موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٦ مايو / أيار ٢٠٢٢

أنا الراعي

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
أنا الراعي

أنا الراعي

 

الأحد الفصح الرابع (يوحنا 10: 27-30)

 

إنَّ أوّل صورة أو تمثال نعرفها عن يسوع، هي صورة أو تمثال الراعي، وُجد في سراديب الموتى في روما. فنحن نجد يسوع إمّا حاملا خروفا على أكتافه ويحرس المداخل، أو كراعٍ وسط قطيعٍ من المواشي، بيده عصى الرُّعاة وواضعا يده الأخرى على الأغنام كحارس عليها، كما قال: أنا الراعي الصالح! فيبدو أنَّ هذه الصورة لاءمت عواطف الناس فأُعجبوا بها. حتى ولو ما عاد الّراعي معروفاّ بيننا اليوم.

 

قطيع الأغنام يَعرف راعيه من صوته: الخراف تتبعه، لأنها تعرف صوته. وأمّا الغريب فتهرب منه لأنها لا تعرف صوته (يو 10:6)

 

بينما أصبحت وظيفة الراعي نادرة في أوروبا إلا أنَّ كثيرين في فلسطين وضواحيها لا يزالون يمارسونها. فرغم مرور أكثر من ألفي سنة، لا تزال قطعان الغنم والخرفان هي هي على سهول الجليل وفلسطين إلى بيت لحم برعاية ملّاكيها الرعاة، الذين شاهدهم يسوع، وأخذهم مثالا لنفسه وقال: أنا الرّاعي! فهذه الكلمة ما هي مَذلَّة، كما يظنُّ البعض، بل هي لقب شرف، وكانت في العهد القديم من أرقى الوظائف، لذا من هذه الطبقة كانوا يختارون الملوك ورؤساء الكهنة، وإن الله فد اختار أكثر وأشهر الأنبياء من هذه الطبقة. لانَّ الرّاعي كان كالملك، مسؤول عن غذاء المواطنين وحمايتهم. ولذا تستعملها الكنيسة لأحسن وظيفة فيها، أعني وظيفة الأسقف والكاهن، فهم يُدعَوْن رعاة، اقتداءً بيسوع، الّذي أعطى نفسه لقب الشّرف هذا. وحيث يشتغل الكاهن الراعي، كانت بقعة عَمله تٌدعى رعيّة. فكما لكلِّ قطيع غنم راعي، كذلك كان لكلِّ رعيّةٍ راعيها. لكنَّ هذا الزمان ولّى، إذ عاد الرّعاةُ قليلون. وأصبحت كثيراً من الرّعايا بدون راعٍ.

 

أسباب ذلك كثيرة، لكنّ السّبب الرّئيسي، وفي كلِّ أنحاء العالم هو واحد، وهو أزمة الإيمان التي نعيشها منذ أكثر من نصف قرن. الإيمان هو ميزان الحرارة للحياة المسيحية عامّةً، وفي الرّعية بشكلٍ خاص. الكنيسة اليوم تكافح بكل الوسائل للتخلِّص من هذه الأزمة، لكنّها لا تزال كأنها في نفق عميق، لا نهاية له. هذا وبما أنها أزمة عالميّة، فهي تحتفل بيوم صلاة عالميٍ، عسى الله يستجيب الصلاة ويبدأ يرسل عملة من أجل حصاده. إذ نعرف وندرك، كم هو ضروري وجود الكاهن في العالم في الوقت. الحالي

 

أحد الفصح الرّابع، هو يوم الصلاة العالمي السنوي للدعوات الكنسيّة المختلفة، مقصد الكنيسة هو تذكير البشر، أنّ معنى الحياة قائم على اختيار وظيفة، تتطابق مع الميول المولودة، الّتي تأتي مع الشخص بميلاده. نحن نكتشف بِسِنّ الطفولة، نوعاً من هذه الميول، إذ كل طفل يُعبِّرُ عن تخيُّلاته، بخصوص ماذا يريد أن يُصبح؟ فهذا يريد أن يصبح شرطي وذاك طيّرجي وذاك رياضي وذاك سائق باص وذاك طبيب أسنان إلخ....كلٌّ يعني إشغالَ وظيفةٍ تُلائم الميول والقدُرات الشخصية الملائمة فيه. وأما أننا نسمع أنّ هذا أو ذاك يريد أن يُصبح كاهنا، فهذا نادرٌ جدّاً، حتى لا نقول حدوث أعجوبة. فهنا نفهم ما يقول بولس، إنَّ كلَّ رجل دين، هو مدعوٌّ من الله لخدمة البشر وإقامة الذبيحة تعويضا عن الخطايا

 

إن الله مخصِّص لكل إنسان عملا أو وظيفة مُلائمة، وهذا يعني أنه أيضاً حاوي في برنامجه وظيفة الكهنوت المهمّة، الّتي من خلالها يريد أن يبقى يُذكِّرَ الناس ببرنامجه الخلاصي ونشر ملكوته على الأرض، والتعريف على أنّه المخلِّص، كيوحنا على ضفاف نهر الأردن، يرفع إصبعه ويشير إليه قائلا: هوذا حمل الله! وقد علّق البابا القديس يوحنا بولس الثاني على ذلك بقوله: إنَّ يوم الصلاة العالمي للدّعوات هو مناسبة للتبشير بأنَّ روح الله القدّوس، يكتب في قلب كلِّ مُعمّد، خطة محبة ونعمة. وإنَّ الرّوح يُفيقُ في قلب كلِّ مُعمّد، روح اختيار هذه الوظيفة الخفيّة فيه.

