موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٦ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٢

أنتم لا تستطيعون أن تعبدوا ربّين: الله والمال

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
أنتم لا تستطيعون أن تعبدوا ربّين: الله والمال

أنتم لا تستطيعون أن تعبدوا ربّين: الله والمال

 

كرزة الأحد الخامس والعـشـرين من الزّمن الإعتيادي (لوقا 16: 1-13) ج

 

الإحصائيات العامّة –ليس فقط في بلدنا– بل في جميع أنحاء العالم، تقول إن الجرائم بتزايد من سنة إلى سنة. هذا وسببها الرّئيسي هو الفقر الّذي يُجبر الكثيرين على الإقدام على أعمال السّرقات والسطو على أملاك الغير، وذلك لسّد الجوع المتفشّي في كثير من بلدان العالم. بل هناك أيضا ظاهرة أصبحت اعتيادية، سببها البخل والحسد، الّلذان يبعثان على التّلاعب بالمال من أجل المكسب الشخصي، خاصة بين صفوف موظّفي البنوك والشّركات، الّذين يديرون الشّؤون الماليّة العامّة. حاميها حراميها، يقول المثل. المال يُغري ويُبهر بلمعانه. فالّذي يقف أمام المال يشبه جوعانا يقف أمام صحن مأكوله المحبوب، لا يقدر تركه بدون مدّ اليد وتذوّقه. نعم، من يشتغل بالمال، يفقد رويدا رويدا، حاسّة الشّعور بالأخلاق العالية والصدق والأمانة والاكتفاء بالقليل، كواجب مساعدة الفقراء، حتّى ولو كلّف ذلك التخلّي عن المال الخاص وتوزيعه صدقة على الفقراء، كما طلب المسيح من الشّاب الغني الّذي أراد أن يعرف ما هي الشّروط ليتبعه؟ فقال له ايسوع: وزّع أموالك على الفقراء! فذهب حزينا !،هذا ويبدأ محبّ المال رويدا رويدا بالتّحلّي بالكذب والمراوغة ثم يصل إلى الخيانة، كأنّها من صلب الحياة، ويجب الاستفادة من الفرص الّتي تسنح له بذلك. يد العامل ثمينة ما دامت أمينة.

 

إن مثل الإنجيل اليوم هو من النّصوص الّتي تغيظ وتثير شعور السّامعين، فكيف يمدح يسوع الوكيل الخائن الّذي يتصرّف بمال غيره ويتكرّم به كأنّه ماله الخاص، علما بأن الخيانة ثابتة عليه؟ فها هو يزيّف الصكوك والوصول الماليّة المستحقّة، ليؤمّن لنفسه مستقبلا مريحا. لقد انتظر السّامعون حكما صارما جافيا على مِثْلِ هذا التّصرّف المشين. غير أنّ يسوع أعطاهم جوابا، ليس فقط عكس ما كانوا يتوقّعون، بل وما زاد الطّين بلّة، أنهم هم أنفسهم أيضا أساءوا فهمه. بجوابه ذكر يسوع سير هذا التّصرّف المشين، معتبرا إياه تصرّفا حكيما. لكنّنا ننسى أن يسوع لم يتطرّق إلى واقع الأمر، أعني التعامل مع واقع المال المخلوس، بل اختصر كلامه على طريقة التّصرّف بحكمة وحذر، وهي صائبة، لو، نعم لو كان المال له هو. الخطأ هو أنّ الوكيل يبذّر مال غيره، وهذا طبعا ليس ببال المسيح أن يمدحه. المسيح يسرد هذا العمل الخاطئ ليعطي السّامعين تعليما عكسيّا. فحتّى نفهم أو نقبل بهذا التّصرّف، يجب أوّلا أن نفهم ما يريد المسيح أن يقوله  لنا؟

 

 نحن نعلم أن الوكيل كان قد انفضح أمره، فتلقّى ليس فقط إنذارا نهائيا، لا يسمح له بالبقاء في عمله إذا ما وعد بتحسّن موقفه،  وإنّما تلقّى طردا نهائيا من الوظيفة،  ساري المفعول حالا . فماذا يقدر إذن أن يفعل الآن؟ إنّ مسكنه سيكون الشّارع في العراء، إذ ما كان في ذلك الزّمان أيُّ تأمين اجتماعي، يضمن له مبلغا من المال، جثى يتخطّى مرحلة الضّيق كما في أيامنا هذه. لذا وبسرعة البرق تمرّ في مخيّلته احتمالات عمليّة، يمكنه ممارستها لبداية حياة جديدة. ولكن مثلما جاءت هذه الاحتمالات الموقعة في مخيّلته، مثلما زالت، لأنّه لا يستطيع مزاولتها: هو يخجل من النّزول إلى وظيفة بسيطة، بعد العزّ الّذي كان ينعم به. كذلك التّسوّل لأجل كسب لقمة العيش لا يليق بمقامه "أستحي من الاستعطاء". وبإلهام داخليّ يجد ما عليه عمله ليحافظ على سمعته عندما يترك القصر: هو يفتكر بتأسيس جمعيّة صداقة تقوم على الرّشوة بمال لا يخصّه هو، بل يُظهر فيه كرما كبيرا على حساب غيره. فيخلق له صيتا ودعما بين أصدقاءٍ سيحتاجهم في المجتمع الّذي سيعيش فيه.

