِعُنا زقزقتها

ألحانُها رائِعَةٌ تَرْغَبُها الآذْنُ وتُحِبُّ جوقتها

 

النّفْسُ تشتاقُ دوماً للرُّجوعِ إلى الجَنَّةٍ المفقودة

وإنَّ بستان الرّبّ هُو حقّا تِلْكَ الجَنَّةِ المنشودة

 

فَهَلْ تَرى ما أَجْمَلَ بُستانَ الرّبِّ بناهُ هُوَ الخالق

في الصّباحِ مُزْهِرٌ أمّا في المساءِ فَعِطْرُهُ عالق

 

يُحيي فيهِ زاوِيَةً ثُمَّ يُميتُ أُخرى مِثلما يشاء

ما فيْ ذَلِكَ مَلامَةٌ بَلْ سُنَّةُ الكَوْنِ حياةٌ وفناء

 

رَبُّكَ لا يُفْني بَلْ يَجْعَلُ كُلَّ شيءٍ حَيَّاً جديدا

فافْرَحْ للجمالِ النَّادِرِ فيهِ علَّهُ فيكَ قَدْ يزيدا

 

وافْرَحْ بِأنَّكَ فيْ عالَمِ الخالِقِ تعرف الصلاة

فالأرضُ بُسْتانُهُ وَهْيَ مِنهُ يوميّاً لك َ مُهداة