موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٤ يوليو / تموز ٢٠٢٢

أضافته امرأة إسمها مريم

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
أضافته امرأة إسمها مريم

أضافته امرأة إسمها مريم

 

الأحد السادس عشر (الإنجيل لو 10: 38-42)

 

من لا يزور أو لا يستقبل ضيوفا وزوارا بطيبة خاطر؟ الأولاد يزورون أهلهم. الأهل وخاصة الأجداد يزورون أولادهم وأولاد أولادهم. أصحاب وأصدقا يزورون أصحابهم وأصدقائَهم. هذه سنُة الحياة وما فيها شيء غريب، خاصّةً آخر الأسبوع أو أيام العطل، هي ملائمة للزيارات الودّية، فهي تجلب معها انسجاماً وفرحاً كبيرين، وذلك للطّرفين: للزائر والمزيور، للضيف والمضيوف. حديث ودّي، تبادل أخبار وآراء، عادية أو وظيفيّة من كلا الطّرفين تجري، فيمرّ الوقت سريعا.

 

قراآت اليوم تتحدث أيضا عن زيارات: فالرّسالة الأولى تتكلّم لنا عن إبراهيم، كان متجوِّلا، قد ترك مسقط رأسه العراق اليوم، ووصل إلى أرض كنعان وبنى فيها خيمته، وفجأة يقف باب خيمته 3 أشخاص، لا يعرف من أين هم قادمون، لكنّه كرئيس حمولة، مثلما نقول في الشّرق، فيستقبلهم في خيمته المتواضعة. على فكرة الخيمة لا باب لها، وتفسير ذلك، أنها مفتوحة لكل زائر أو عابر سبيل. وكزوّار، كانوا من كانوا، هم بدخول خيمته، يصيرون تحت عنايته وحمايته، حتّى من الأعداء، إلى أن يُغادروا. هكذا كانت تجري الحياة، وقد عشتها في صغري، إذ بيت جدّي، كان دائما مفتوحا على مصراعيه لكل زائر غريب يدخل قريتنا. ولعدم وجود فنادق في ذلك الزّمان، كان الزائر يسأل عن شيخ الحمولة ويقصد بيته، ويصير ضيفه. ولا يزال الناس يتناقلون المقولة عن الزّائر، أنّه ضيف لمدة 48 ساعة، لا يحتاج خلالها أن يهكل همّا، لا لإقامته، ولا لمأكله أو مشربه، بل هو مٌعزّزٌ مُكرّمٌ من أهل البيت. أليست هذه عادةً جميلةً محمودةً، خسرناها في زمن الحضارات هذه، حيث ما عادت الزيارات بدون أخذ موعد مسبق؟

 

كذلك إنجيل اليوم، فهو يتحدّث عن ضيف، يزور امرأة إسمها مرثا. أمّا إسم الضيف فهو يسوع، تستقبله في بيتها، وعلى ما يبدو، هذه هي ليست المرّة الأولى، كما نعرف من إنجيلَيْ لوقا ويوحنا. فهما يُطلعاننا عن تفاصيل كاملة عن علاقة يسوع مع مرثا. مرثا كان لها أخت إسمها مريم، وأخ اسمه أليعازر. كان ثلاثَتُهُم يسكنون في بيت عنيا، قبل مدخل أورشليم شرقا من جبل الزيتون. كان يسوع في تجواله وترحاله، يقصد هذه العائلة لضيافتها والإقامة عندها، كلّما جاء من أريحا إلى أورشليم أو بالعكس. لقد كان بوسعه أن يبقى يسكن في المضافة، التي سمعنا عنها في الأحد الماضي مع قصّة السامري، فهي قريبة من هناك، لكن يسوع كان مادّيّاً فقيرا وليس له حجر يضع عليه رأسه، لذا كان الحلّ المذكور، أي زيارة العائلة الصديقة، فالبيت يقع على حافة الطّريق.

 

آخر زيارة ليسوع لهذه العائلة، كانت في آخر رحلة له لاورشليم، مدينتِه المحبوبة، التي سيُنهي حياته فيها. هذا وكانت مريم ومرثا قد سمعتا أنه في أريحا، وكان أخاهما أليعازر مريضا، فأرسلتا إليه الخبر وترجّتاه ليسرع ويشفي أخاهما الطّريح الفراش. ونحن نعرف بالتّالي كيف أنَّ يسوع تصرّف معهما. لقد تأخر فمات أليعازر وحتّى دُفِن، لكن يسوع أقامه من الموت وليس فقط من المرض. إذ هو قال: من آمن بي، وإن مات فسيحيا.

 

من نص إنجيل اليوم، نكتشف أنّ مرثا كانت امرأة صاحبة بيت ومدبِّرة. أمّا مهمّتها الرّئيسيّة، لما كان يسوع يزورهم، فكانت الطّهي، فأنا أعتقد، ولو أنّه غير مذكور، أن يسوع في رحلته الأخيرة هذه، ما كان لوحدِه، بل كان باقي التّلاميذ مرافقين له. وهذا يدل على انهماكها لوحدها، حيث هي تشكّت: أما يهمُّك أن مريم تتركني لوحدي؟ وكما علمنا من نص الأحد الماضي أن الطريق من أريحا إلى أورشليم، ليس فقط مُتعبا، فكله تسلّق، إذ أريحا تقع بمستوى البحر الميت القريب حوالي 314 متراً تحت الصفر، وعندما يصل المسافر أورشليم، يكون الارتفاع قد صار 500 متراً فوق البحر. فيمكننا أن نتصوّر الجهد المضني للوصول إلى أورشليم، سواءٌ من جهة الشرق أو الشمال أيضا، حيث نقرأ "وإذ كان يسوع قد تعب من السّفر جلس على حافة البئر" (يو 6:4) وليس فقط هذا، بل الطّريق كان محفوفاً بالمخاطر، إذ قُطّاع الطُّرق واللّصوص كانوا منتشرين في الوديان وخلف الجبال والصخور، يراقبون المارّين بالمرصاد، إن كانوا لوحدِهم، كما في الأحد الماضي مع السامري. من هنا توقّعنا أنّ يسوع ما مرّ لوحده، وإلا لوقع مؤَكَّداً ضحيّةَ هؤلاء.

