موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١ مارس / آذار ٢٠٢٢

أُذكر يا إنسان أنّك تراب وإلى التّراب تعود

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
أُذكر يا إنسان أنّك تراب وإلى التّراب تعود

أُذكر يا إنسان أنّك تراب وإلى التّراب تعود

 

أربعاء الرماد (الإنجيل متى 6: 1-6+ 16-18)

 

(العدد 40 هو عدد مقدّس في الكتاب المقدس. فهو يذكّرنا بالـ40 سنة للوصول إلى أرض الميعاد بعد تحرير الشعب من فرعون. يذكرنا بال 40 يوما التي أمضاها موسى على جبل سيناء قبل استلامه لائحة الوصايا. يذكرنا بالـ40 يوما التي أمضاها النبي إيليا بقوة رغيف الخبز من جلعاد إلى جبل الكرمل. يذكرنا بصوم يسوع 40 يوما بعد معموديته وقبل أن يبدأ حياته العلنية. لذا أحبها المسيحيون فيمضون 40 يوما في التوبة والصوم والصلاة، قبل أن يحصل لهم الخلاص بموت يسوع.

 

لقد انتهى وقت الكرنفال، أي وقت الملاهي الشعبيّة المضحكة، وقت التخفّي خلف أقنعة مُزيّفة، للضحك على رئيس العمل أو الجار، دون أن يلاحقهم القانون. فهي أيام مسلّية ومضحكة قبل أن يُباشر الوقت الجدّي في الكنيسة، للاستعداد للاحتفال بعيد الفصح. هي عادات وثنية، مفادها انتهاء فصل الشتاء، فكان الأوثان يقومون بما يخطر على بالهم بالضجيج، لطرد الأرواح الشرّيرة من مخابئها الشتوية. لذا كانوا يحملون الأقنعة، لئلا تعرفهم الأرواح وتنتقم منهم. كما وإنّ دورة الشمس، التي تبدأ تُشِعُّ نورا في الظلام، وحرارة على الحقول، فتدبَّ الحياةُ في الطّبيعة النّائمة، كانت علامةً مهمّةً للفلاحين، حتّى يبدأُوا موسم الفلاحة، فكانوا يبدؤون بحفلات فرح جماعية شعبية وأكل اللحوم. من هنا الاسم: كارنفال أي اللحم، الّذي ينتهي وقته بابتداء زمن الصيام التحضيري لعيد الفصح.

 

فصول السنة الأربعة تجعلنا نعيش الطبيعة عن قرب، بحُلَلِها المختلفة. كذلك فصول السنة الكنسيّة، ففيها نجد المناسبة لنعيش إيماننا بأوجهِه المختلفة. فأنا شخصيّاً أجد هذا الفصل من أجمل الفصول، إذ اسمه يدفعنا للاشتراك الشخصي فيه، فلا يجوز لنا أن نُمضي الأربعين يوماً مكتوفي الأيدي، ولا بدّ من الاشتراك بالصوم والتوبة وممارسة أعمال الرّحمة، وهي المعروفة بالثلاث صادات، أي الصوم، الصلاة، الصدقة، الأخيرة هي اختتام أيام الصيام لمساعدة الفقير والمحتاج، كما ولا ننسى المصالحة مع العدو: اذهب وصالح أخاك، مع تقوية الحياة الرّوحيّة، بقراءة التوراة والصّلاة. فهذا هو محتوى هذا الفصل من السنة الكنسيّة.

 

قالوا: الأيام كلُّها متشابهة. أما أنا فأقول مهلا! يمكن الأيام كلُّها متشابهة كزمان وكوقت، لكن محتواها، أي ما نعمل فيها، فهذا يجعلها غير متشابه عند الكلّ، إذ لكلِّ واحد عملُه ووظيفتُه وانشغاله. وهذا أيضا في الطقوس الدّينيّة، فهي ليست كلُّها واحدة، إذ اليوم، أربعاء الرّماد وأوّل أيام الصوم الأربعيني، نبتدئ زمناً يختلف ضمنياً عن الزّمن قبلَه

 