 

السّؤال: ما هي مهمّتي في هذا العالم. زار طفل مع أهله نحّاتا كان منشغلا بنحت قطعة رخام كبيرة، لم يكن قد بدا ماذا سيعمل منها. لكنه لمّا رجع بعد مدّة مع والديه، إذا به يرى في مكان ما كان النّحات منهمكاٌ بتكسيره، تمثال أسد كبير. فاستغرب الولد، وركض إلى النّحات وسأله: كيف عرفت أن في داخل حجر الرّحام كان هذا الأسد مختبئ؟ فنقدر أن نقول، إنّه في كلِّ طفل وظيفة مُعيّنة مخفية، وإذن لا بدّ أيضا وظيفة كاهن في هذا أو ذاك مخفيّة، لكنّنا نادراً ما عدنا نراها، إذ التربية إلى الكهنوت عادت نادرة.

 

حسب هذا المثل، إنّ هناك أشخاصا مُؤهّلين أيضا لمهمة الكهنوت لكن ما نشاهده اليوم هو غياب هؤلاء الأشخاص عن السّاحة، فأصبحت مهمّة الكهنوت غير مطلوبة ولا مرغوبة. من هنا ضرورة الصلاة بنوع خاص، كما قال يسوع: صلّوا ولا تملّوا، وإن كلّ ما تطلبون من الأب باسمي يعطيكموه. إن الدّعوات بالدرجة الأولى لا تأتي حسب الطلب والتخطيط البشري، بل هي دعوة من الله، لكن بوسع الإنسان أن يرفض الاستجابة لصوت الله، وهذا ما يحدث حاليا. مِن هنا هذا العجز والنقص الكبير في الدّعوات الكهنوتية: الحصاد كثير وأمّا العملةُ فقليلون. فاسألوا ربَّ الحصاد أن يرسل عملة إلى حصاده.

 

بمناسبة يوم الصلاة السّنوي من أجل الدعوات، وهو تقليديّاً اليوم، أحد الفصح الرّابع، لا يكفُّ الأساقفة عن إرسال مكتوب راعوي لكهنة أبرشيّاتهم، يحثّونهم فيه على إقامة صلوات من أجل الدعوات والوظائف الكنسيّة، التي أصبحت نادرة في أيامنا، وهذا لا يدل للأسف على حيويّة الكنيسة. كما ويحثُّ الأساقفةُ كهنتهم على تأسيس فِرَق صلوات دائمة ثابتة في الرعايا من أجل هذه النيّة. كما ولا ينسى الأساقفة من التوجّه إلى العائلات وحثّها على خلق جو إيماني، تُسنِده الصلاة، وموقف إيجابي بما يخص الكنيسة والدّيانة، لا موقف سلبي ومعادي انتقادي. فهذا هو الجو الملائم للتفكير بالدعوة إلى الكهنوت عندما يتباحث الأهل مع أولادهم بالنسبة لاختيار وظيفة للحياة (أيَّ وظيفة أختار؟ يسأل الأولاد أهلهم: طبيب؟ محامي؟ شرطي؟ فلماذا يخجل الأهل من القول لأولادهم: هل تفكّر بالكهنوت؟...

 

الكنيسة أصبحت بأمس الحاجة إلى كهنة. إذ المسيح ما أراد تأسيس كنيسة بدون رُعاة، وقد قال البابا القديس يوحنا بولس الثاني: حينما ينقص الكهنة، ينقص يسوع أيضا في العالم وتنقص الإفخارستيا، وينقص غفرانه للخطايا. فلا يحق لشعب الله أن يبقى لامباليا، أمام نقص الدعوات الكهنوتية. إذ فقط مع الدعوات الكهنوتية يتأمّن مستقبل الكنيسة. بمعنى آخر: رعايا فقيرة في الدعوات يعني فقر للكنيسة الرّوحي، وبالعكس رعايا غنية بالدعوات الكهنوتية يعني غِناء للكنيسة جمعاء. وهذا شيْ واقعي، إذ أي جمعيّة أو مصنع يكون ناجحا بدون عُمّالٍ كفوئين؟ إن الموظّفين والعمّال هم الألف والياء، في نجاح كل شركة أو فشلِها. والكنيسة ليست شواذاً، هي بحاجة لعمّال، الملقّبين بالكهنة المبشّرين. هذا وقلّة أو عدم وجود هؤلاء العمال، يجب أن يقودَنا إلى التّفكير، لوجود حلٍّ، ليس فقط مُستعجل بل ودائم، وذلك حتّى تبقى الكنيسة في خدمة البشر والعالم. من ضمن ما يقدر كلُّ واحدٍ منّا عمله هو واجب الصلاة ثمّ التطوّع الشخصي في خدمة كلمة الله، بالمعنى المعروف، أي أن يُعطي كلُّ واحدٍ منّا وجها حيّاً للإنجيل يقول لنا الأساقفة المبشّرون في آسيا وأفريقيا، إن التبشير ليس فقط مهمّة الكهنة بل وأيضا العلمانيين، بشخص معلمي التعليم والشمامسة. إذ في كل مسيحي يختفي راعي مبشر، كما في صنم الرّخام المذكور أعلاه. لذا فالإيمان حي أكثر بكثير من أوروبا.

 

إنّ الله يدعو كلَّ إنسان ليصبح عاملا في حقله، المدعوّون كثيرون ولكنّ المختارين فقليلون. فاسألوا رب الحصاد أن يرسل عملة لحقله. آمين