موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٣ يونيو / حزيران ٢٠٢٢

أرسِلْ روحك فيتجدّد وجهُ الأرض

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
أرسِلْ روحك فيتجدّد وجهُ الأرض

أرسِلْ روحك فيتجدّد وجهُ الأرض

 

أحد العنصرة (الإنجيل: يوحنا 7: 17-19)

 

من لا يريد من وقت لآخر تجديد كلِّ شيْ في بيته: الفراش، السجاد، التلفزيون، كراسي الجلوس، لون الدّهان على الحيطان، جهاز راديو وموسيقى حديثة. هنا نحن نفتكر بتجديد أشياء مادّية، وهو غير المقصود من عيد اليوم ومن العبارة المذكورة: أرسل روحك علينا فيتجدّد وجه الأرض. الكنيسة تقصد اليوم تجديدا آخراً ضروريّاً، وذلك بواسطة الروح القدس، وهو تجديد حياتنا وإيماننا وأخلاقنا، لا بالمال لكن بقوة الروح القدس، الذي نعيّد حلوله على العالم بعيد اليوم، المسمّى عيد العنصرة. فما عاد الوقت لنقول: هيك نحنا متعودين، ولسنا بحاجة لتجديد مجرى حياتنا! الكل يِفتكر ويُفتّش فقط عن راحة نفسه. بل نقول التجديد ضروري وهو يُدخل شعورا مُفرحا.

 

اليوم هو عيد العنصرة. وهذا العيد الذي نذهب إلى الكنائس للاحتفال به، هو عند اليهود، إعلان الناموس على جبل سيناء، بين البروق والرّعود، وهو عندنا إعلان ناموس المسيح، وسط دويّ ريح العاصفة، التي حلّت على الرّسل، كألسنة من نار، فتجدّدوا بكل معني الكلمة.

 

نلاحظ اليوم عند الكثيرين ضعف الثقافة الدينية. ففي درس الدّين، أعلنتُ مرّة للطلاب أمامي، وبحضور معلِّمة الدّين، أن عيد العنصرة، هو يوم ميلاد الرّوح القدس. قلت: عيد الميلاد هو يوم ميلاد يسوع في مغارة بيت لحم، وأما عيد العنصرة فهو ميلاد الرّوح القدس في علّية أورشليم. فكان الاندهاش كبيراً، خاصّة عند المعلّمة، إذ استغربت وقالت، هذا وباسم طلابها: ماذا تقول؟ ميلاد الرّوح القدس؟ إنّنا نسمع هذا لأول مرّة، فهل الرّوح القدس شخص، وُلِدَ على أرضنا، مثل يسوع؟ فحان الوقت لتفسير كلمتي: ولادة وحلول. يسوع يولد وأمّا الرّوح القدس يحلّ.

 

قصّة ميلاد الرّوح القدس وصفها لنا كِتابُ أعمال الرّسل وليس الأناجيل. لكن مِنْ شاهِدِ عَيان، وفي اليوم الخمسين بعد القيامة، كما الكلمة اليونانية Pfingsten تعني. في اليوم الأربعين عاد يسوع بصعوده لعند أبيه، وفي اليوم الخمسين أرسل الرّوح القدس سويّة مع الله أبيه، لإدارة الكنيسة وحمايتها حتى تكتمل. البابا الفخري بندكتوس السادس عشر، قال في إحدى عظاته عن الرّوح القدس: الكنيسة هي ليست من تأسيس ولا تفكير ولا من مقدرة تنظيم بشري، فلو كانت هكذا، لكانت قد تلاشت من زمان كأيِّ حزبٍ سياسي، مرّ على هذا العالم. الكنيسة كانت مؤسسة موجودة. لكن بحلول الروح القدس عليها، فهي باشرت عملها في العالم حواليها، لا هي باشرت بالوجود. الرّوح أعطاها المواهب السبعة، وأهمُّها فهم اللغات، للتغلغل بين كل الشعوب: كلُّ واحدٍ منّا يسمعهم ينطقون بلغته (لا عن طريق ترجمة مفتعله كما في المؤتمرات اليوم)، فهذه طبعا أعجوبة من أعاجيب الرّوح القدس. ومن هنا أبضا إرسال المبشّرين وتعليم اللغات الأجنبية، لتفهيم الناس وإيصال رسالة الخلاص لهم بلغاتهم. هذا يتمّ ليس كيوم العنصرة من جديد تحت صوت الرّعد وتفهيم اللغات الفجائي، لكن بتعليم اللغات الرّسمي ومرافقة الروح القدس، الّذي يهبُّ حيث يشاء، كما قال يسوع لنيقودموس

