موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ٢١ يناير / كانون الثاني ٢٠١٥
من يسيء للإسلام أكثر: الصمت على أعمال داعش أم قتل صحافيي شارلي إيبدو؟

رنا الصباغ :

نقلاً عن "الغد" الأردنية

قامت الدنيا ولم تقعد في العالم العربي والإسلامي منذ نشرت المجلة الفرنسية الساخرة "شارلي إيبدو" رسوماً كاريكاتورية متخيلة، مسيئة للرسول الكريم، بعد أيام على مقتل ثمانية من محرريها ورساميها في هجوم شنّه الأخوان كواشي، المتخرجان من رحم "داعش"، على مقرّ المجلة.

وقد سارع زعماء وساسة وبرلمانيون وإعلاميون عرب إلى إدانة الصحيفة التي نشرت الرسم على صفحتها الأولى للعدد الذي أعده "الناجون" من فريق تحريرها. ورد رسامو كاريكاتير عرب على الأسبوعية بأعمال ساخرة؛ تشكك في مقاصد حرية التعبير في الغرب، وانتقدوا نفاق قادته، وكذلك إسرائيل، والمعايير المزدوجة ضد المسلمين. وجالت مظاهرات في شوارع المدن والقرى وسط مطالبات بمقاطعة المنتجات الفرنسية.

وهذه التصرفات من قبل هؤلاء الزعماء والساسة والبرلمانيين والإعلاميين العرب مبررة، وهي من حقهم، بحسب ما نلمس من مواقف.

في المقابل، لم يتحرك الشارع العربي ضد الممارسات الإرهابية لتنظيم "داعش" الذي يتصرف باسم الإسلام عندما قتل مئات العراقيين من الأيزيديين والمسلمين الشيعة، وعذب وقتل وطرد مسيحيين من ديارهم في الموصل وغيرها من المدن، وحين جزّ رقاب صحفيين عرب وأجانب.

هذه المعادلة تستدعي مجموعة أسئلة مليونية: هل ثمّة ازدواجية في المعايير عندنا؟ وهل نقبل هذه الازدواجية وندفن رؤوسنا في الرمال؟ ومن أضر أكثر بالدين الإسلامي الحنيف وبثقافتنا ذات الجذور العربية الإسلامية؛ رسوم "تشارلي إيبدو" واستفزازات مجلة هامشية مشاكسة في دولة ديمقراطية عريقة كفرنسا، أم أفعال تنظيمات سلفية وفكرها الظلامي والتكفيري الذي يتغلغل في أحشاء مجتمعاتنا؛ حال فكر "داعش" وأخواته، باسم الدين، فيما الدين منها براء؟

الحجة الأكثر ترديداً هي أن المجلة مسّت مشاعر مليار ونصف المليار مسلم حول العالم، بمن فيهم العرب؛ هويتهم الأولى والجامعة هي الإسلام. ولذلك يجب تلقين القائمين على تلك المجلة درسا، والثأر لديننا. بل لم ترمش عين ثلاثة مشاركين في برنامج "المناظرات العربية"، مساء الاثنين الماضي، حين أعلنوا أنهم مع العملية الإرهابية ضد "تشارلي إيبدو"!

الحجة الثانية هي أن المرجعية الفكرية والثقافية العربية الإسلامية في مجتمعاتنا تختلف جذريا عن غالبية المجتمعات الغربية التي مرت بعصور تنوير قبل عقود، وجاهدت لفصل الدين (الكنيسة) عن الدولة، وشرعنت حرية التعبير كحق مقدس، بما فيه حق انتقاد الشخوص الدينية. فبيننا وبينهم سنوات ضوئية.

أما الحجة الثالثة، فهي أن تيارات يهودية متشددة مارست الإرهاب ضد كل من ينتقد الدين اليهودي، ونجحت في دفع أي شخص للتفكير مرتين قبل أن يقترب من مس دينها ومعتقداتها برسوم كاريكاتورية أو خطب رسمية أو مقالات وكتب. ووفق هذه الحجة، على المسلمين استخدام التطرف لوقف أفعال يرون فيها تعديا على الدين الإسلامي! ولأن جماعات ضغط نجحت في سن قوانين في عديد دول لتحريم الشك في "الهولوكوست" والمس بالسامية، فإن علينا تجريم المس بالدين الإسلامي وبالانبياء والرسل والمعتقدات.

هذه الحجج قد تُقبل أو تُرفض بحسب المتلقي، وإسقاطاته النفسية ومرجعياته الفكرية والقيمية والدينية. لكن يظل السؤال الأساس في بال من يريد العيش في القرن الحادي والعشرين وثورة المعلومات والعولمة التي كسرت كل الحدود: ماذا تغير في منظومة قيمنا الفكرية والأخلاقية، بحيث غدا المرفوض مقبولا أو قابلا للتبرير، وبات هناك "داعش" صغير يطل برأسه شيئا فشيئا؟

بالتأكيد تغير الكثير داخل عالمنا خلال عقود الاستبداد والفساد، وسياسات التجهيل المتعمد، وغياب أي محاولة لقيام دول على أسس المواطنة وتقبّل الرأي المخالف. بفعل تلك العوامل البنيوية، تحولنا إلى مجتمعات أحادية التفكير، تفرض حصارا على الفكر والحريات، وتطارد الضمائر والحروف والرسوم والمسالمين. لكننا لا نستطيع فرض أجوائنا على العالم الكبير؛ لا نستطيع إجباره على التفكير على نسقنا، والكتابة مثلنا، والإيمان مثلنا.