مع أربعاء الرماد اليوم، يبدأ وقت التوبة الفصحية، هكذا تقول تعليمات الكنيسة الرسمية. أوّل وعظةٍ ليسوع هي وعظة عن ضرورة التوبة، إذ بدأها بالكلمات: توبوا فقد اقترب ملكوت الله! فمن يريد مقابلة يسوع، عليه أن يُغير مجرى حياته. فيوم أربعاء الرماد إذن يوم مهم في مسار الكنيسة، وهو علامة لكل المؤمنين، تقول لهم: حان الوقت، أن تأخذوا زمام حياتكم بيدكم، إذ كما أنذرت التوراة: خلاصك بيدك يا إسرائيل! فلا بدّ أنّ كلَّ إنسان يقف مرّة أمام السّؤال: ما هدف الحياة المهم، الذي يستحق العمل من أجله؟ بل ما هو الهدف الّذي من أجله يحق لنا التضحية بالحياة؟ فلان العلاقات الدينية مع الله خفّت اليوم، يجد الكثيرون أهدافا أُخرى لحياتهم، لكنها لا توصلهم إلى الهدوء والسّعادة. فلا المسكرات التي يقعون فيها، ولا المُخدّرات التي تُنسيهم الهموم، لا ولا الغنى ولا الأفراح الدنيويّة توصلهم إلى السّعادة المنشودة. السعادة هي أن يشعر الإنسان أنَّ احداً يحبُّه وأنه هو نفسه يقدر أن يُقابل الحب بالحب. وهذا ممكن مع المسيح.

 

كلُّ شيْ له بداية ونهاية. اليوم، أربعاء الرّماد، هو بداية الصوم التحضيري، الّذي ينتهي بعيد وأحد الفصح. نبدؤه برشِّ الرّماد على جبيننا، علامة الموت، الّذي جاء بسبب ارتكاب الخطيئة (روم. 15:5) الزّوال والرّجوع إلى التّراب، مع التحذير: أُذكر يا إنسان أنّك تراب وإلى التّراب تعود، جاء على أوّلِ صفحات التّوراة، حيث نقرأ: "وجبل الرّبُّ الاله آدم تُراباً من الأرض، ونفخ في أنفه نسْمَةَ حياةٍ، فصار آدمُ نفساً حيّاً" (تكو 7.2).

 

أُعْطِي هذا اليوم إسمَ أربعاء الرّماد، نسبة للرّماد الّذي كان يُرشُّ على جبين الخطأة، أو أجسامهم وأهمّ فئة هم من قتل وزنى وسرق، وقرّروا التوبة عن أفعالهم ليبدؤوا أيام الصوم الجماعي والتهيئة للعماد ليلة سبت النور. في مثل هذا اليوم كانوا، إلى جانب رش الرّماد عليهم، يرتدون ثوب توبة قاسٍ، من جلد الماعز أو الجمل، لكل هذه الفترة، كما فعل النبي يونان مع ملك وسكان مدينة نينوى، الّذين لبسوا هذه المُسوح (يونا 6:3)، فغفر لهم الله ذنوبهم وما عاد قاصصهم. إن مادّة التجميل هذه غريبة لنا، فعادة ما نستعمل لمناسبة مُهمّة، أدوات تجميل أرقى وأنظف بل وأغلى ثمنا. أما فلبداية الصّوم، التي ستقودنا إلى أكبر الأعياد الليتورجية والكنسية، فنستعمل عامل تواضع عميق، حتى لا نقول، عامل ذلٍّ واحتقار لذاتنا، لكنّه يبقى علامةَ عظمة، عند الّذي يفهم هذه الإشارة: من وَضَع نفسه رُفع، ومن رفع نفسه وُضع. أما قالت مريم: حطّ المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين. فهذه علامة المسيحيّين، أن يقوموا بالدّور المتواضع. أما قام يسوع بهذا الدّور، حيث أنّه ليلة الوداع، قام وأخذ منديلا وجرّة ماء وغسل أرجل تلاميذه؟ وقال: أنا أعطيتكم مثلا، حتى يغسل كبيركم أرجل صغيركم؟! فلا نعجب من أمثال التواضع هذه المطلوبة منّا في بداية الصّوم، إذ الإيمان يقوم على المفاجآت. من زمان المجمع الفاتيكاني الثاني في نصف الستّينات من القرن الماضي، يُدعى هذا الوقت زمن التوبة بدل زمن الصيام. إذ التوبة والندامة كانت، في العهد القديم، بسبب عدم وجود المخلِّص، الّذي لم يكن بعد قد أتى، الطريق المُميّزة للرّجوع إلى الله وكسب رضاه. وصارت أيضا العلامة الرئيسيّة في العهد الجديد، ُ بل محور هذه الأربعين يوما، التي تحتويها كل طقوس وصلوات قداديس هذه المدة. وكما أمضى يسوع أيضاً الأربعين يوما في الصحراء، صائماً مُصلِّياً، علينا أن نمضيها، بالتخلّي عن بعض الكماليات في الحياة اليومية، الّتي تقف حاجزاً في طريقنا، لنعيش حياة مسيحيّةً بسيطة. يسوع أنهى فترة الصيام بإظهار قوّةٍ خارقة بمقاومة تجارب إبليس. فمن يتّحد مع المسيح ويعيش بروجه في هذه الفترة، يخرج أيضا بقوّة جديدة لحياته الروحية. الصوم كصوم، أي الامتناع عن الأطعمة، ما عاد مُشكلة لزماننا، إذ بالنسبة لظروف العمل، فقد سهَّلته الكنيسة وجعلته اختياريّا لمن يريد، وأمّا إلزاميّاً فما يقى منه إلا يومان، هما أربعاء الرّماد والجمعة الحزينة. هذا والمقصود من الصوم، فهو التّخلّص من استعباد المادّة على الرّوح فينا، هو كالتّدريب للتملك على الذات، وتقوية الإرادة على الرّغبات الجسديّة والتّحرّر منها. وبالتّالي الحصول على رحمة الله، الذي كان قال "رحمة أريد لا ذبيحة". أمّا يوم خميس الأسرار فكانت مبدئيا تنتهي لهم فترة الحجر ويتم قبولهم في جماعة المؤمنين. وفي ليلة سبت النّور، كانوا يُلقون عنهم ثوب التوبة القاسي، ويبدلونه بثوب أبيض بعدما يتم عمادهم وحلّهم من خطاياهم، ثم اشتراكهم بذبيحة القدّاس والمناولة. وهذا كان يعني قيامهم مع المسيح لحياة جديدة. إذن ما كان الصيام للتخويف وإنّما للحصول على رحمة الله، والمصالحة مع جماعة المؤمنين!

