موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ٢٢ سبتمبر / أيلول ٢٠١٤
حياكة الحكاية: وكتابة التاريخ الاجتماعي

د. فيحاء قاسم عبد الهادي :

أستحضر الماضي وأحدِّث عن الحاضر وأستشرف المستقبل من خلال القص؛ فهل أستطيع أن أفعل من خلال الحياكة؟

هل يمكن أن أحيك حكاياتي، كما أقصها؟ هل يمكن للخيط والإبرة أن يشكلا فعل تحرر نفسي وسياسي واجتماعي، كما تفعل الكلمة؟

وإذا كان الإنسان العادي قادراً على أن يروي قصته، دون أن يكون قاصاً بالضرورة، فهل يستطيع الإنسان العادي أن يحيك قصته، دون أن يكون فناناً بالضرورة؟
ما الذي يجمع بين الحكي والحياكة؟ بالإضافة إلى تشابه الحروف والحكاية؟

طافت تساؤلات عديدة في رأسي، في طريقي للمشاركة في أول مؤتمر عالمي حول: الحياكة من أجل القص (Sew to Speak): (المؤتمر العالمي الأول لقصص النسيج، وحقوق الإنسان، والعلاج النفسي).

*****

حين لبيت الدعوة إلى جنيف، بالمشاركة مع خبيرة متميزة في فن التطريز الفلسطيني/ سهام أبو غزالة، للمشاركة في المؤتمر، بين 12-14 أيلول 2014؛ في جامعة وبستر؛ أحسست برغبة في اكتشاف أساليب جديدة، مبدعة، ومتنوعة، لقص حكاياتنا الفلسطينية، من خلال التعرف على تجارب غنية ومتنوعة، لنساء العالم، وتعريفهن بما لدينا من تراث غني في فن النسيج، وفي جمع الرواية الشفوية.

كانت فرصة غنية للقاء أكاديميات، وفنانات، ومختصات بالعلاج النفسي، ومخرجات أفلام، وناشطات مجتمعيات، عبر العالم، لتبادل التجارب، حول استخدام النسيج، في كسر حاجز الصمت، والمقاومة، والدفاع عن حقوق الإنسان، والنضال السياسي، وفي العلاج النفسي.

شكل اللقاء القصير المكثف تحدياً للنساء المشاركات، من إحدى وعشرين دولة في العالم؛ لاكتساب معلومات وخبرات جديدة، ولتطوير بعض المهارات، ومشاركة الدروس المستفادة؛ حتى تستطيع النساء العودة إلى مجتمعاتهن مسلحات بأدوات تضاف إلى خبراتهن، كي يبدعن، في العمل مع النساء، اللواتي يعانين عنفاً ضدهن بوصفهن نساء، ومع النساء المهجرات من أوطانهن.

كما أن اللقاء بين النساء المشاركات بشَّر بولادة شبكة نسوية عالمية، تعنى باستخدام حكاية النسيج كطريق للتعبير عن الرأي الحر. تلتقط المشترك بين نساء العالم، وتعتمد الحوار سبيلاً حول نقاط الاختلاف، ما يضيف إلى العمل الإنساني، من أجل عالم تعددي، خال من العنف، والقهر، والاستعمار، والتسلط، ويساهم في صنع سلام عادل، لشعوب الأرض كافة.

*****

شدَّتني تجارب شعوب العالم، في تنويع وسائل قص حكاياتها، وفي جعلها حيَّة، نابضة بالحياة، حيث تروي النساء، بطرق متعددة، وبوسائل إبداعية، ما لا تستطيع التعبير عنه بواسطة الكلام. تحيك معاناتها الشخصية ومعاناة شعبها، ومقاومتها لكافة أنواع القهر.

من معاناة النساء في إفريقيا إلى معاناتهن في آسيا، إلى أوروبا، إلى أميركا، وأميركا اللاتينية.

خيوط تتشابك، وتتقاطع، وتمتد بين النساء عبر القارات، لتخلق تواصلاً نسوياً أخاذاً.

مزجت جلسات المؤتمر بين النظرية والممارسة، حيث الاستماع إلى التجارب الغنية، والاستفادة منها، وتعلم مهارات جديدة، ما يتيح لكل مشاركة فرصة المشاركة والتعلم في آن.