فمنذ أواخر القرن السابع عشر، يعتبر الغرب حرية التعبير ركنا في حضارته. هذه الحرية جاءت بعد عقود من الدماء والصراع السياسي. ومن حق من يرفض هذه الحضارة وقيمها أن لا يعيش فيها، وأن يبحث عن مجتمع يشبهه ويمنحه مناخا فكريا وقيميا خاصا به. ومن فرّ من ظلم مجتمعاته للعيش في دول الغرب، حيث القانون والمواطنة والمساواة، عليه التكيف مع ذلك والعمل على تقبله.

لكن، هل نحن جاهزون لسماع هكذا رأي؟ بالتأكيد لا.

فمجتمعاتنا اليوم هي في الأغلب نتاج أنظمة تعليم حيّدت العقل والفكر والمنطق، وحوّلت الناس إلى قطعان تسير خلف سلطات بطركية؛ ومناهج تعليمية تقزم الآخر وتكفّر أتباع الأديان السماوية الأخرى؛ ومعلمين يزرعون في عقول صغارنا أفكارا ظلامية رهيبة وإرهابية، مآلاتها رفض الآخر والانقلاب على مبدأ العيش المشترك الراسخ في غالبية مجتمعاتنا.

نلمس يوميا كيف تغيرت بنية المجتمع الأردني الأصلية القائمة على التسامح والسلمية والاعتدال والوسطية، بعد سيطرة الفكر الديني على المناهج والتعليم قبل خمسة عقود. مدارسنا باتت تبث التطرف والفكر السلفي المتشدد، حالها حال دور العبادة. فمساقات بعض كليات الشريعة، مثلا، لا تختلف كثيرا عن ما ينفثه "داعش".

الغالبية منا لا تريد الاعتراف بذلك؛ لا تريد تقبّل أن غالبية أعمال الإرهاب حول العالم تنتج عن مسلمين تنكروا لدينهم ولتعاليمه، ووضعوا بممارساتهم العرب في حال دفاع عن النفس، أو البحث عن مشاجب لتعليق الأخطاء، أو اللجوء إلى نظرية المؤامرة! لنقرّ، كما قال الملك عبدالله الثاني مؤخرا، أن الإسلام يخوض حربا بين الاعتدال والتطرف، وعلى المسلمين والعرب التحرك لصد التطرف. فهذه مشكلتنا بالتأكيد.

من حقنا إدانة الرسوم الأخيرة والتحذير من أن استمرار نشرها يؤذي مشاعر المجتمعات المسلمة في كل مكان، ويساهم في زرع بذور الفتنة من جديد. ويحق لنا وصف ذلك بأنه تصرف غير مسؤول وغير واع لمغازي حرية التعبير التي من أهم أسسها المسؤولية واحترام الأديان. لكن ليس من حقنا المطالبة بسن قوانين عالمية للحد من حرية الرأي والتعبير، وكأن العالم على مقاسنا.

علينا إدراك أن إحدى سلبيات العولمة هي أنها باتت تحمل في طياتها خطر تنامي "خطاب الكراهية"، بعد أن تهاوت حصون المجتمعات. وعلينا الاعتراف بعدم القدرة على إيقافها. بل الحل في تحصين مجتمعاتنا من تغلغل التطرف والتكفير، وتعزيز ثقتنا بأنفسنا كعرب ومسلمين.

فهل نفع تنديد الزعماء والساسة والإعلاميين ورسامي الكاريكاتور؟ لا أعتقد ذلك. هل كان هناك خيار آخر؟

لنتخيل السيناريو التالي: لو لم نعر المسيء أي اهتمام، لكنّا حرمناه من التضخم، ونزعنا عنه لقب البطولة. وفي التاريخ نماذج عديدة لنكرات أدبية تحولت إلى ضحايا وأبطال، مثل الهندي سلمان رشدي. و"تشارلي إيبدو" تحولت إلى حركة عابرة للحدود، ترمز لحرية الرأي والتعبير، إذ طبعت المجلة ثلاثة ملايين نسخة بعد أن كانت على حافة الإفلاس دون 70 ألف عدد.

لنعد إلى الوراء. كم من المرات نظم كفار قريش قصائد تذم الرسول وصحابته الكرام. تلك القصائد لم تصلنا، لأن المسلمين الأوائل لم يتناقلوها ولم يعيروها أي اهتمام، فكان أن اندثرت. ماذا لو قرر ملايين العرب والمسلمين وغيرهم ممن يعتقد بأن هذه الرسوم أساءت للنبي والإسلام، عدم الالتفات إليها وإهمالها؟ أليس من الأفضل العمل بوصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أميتوا الباطل بالسكوت عنه ولا تثرثروا فيه فينتبه الشامتون"؟.