 

فهذه الفكرة هي الّتي يمدحها يسوع فيه. وأمّا عن مقوّمات الصّداقة المشبوه بها، فهذا لم يُدخله يسوع في الحساب تحت باب المدح. هكذا كان في الماضي وهكذا سيكون في المستقبل. لقد كان ذلك عمل مجازفة من هذا الوكيل، لكنّه يقبله على نفسه ويريد تحمّل النتيجة! وهذا ما يريده يسوع منّا ان نتعلّمه من هذا المثل: أن نتحلّى بالفطنة والحكمة، الّتي تحلّى بها هذا الوكيل الخائن، وأمّن مستقبل باقي أيّام حياته. من هذا المثل يريد منّا يسوع أن نتحلّى بهذه الصّفات، لا لتأمين مستقبل أرضي وانّما لتأمين مستقبلنا الأبدي! ومن لا يجهد نفسه لتأمين مستقبله؟ إن الوظيفة هي أوّل عُمْدة رئيسيّة تؤمّن لنا المستقبل. من الوظيفة نستطيع أن نجمّع رأس مال وندفع التأمينات الضّروريّة، مثل التأمين على الصّحة والتأمن للشيخوخة. وهذه كلّها مكوّنات ضروريّة للحياة الفانية. ولكن، وهنا السّؤال المهمّ: ماذا نفعل لتأمين المستقبل الأخير، الّذي لا يُباع ولا يُشترى مثل التأمينات على الأرض بالمال؟ نحن المؤمنون نعلم من المسيح نفسه أن حياتنا ليست فقط أرضيّة عدد سنواتها 70-80 سنة وما زاد كله آلام ومتاعب، يقول صاحب المزامير. حياتنا لا تنتهي بالموت "بالموت هي تتبدّل فقط" فلا بدّ من تأمين الحياة الّتي تأتي بعد انتهاء المدّة الأرضيّة، علما بأنها مرتبطة بما نفعل في حياتنا الأرضيّة. والإنجيل يحثّنا على طرح هذا السّؤال : ما هو المستقبل الّذي ينتظرنا والّذي وعدنا به المسيح حينما قال: أنا ذاهب إلى الآب لأهيئ لكم مكانا؟ (يوحنا 2:14). إنّنا لا نقدر تأمين هذا المستقبل وحدنا مثل تأمينات حياتنا الأرضيّة بالمال. نعم نحن نحتاج للمال لتأمين متطلّبات الحياة الأرصيّة . المال يحكم حياتنا وبه يستطيع الإنسان أن يصل إلى أيّ هدف يصبو إليه، الشر يرمنها قبل الصّالح . فبينما المال يُطمئِن من جهة لكنّه يُغري من جهة ثانية ويقود لارتكاب المنكر. كثرته تبعث على الكبرياء وقلّته إذلال. مفعوله على النفوس كمفعول المطر الغزير أو الجفاف على الطّبيعة.

 

بهذا المثل لا يريد منّا المسيح فقط تأمين الحياة الأرضيّة، لكن تأمين الحياة الأبدية، وهي لا تباع ولا تشترى بالمال، لكن التصرّف بالمال بطريقة صحيحة، هو الذي يؤمّن لنا الحصول على الحياة الأبديّة. أنتم لا تستطيعون أن تعبدوا ربّين " إن الّلــه وضع المال تحت تصرّفنا لا لتخزينه فقط أو استعماله لمكاسب دنيويّة "إذ ماذا ينفع الإنسان لو ملك كلّ الدّنيا وخسر نفسه" وإنّما لإدارته وصرفه في مشاريع خيريّة مفيدة، تصبح كأنّها إيداع في بنك الّلــه ودفع سابق لثمن الحياة الأبديّة : أعطوا تعطوا. إكنزوا لكم كنوزا في السماء

 

دخل أحد الأغنياء السماء وعند وجبة الغداء وقف أمام طاولة المأكولات الشّهيّة، الّتي أسالت للتوّ لعابه، خاصّة عندما رأى لائحة الأسعار على لوحة مكتوبة: كل ما تريد، كل شيء بفلس واحد! لم يصدّق. فعبّأ صحنه بشكل غريب ووقف ضاحكا أمام صندوق الدّفع ومدّ يده باستهتار مع الفلس، فضحك منه بطرس قائلا: الفلس يسحب من حسابك في بنكي، ولكن لا رصيد لك عندي. ماذا عملت بفلوسك على الأرض؟ "اكنزوا لكم كنوزا في السّماء".