 

الخطأ أن نقول: اليوم هو ولادة الكنيسة. لا الكنيسة كانت مولودة، كانت قد تأسست مع بداية كرازة يسوع وانضمام الناس إليها. أما اليوم فهو عيد تقويتها وحمايتها، وتسليم رِعايتها وقيادتها للروح القدس. الّذي هي بحاجة إليه من جديد، ليقويها ويُنعشها من جديد,

 

بهذا المعنى، لمّا أعلن البابا يوحنّا الثالث والعشرون عام 1959 عن افتتاح المجمع الفاتيكاني الثاني، وقف أمام شباك مكتبه المغلق، ثم فتحه وأعلن للجماهير في ساحة الفاتيكان قدامه: لمّا فتحت الشبّاك دخل هواء جديد في مكتبي. والان أُعلن افتتاح مجمع مسكوني، كي يدخل هواء جديد في الكنيسة. هواء الرّوح القدس.

 

كلُّ الأناجيل تذكر، خاصة إنجيل يوحنا، أنَّ يسوع وعد تلاميذه بإرسال الرّوح القدس لهم بعده، هذا وقد أعطاه أسماءً مختلفة: المُعزّي الّذي أرسله لكم من أبي. ثمّ المُعلِّم، والمحامي وروح الحق والشاهد: هو يشهد لي، والبراقليط، أي المدعو. هذه الكلمة أحدثت بلبلة في الإسلام، حسب تعليم الراهب بُحيرة: قال: يسوع وعد ليس براقليط لكن براقليطوس: أي المحمود، أي النّبي محمّد. كأنّ يسوع تنبأ بمجيء محمد من بعده! فهذه مسخرة صارخة وتفسير لأعوج لا أساس له! خاصة وأن محمد جاء بعد 700 سنة، وعهد الأنبياء، تقول الكنيسة، قد انتهى بموت آخر تلميذ من تلاميذ يسوع، أي بموت الإنجيلي يوحنا عام 110 تقريبا بعد المسيح. كان يسوع قد قال: سيأتي بعدي لأنبياء كذبة فلا تصدّقوهم ولا تتبعوهم.

 

نعيّد اليوم ثالث أكبر عيد كنسي بعد عيد الميلاد وعيد القيامة. وإذ لا يوجد نصوص قراءات خاصة لهذا العيد، فتستعمل الكنيسة نص أعمال الرسل كقراءة، وأما الإنجيل فهو إنجيل يوم القيامة، لانَّ يوحنا يعتبر الجمعة الحزينة، يوم الموت، أمّا القيامة والعنصرة، فَوِحْدَة مرتبطة تأتي من المصلوب. فكما فتح يسوع القبر من دون مساعدة، فتح أيضاً باب العليّة بدون مساعدة. ثمَّ دخل ونفخ في التلاميذ روحه. فما يميّز هذا العيد عن الميلاد والفصح، أنه يُظهر فعالية خارجيّة.