ومزجت قصص النساء بين إبراز المسكوت عنه، على الصعيد الشخصي، ومقاومة القهر والظلم والديكتاتوريات والاستعمار. ومن علاقة النسيج بحقوق الإنسان والنضال السياسي (تجربة سانت روك بادالونا/ إسبانيا، وديربان/ جنوب إفريقيا، وفلسطين)، إلى علاقة النسيج بالعلاج النفسي (تجربة الإكوادور، ونيبال وكندا)، إلى المعارض الفنية التي تهدف إلى عرض النسيج كتوعية وشهادات (تجربة تشيلي وإيرلندا وأميركا)، إلى الفيلم الوثائقي الذي يتحدث عن قصة النساء والنسيج في تشيلي.

*****

صاحبتنا قصص نساء العالم؛ همومهن، ودموعهن، وآمالهن، وأحلامهن، طيلة أيام المؤتمر؛ ليس من خلال المشاركات فحسب؛ بل من خلال المعرض الفني، الذي نظم بدقة وحرفية عالية، وبما ينسجم مع موضوع المؤتمر وأهدافه. كان مثيراً ولافتاً كيف يمكن تحويل الخراب والقبح والظلم إلى جمال فني، من خلال الخيوط المنسوجة بمهارة، ومن خلال طريقة عرض اللوحات.

وحين الاستماع إلى تجربة النساء في تشيلي، أثناء الحكم العسكري للديكتاتور: أوغستو بينوشيه؛ وقصص من اختفوا واختفين، في الفترة المظلمة من تاريخهم/ن، وتنوع أساليب النضال للبحث عنهم – منها السياسي ومنها الفني؛ لمعت صور الأحباء ممن فقدناهم، ولم يتم انتشالهم تحت الأنقاض من شعبنا الفلسطيني؛ إثر العدوان الهمجي على غزة منذ شهرين اثنين، وصور المفقودين/ات، ممن دفعهم العدوان والحصار اللاإنساني على القطاع، إلى الهجرة، عبر مراكب الموت.

كما تراقصت أمامي صور ذوي الأسرى الفلسطينيين، وبالذات زوجات وأمهاتهم/ن، الذين لم يكلوا يوماً، عن رفع صور المحبين، والأبناء، والأزواج، مع توثيق للأسماء، وتاريخ الاعتقال، والحالة الصحية، أثناء الاعتصام الأسبوعي في الصليب الأحمر.

من يشعر بعذاب البشر أكثر ممن مرّوا بتجربة مشابهة؟!

*****

طالما نفرت من الأدوار التقليدية للنساء، في مجتمعاتنا العربية، وعلى رأسها الحياكة، حيث يفترض أن واجب المرأة -مهما نالت من مراتب علمية ومعرفية عليا-أن تجيد الحياكة، وأعمال المنزل المتعددة، حتى ترضي شريك حياتها، بما ينسجم مع مسؤوليتها الرئيسة عن الأعمال الرتيبة داخل البيت.

تساءلت في طفولتي: وماذا لو لم أرغب في تعلم الحياكة بواسطة الإبرة والخيط؟! ورغبت في استبدالها بحياكة الكلمات؟! ولماذا يتوجب على النساء أن يتعلمن ما لا يحببن، من أجل إرضاء الغير؟!

من خلال المؤتمر؛ ارتدت الإبرة ثوباً آخر، حين ارتبطت بالقص (هذا ما يقوله النسيج). أما الكلمات فتزيَّنت، وتلوَّنت، وتدوَّرت، وتحوَّلت إلى لوحات فنية موجعة وآسرة في آن.

وحين دخل الخيط من ثقب الإبرة، وامتزج بنسيج النساء، ليروي عن الماضي الذي لا يمكن نسيانه (هذه هي اللحظة التي لن أنساها)، وعن الخفيّ (هذا ما لا أستطيع الحديث عنه)؛ امتدَّ ليشارك في فعل التغيير الثوري، وفي تمكين النساء، على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي، ويربط بين معاناتهن على المستوى الفردي، ونضالهن السياسي والاجتماعي، من أجل الحرية.