موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٧ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٧
800 عام على لقاء القديس والسلطان.. حوار من أجل السلام والعيش المشترك

القاهرة - إميل أمين :

أطلقت الرهبنة الفرنسيسكانية في مصر الأيام القليلة المنصرمة بوق القرن لإقامة الاحتفالات بثمانمائة عام على مجيء القديس فرنسيس إلى مصر ولقاءه مع السلطان الأيوبي الكامل محمد بن العادل الأيوبي، والتي يقدر لها أن تستمر نحو عامين حتى 2019، تاريخ حضور رجل السلام القادم من اسيزي الى مصر.

هنا يعن لنا التساؤل هل هي مصادفة قدرية أم موضوعية أن تجيء الاحتفالات بالمئوية الثامنة في خضم الصراعات الحضارية والمذهبية حول العالم، وعلى خلفية من نظريات مؤدلجة تؤدي بالعالم إلى مزيد من التصادم والاقتتال عوضًا عن التوافق وبسط الأمن والأمان على البسيطة شرقها وغربها؟

مهما يكن من شأن الجواب فإن التأمل مليًا في قصة حضور رجل الله فرنسيس الأسيزي إلى مصر، يمكن أن تكون نبراسًا هاديًا في طريق السلام لا الخصام، فقط إذا توافرت النوايا الطيبة والنوايا الصالحة لدى بني البشر.

ولد فرنسيس الذي سيعرف لاحقًا بالأسيزي في تلك المدينة التي ستشتهر لاحقًا بكونها مدينة الساعين إلى السلام في العالم أجمع، وهي مدينة صغيرة بمقاطعة أومبريا في إيطاليا الوسطى وذلك في أواخر سبتمبر من عام 1182 م.

عرف فرنسيس بحبه للفقراء وزهده لأباطيل العالم، رغم ان أبوه كان "بطرس برنردوني" التاجر الثري، واحد من كبار تجار الأقمشة بالمدينة. كان شغل الأب الشغل هو المال ولا شيء غيره، وقد جاء المال يسعى إليه حثيثًا، ومن العجب أن يرفض فرنسيس المال والسلطان، وأن يؤسس جماعته على التجرد من حب العالم والدعوة إلى السلام والوئام بين الناس، وحتى بين الطبيعة والمخلوقات غير الآدمية، التي كانت تطيعه لما عرفت عنه من رحمة ومودة تجاهها.

والمؤكد أنه ليس ها هنا تفصيل الكلام عن فرنسيس جهة سيرته الذاتية، لكن السعي في هذا المقام هو كيف تمكن فرنسيس من أن يوجد جسرًا بين الشرق والغرب، بين المسيحيين والمسلمين، في ظل الحروب الصليبية المحتدمة في تلك الآونة؟.

كانت الحروب قد اشتعل أوراها في تلك الفترة وقد أحس فرنسيس الأسيزي بحتمية الوقوف في وجه الحقد والكراهية التي تملأ الأجواء بين الشمال والجنوب. كان الأسطول الذي يقل إحدى الحملات الصليبية على وشك الإقلاع من ميناء انكونا، قاصدًا الأرض المقدسة في فلسطين، ومن هناك ركب فرنسيس السفينة مع أحد أخوانه "الوميناتو"، كان ذلك في 4 يونيو من عام 1219 م، وفي منتصف يوليو من ذات العام رست السفن في ميناء عكا.

لم يلبث فرنسيس أن انطلق والأخ "الوميناتو" إلى دمياط التي كان يحاصرها الصليبيون، والتي كان يدافع عنها المصريون ببسالة منذ أكثر من سنة، فلما وصلا المعسكر المسيحي، والعهدة هنا على الرواة الذين أرخوا لحياة الأسيزي من أمثال العلامة بونافنتورا"، راعه أن يرى الفوضى والفساد والعداوات الوحشية، والنهب والسلب والمواخير النجسة تسود المعسكر في ظل الصليب.

كان من بين الأسباب التي جعلت من البابا أوربان الثاني يقوم على إعلان تلك الحروب، القول بأن العرب والمسلمين يمنعون الحجاج المسيحيين من الوصول إلى مدينة القدس لتأدية شعائرهم الروحية. غير أن صيحة فرنسيس في دمياط كانت مخالفة لجوهر الذريعة الرئيسية لتلك الحروب التي شابتها اللاخلاقية وكساها جشع وطمع تجار المواني الإيطالية، وهذا حديث تحليلي قائم بذاته.

على الأراضي المصرية صرخ فرنسيس "ليس هم الشرقيون" الذين يسدون الطريق إلى الأرض المقدسة، بل غضب الله العادل". كان مقصد الصوفي الإيطالي الأشهر، ومؤسس جماعة الفرنسيسكان، ذات الرداء البني والحبل الأبيض، والتي هي أهم وأقدم الأخويات الكاثوليكية المنتشرة في كافة بقاع الأرض، كان مقصده الإشارة إلى أن الشرور المرتكبة في حق أهالي تلك البلاد، والموبقات التي تستصرخ السماء، سوف تتحول إلى لعنات تمنع وصولهم إلى الأرض المقدسة.

وإذ بلغ فرنسيس أن الصليبيين يعدون العدة لمهاجمة المصريين، حذرهم أكثر من مرة بأن الهزيمة ستكون لا محالة من نصيبهم ومصيرهم، وأن هزيمتهم هذه ستكون دامية نكراء، وقد تم بالفعل ما تنبأ عنه فرنسيس، فقد سقط من الصليبيين في هجومهم على قلعة دمياط يوم 29 أغسطس أكثر من خمسة آلاف جندي.