 

يوم العنصرة وَفَى يسوع بوعده، الذي وعده لتلاميذه ساعة العشاء الأخير: "أنا أطلب من الأب، فيعطيكم مُعزِّياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد (يو 16:14). "وستنالون قوّةً متى حلَّ عليكم الرّوح القدس"(أعمال 8:1) فهذا هو محتوى هذا العيد، يسوع يرسل هذا المعزّي من عند الأب، ليمكث مع الكنيسة ويقودها داخليّاً إلى اكتمالها، أي أن تُصبح رعيّة واحدة تحت قيادة راعٍ واحد. ففي هذا اليوم، حدث فيها تغييرُ لا يوصف: التلاميذ ما عادوا يُعرفون، هكذا تملّك عليهم الرّوح القدس: "ستنالون قوّةً متى حلَّ الروح القدس عليكم، وتكونون لي شهوداً في أورشليم وفي كلِّ اليهوديّة والسامرة وإلى أقصى الأرض" (أعمال 8:1)

 

اليوم ابتدأ عمل الكنيسة التبشيري، الطَويل المدى. إذ بعد أكثر من ألفي سنة ما وصلت رسالتها بعد إلا لأقل من سكان المعمورة البالغ 7.5 مليار إنسان. فلا يزال قدام الكنيسة المتَّسعُ من الوقت، حتى تصل هذه الرّسالة جميع البشر ويؤمنون بها، خاصة وإنّ عوائق كثيرة، تقف دائما بوجه التبشير، منها، حتى نذكرَ بعضَ الشيء: ابتداءً باضطهادات نيرون، إذ المسيحيون ما قُبلوا في عصر من العصور كباقي البشر، لأن الإيمان يحتوي على رسالة تناقض مع العالم، لكن هذا لا يمنعنا من أن نبقى نشهد للحق. والعالم فيكره الحق. هم يعيشون في العالم، لكن العالم لا يقبلهم كما هم. ثم الحروب الدينية في القرون الوسطى، واليوم اضطهادات داعش، الّتي وقفت وتقق عثرة في طريق التبشير وتعيقه، بل تعيده إلى الوراء لأجيال.

 

يوم العنصرة إذن نتعرّف على من هو الرّوح القدس، فهو شخص وليس تعليماً لاهوتيّاً. هو الشخص الثالث من الثالوث الأقدس: الله الأب والابن والرّوحُ القدس، الّذي تولّى إدارة العالم والكنيسة، بعد ما خلّصهما الابن بموته على الصّليب من أجلهما. سيقودكم في الحق.

 

لكن إحصائية في أوروبا المسيحيّة حول شخصية الرّوح القدس، جاءت بنتيجة سيئة، إذ كلٌّ سادس مواطن لا يعرف من هو الروح القدس. لا أدري إذا كان الوضع في الشرق أحسن؟ أمّا السبب فقال عنه البابا بندكتوس السادس عشر، فهو ضعف التربية الدّينية عامّةً. الكثيرون يعترفون أنّهم مسيحيّون، لكنهم لا يستطيعون أن يُدلوا بشيْ عن ديانتهم، أو عن. الرّوح القدس، الذي هو حياة الكنيسة.

 

نعيش عنصرةً جديدةُ، أي حلول الروح القدس على أرضنا، في كلِّ حفلة تثبيت في رعايانا، حيث بالصلاة ووضع أيدي الأسقف على رأس المُقدِمين إلى التثبيت، فيحل عليهم الرّوح القدس، ليثبّتهم في الإيمان، ويعيشوا حياة لائقة، ويُصبحوا مبشّرين في عالمهم. فكل حفلة تثبيت تٌنعش الإيمان وتشجّع الشباب أن يتقوّوا في هذا الإيمان، الّذي هو يحتوي لهم على الكثير الغير مفهوم. لكن غير مفهوم، لا يعني خطأ، فهو هديّة من الله، ليكتشفوا وصاياه ويميّزوها عن الوصايا البشرية. لذا فنحن جميعنا بحاجة إلى عيد عنصرة دائم، ليفهمنا أسرار الله ويعطينا الشجاعة للانخراط في الحياة الاجتماعية، فيتقدّم عالمنا ويتجدّد دائما إلى الأفضل. آمين