 

نعم افتكر يا إنسان، اليوم وكل الأيام الأربعين القادمة، أنّك تراب، لكن حتّى تدبَّ الحياة في هذا التّراب، فينقصنا روح الله. لذا فلنحيي روح الله فينا هذه الأيام، لِنُرجِع فينا هُوِيَّتنا الأصلية.

 

في القرن الثامن والتّاسع، كان الرّش بالرّماد مرتبطا بالتوبة العامة للخطأة، الّذين ما كان يحقُّ لهم إلا حضور طقس التوبة في بداية القداس والاستماع لكلمة الله، ثم كان يُفرض عليهم ترك الكنيسة، رمزاً لطرد آدم وحوّا من الفردوس، مع الكلمات: بعرق جبينك تأكل خبزك، حتّى تعود إلى الأرض، الّتي أُخِذْتَ منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود (تكو 19:3). وانتظار مجيء المُخلّص الموعود، الّذي كان يتمُّ للتائبين ليلة سهرة قيامة المسيح من القبر، حيث كان يتمُّ اعتمادهم للحياة الجديدة وحضور القداس والمناولة.

 

الحَكيم كوهيليت يقول: لكلِّ شيء زمانه. للفرح للبكاء للأكل للشرب للرقص للفلاحة وقته، ووو.... ونقول بالمقابل، هناك زمان لتقوية الإيمان. كما ونقدر أن نقوله أيضا عن الكنيسة. فهي تبدأ اليوم زمنا مهمّاً، ألا وهو زمن التوبة مقروناً بالصوم المُتناقل المعروف قبل عيد الفصح. بكلمة هو الزّمان لممارسة الوصية الأولى والعظمى، أي أحبب إلهك لا مصالحك. فللعمل بذلك، لا نحتاج لترك عملنا اليومي والسفر إلى جبل عال منفردين بل في العالم الذي نعيش فيه، بإرادتنا نصل إلى محبة الله وإرضائه بأعمالنا الصالحة. وقد أُوْجِدَت لبدايته عادات تخدم الهدف. إذ الصّوم هو مُمارسٌ في كل الأديان، وهو لا يعني التجويع بل التحضير لحدث مهم في كلِّ ديانة. في مثل هذا اليوم كانت الكنيسة تستقبل الخطأة الناضجين والذين كانوا لم يتعمّدوا بعد في مساكن داخل الكنائس يُمضون فيها الأربعين يوما القادمة بالصوم الصارم والتوبة وسماع شروحات عن الدّين والتّعمّق في قصّة آلام يسوع. وتنتهي هذه الممارسات ذات الأهداف الدّينيّة ليلة قيامة يسوع من القبر.