 

وما نعرف أيضا عن يسوع، أنَّه كان واعظا مُتنقِّلا، أي أنه كان دائما يتنقل بين الهضاب والسّهول ويسلك كلَّ الطُّرق، الوعرة والسهلة، لا يهتم براحة نفسه. جاء برسالة مهمّة، وهي أن يوصل رسالة الخلاص للبشر، وما كان لديه الوقت الكافي لنفسه، ليأكل وينام براحة، لذا فلا بدّ أنّه كإنسان، كان يتذوّق الرّاحة من وقتٍ لآخر عند أصدقائه إذ كان لديه الوقت لهم: للجباة زكريّا ومتّى وبعض الخطأة، كان يجلس ويأكل معهم، إذ كان يقبل كلّ عزومة، لا للعزومة، بل ليعمل خيرا للجالسين معه. وبالتالي ردَّ هو واجب العزائم الكثيرة، بعزومة واحدة، دائمة للجميع، وهي عزومة العشاء الآخير، حيث الجميع مدعوّون للجلوس معه وأكل جسده الأبدي: لقد اشتهيت شهوة أن آكل معكم هذا الفصح قبل أن أتألم (لو 15:22) من يأكل من هذا الخبز يحيا إلى الأبد.

 

ماذا تريد هذه القصة أن تقول لنا؟ هي تريد أن تؤكّد لنا أنّ الله دائما في طريقه إلى البشر، فلا يوجد طريق أو مكان لا يزوره. هو لا يُعلن عن وقت زيارته، كزوّار إبراهيم، بل قد يؤجل زيارته كما فعل مع مريم ومرثا، لكنه لا يتوانى. إذ له مفاجآته، الّتي لا يُعلن عنها، يظهر في حياة الإنسان حين الضرورة، أي حين أقلَّ ما يفتكر الإنسان بزيارته، إذ هو لا يظهر كالآلهة الوثنية ببرق ورعد يُعلِنان عن قدومه، بل بالصّمت، الّذي ينتُج عنه مفعول حقيقي. فجأة يرتاح الإنسان أمام مشكلة كانت من مدّة تُشغِل كلَّ تفكيره، وإذا بها فجأة كأنها ما كانت. صوت الله لا يُسمع في الضجيج، والّذي لا يمكن الوصول إليه، فقد وصل هو إلينا، هو يزورنا، فلا نقدر أن نقول شخصيّاً بل بطريقته الخاصة، أي بشخص الزائر والمحتاج والضعيف والمحزون والمظلوم والمريض، فهو في كلِّ هؤلاء. بكلمة هو يزورنا بشخص من يحتاج المساعدة. إذ مَن ساعد القريب فقد يلتقي بالله (السامري الأحد الماضي). من أحب قريبه أجبَّ الله في الوقت ذاته

 

في حياته وخطاباته وأعماله كان يسوع يضع دائماً حجر الأساس لتصرّفاتِنا نحن. لقد أرانا الطريق والاتّجاه، خاصّة للتصرّف مع المحتاجين والمتألمين والمحزونين، إذ الوقوف إلى جانبهم وحمايتهم أدبيّا، أفضلُ من تتميم أي عملٍ مثير يبهرهم. إنّ الله أهدانا الوقت، وذلك لاستعماله في عمل الخير تجاه العالم والبشر. كثيرون هم الّذين لا يعرفون استعمال وقتهم، فيُضيِّعون منه القسم الكبير، لانّهم لا يعرفون استغلاله لأهداف نافعة مفيدة، حتى لأنفسهم ما عندهم الوقت الكافي، فهم دوماً منهمكون، بمهامّ مادّية جانبيّة، يُعطونها أهميّة أكثر من اهتمامهم بأنفسهم، مثل مرثا في الطهي، بل وأيضاً تُحاول تشتيت غيرها بل وإشراكَهم بما يُبعد عن الاستماع والاسترشاد بكلمة الله كمريم. الإنسان لا يعيش من الخبز وحده بل من كلِّ كلمة تخرج من فم الله. اليهود كانوا يُبطلون وصية راحة السبت في سبيل نشل ثورهم أو حمارهم إن وقع في بئر.  فلسنا بحاجة لتوبيخ ضميرنا، إن سمحنا لأنفسنا بالتّخلي عن واجب ديني في سبيل أن نكون مضطرّين للقيام بخدمة محبّة، حسب الحاجة، كالبقاء مع مريض لا معيل له

 

الإنسان بحاجة للصلاة وتقوية نفسه داخليّاً، إذ الحاجة هي إلى أمرٍ واحد، قال يسوع لمرثا. فالأعمال وحدها تُشتّت عن هذا الشيء، عن هذه الحاجة الضّروريّة. قال الرّهبان: القاعدة الذّهبية للحياة الناجحة هي: صلِّ واعمل. فما ينفع في الحياة المسيحية للرهبان، ينفع أيضا لكل مسيحي. آمين