 

الدّيانة المسيحية تتضمّن ميِّزات، أهمُّها الإيمان، بنشره وممارسته. فزمان الصيام هو الوقت المناسب، للتأمّل بهذه الميِّزة، الّتي ما عادت فعّالة في زماننا، كي نُعيد لها قيمتها التي فقدتها. هذا وأعتقد أننا جيل ضائع بدون الإيمان، إذ مَن وماذا يُسنْدنا في الحياة بعد الإيمان؟ هذا وإننا نبتدئُ هذه الأربعين يوما، بعلامة تواضع، أي برشّ الرّماد على جبيننا، مركز الإرادة فينا، لتقويتها في نبذ الشّر وصنع الخير. إكنزوا لكم كنوزا في السّماء. فهذا هو الوقت، الذي يعطينا المناسبة لتجميع ما يمكن من الكنوز، بتوبتنا عن الماضي والمعاصر: قد اقترب ملكوت الله. توبوا وآمنوا بالإنجيل (متى 17:4). بصومنا الرّوحي أكثر، كما هو مذكور في سفر يوئيل النّبي. "توبوا إليَّ. مزِّقوا قلوبكم لا ثيابكم" يوئيل 12:2) وصلاتنا وتأمُّلنا بقراءةِ التوراة، وبالتّالي بعمل الخير، الّذي له وجهان، أي إمّا بانخراطنا الشخصي، لتخفيف آلام القريب، او ما هو أيضا مناسب، بالتّبرع بقيمةٍ مال، وفّرناها في صيامنا للفقراء والمحتاجين. بهذا كلِّه يُذكرنا أربعاء الرّماد، فأمامنا الآن أربعون يوما لممارسة هذه الأعمال المفيدة لنفوسنا. اطلبوا أوّلا ملكوت الله وبِرَّه والباقي يُزاد لكم" (متى 34:6).

 

في آخر الصيام كانت الوصايا الكنسية السبعة تنصح بالاعتراف والمناولة الفصحيين في هذه المدة. لكن اليوم في كثير من المدن المسيحية الأوروبية، يتهافت النّاس على حضور قداس أربعاء الرّماد، أكثر منه بكثير من أيام الأحاد، وذلك لانّهم يفتكرون على سذاجتهم، أن الرّش بالرّماد، هو سرٌّ ثامن وبديلٌ لسرِّ التّوبة والاعتراف، ويمحو الخطايا تلقائيّاً.

 

أن رشَّ الرّماد لا عِلاقة له بالأسرار، لكن هذا اليوم لنا نحن المسيحيّين، فهو بداية زمان مُهمٍّ لحياتنا الرّوحية، إذ هو ليس الوقت لوضع الكمّامات والأقنعة أمام أعيُنِنا لئلا ننعرف. بل بالعكس، هو الوقت، لان نكشف عن حقيقتنا، بل أن نلبس مسوح التوبة، ونرى نفسنا على حقيقتنا، وأن نسمع كلماتٍ، غريبةً على آذانِنا، مثل: صوموا، توبوا، امتنعوا عن كذا وكذا! وأن نُظهر وجهَهُ الصّحيحَ أمام الله ونفسنا، وذلك بعيشة لائقة، مُرضية، إذ ما خُلِقنا فقط للأفراح الدُّنيويّة والملاذ العابرة، الزّائلة، والّتي لا تترُكُ وراءها سوى المرارة وخيبة الأمل، وإنّما للاشتراك في بناء هذا العالم من جديد، الّذي أحدثت فيه الخطيئة الأصلية خراباً كبيراً، فتقع على عاتق كلِّ واحدٍ منّا، مُهمَّةُ إصلاح جزءٍ من هذا الخراب. وهذا هو الوقت المناسب والمقبول عند الله، أن نأخذ مهمَّتنا مأخذ الجد، إذ هذا هو الوقت الّذي نقدر أن نستغلَّه لإصلاح نفوسنا وحمايتها. إذا أردتَّ أن تُصلح العالم، فعليك أن تبدأ بإصلاح نفسِكَ أوَّلا. رغم ضُعفنا أمام قوّة الشّر، إلا أنَّ الله أعطانا القوّة لنصنع الخير، ونقف بوجه الشّر. وهذا ممكن، إذا ما قمنا بأعمال الرحمة والتوبة والصلاة والحسنة، التي تُوصي الكنيسة بمُمارستها في هذا الوقت. نحن نقع في الخطيئة ونسير على طُرُقٍ مُعَرْوَجة: إنّي أعمل ما لا أريد، قال بولس. لذا فنحن نحتاج إلى التوبة والنّدم، وهذه الأربعين يوما هي للتوبة والنّدم، الفردي والجماعي في الكنيسة. كلّ ممنوع مرغوب، قال المثل. لكن هذا هو الوقت ليبقى الممنوعُ ممنوعا، لا للمنع بالذات ولكن كتضحية والتّسلُّط على الذّات وتقوية الإرادة. لا تصوموا كالمرائين، فهم يريدون ـن يُظهروا للناس أنهم صائمون (متى 6: 16-18). حسب الموقف الشخصي من الصوم، أفهم بالتّالي من أنا وإلى أيِّ مدى، أقدر أن أُضحّي بالشهوات والميول الشرّيرة في حياتي، فأُصلِحُها. هذا هو الوقت الذي تُقدِّمه لنا الكنيسة لتحسين حياتنا. آمين