ويخبرنا كاتبو سيرة فرنسيس الأسيزي مثل توما الشيلاني، أنه إبان إقامة فرنسيس بدمياط، استطاع الصليبيون لاحقًا الاستيلاء على قلعة المدينة وتدميرها، وقد كان ذلك الهجوم بالغ العنف لم تقو على صده مقاومة الحامية والأهل المستميتة. وشاء الصليبيون أن ينتقموا لقتلاهم في الهجوم الأول الفاشل فدكوا المنازل والمساجد والميادين، التي اختلط فيها صوت السلاح بأنين القتلى والجرحى، وصراخ النسوة والأطفال.

تعرف فرنسيس على سلطان مصر الملك الكامل بن العادل الأيوبي، والذي أعجب بشجاعة فرنسيس ومحبته وصدقه وصفاء معتقداته الإيمانية، ومواقفه العادلة الإيمانية حتى من بني جلدته، فاستقبله استقبالاً فيه كثير من الفروسية والشهامة والإيناس، وقربه إليه، وقدم له منحًا وهدايا ثمينة. على أن أهم ما حصل عليه هو تصريحًا كتابيًا يمنحه الحق في زيارة الأماكن المقدسة في فلسطين، والوعظ في طول البلاد وعرضها متى يشاء.

غادر فرنسيس ميناء دمياط منطلقًا إلى الأراضي المقدسة حتى ينسى ما رأت عيناه من مذابح مروعة، وفناء ودمار يعيد إلى روحه المضطرب المحزون التعزية والسكينة اللتين كان يفتقر إليهما. وفي القدس اتصل الاسيزي بالسلطان عيس سلطان دمشق مستخدمًا كتاب التوصية الذي أخذه من سلطان مصر، وطلب منه التصريح له ولرفاقه بالإقامة في مقر متواضع فوق جبل صهيون، بهدف رعاية المقدسات المسيحية الموجودة فوق الجبل، وخاصة "علية صهيون"، وكانت هذه العلية عبارة عن مبنى مكون من طابقين في أولهما قاعتان وفي ثانيهما قاعتان أخريان، هما المسميتان بعلية صهيون وبحسب التقليد المسيحي، فإنه في القاعة الغربية منهما تناول السيد المسيح العشاء الأخير مع تلاميذه.

كتب المؤرخون أن ما كسبه فرنسيس الأسيزي في رحلته هذه فاق ماهو أرفع وأنفع من أربعين موقعة حربية. لماذا؟ لأنه ببساطة الزاهد استطاع بمحبته وحواره السلمي، أن يصنع وحده ما لم تستطع الجيوش أن تقوم به، فلقد بنى فرنسيس جسرًا من الثقة والحوار المتواصل مع سلاطين العرب، وأئمة الإسلام والمسلمين في البلاد العربية، التي زارها.

كان فرنسيس ضد الحملات الصليبية التي لم تكن المسيحية أبدًا حاضرة فيها، كانت حروب قادها كبار الإقطاعيين التجار الطامعين، الذين رأوا فيها فرصة سانحة لتحقيق مطامعهم المادية، التي لا تشبع بينما ذهب هو صليبية المحبة، وبذل الذات، وإيثار الآخر ومحبة القريب والغريب والصفح عن الأعداء.

في خواتيم حياته كان الاسيزي يدرك بإلهام علوي، أن الشقاق والفراق الذي كان سائدًا في أيامه، ربما يستمر إلى أجيال وأجيال، ولذلك وجه رسالة إلى قادة الأمم والشعوب جاء فيها "من فرنسيس خادم الله إلى قادة الشعوب":

• تبصروا وانظروا في حياتكم، لا تدعوا مشاغل وهموم هذه الدنيا لتنسيكم اله ، وتجعلكم تحيدون عن وصاياه، لأن كل الذين ينسونه ويخرجون عن طاعته يبغضهم ولا يعود يتذكرهم.
• وعندما يحين أجلهم فإن كل ما كان يحسبونه ملكًا لهم سيذهب منهم.
• وكذلك فإن كل ما لديهم من قوة أو علم أو حكمه فإنه إذا لم يكرس للخير سيعود عليهم بالعذاب الشديد في الآخرة.
• لهذا السبب فإنني يا سادتي ألح عليكم في النصيحة والقول، بأن تلقوا جانبًا كل قلق وهم بفرح كبير، وبادروا إلى استقبال الله في قلوبكم.
• مجدوا الله وعظموه أمام جميع أفراد الشعب الموكلة إليكم سياسته ورعايته، أعلنوا لهم بكل الوسائل وفي جميع الأوقات، بأن على الجميع واجب تقديم المديح والشكر للرب الإله.
• اعلموا أنكم إذا لم تفعلوا هذا فإنكم ستقدمون عنه حسابًا عسيرًا أمام الله يوم الدين.
• أما أولئك الذين يحفظون هذه الوصية أمام الله يوم الدين ويعملون بموجبها فإنهم مباركون من الله.

لقد سلك فرنسيس، المتسلح فقط بإيمانه ووداعته الشخصية، درب الحوار بفعالية، وأصبح مثالاً يجب أن تستوحى منه العلاقات بين المسيحيين والمسلمين اليوم: تعزيز الحوار في الحق، والاحترام المتبادل والتفهم المتبادل.

ولا شك أن ذلك اللقاء قد صحح لدى كل من الرجلين فكرة مسبقة خاطئة عن معتقد الآخر، فاتضح لفرنسيس أنه يمكن أيضًا عبادة الله الواحد خارج المسيحية، كما تبين للملك الكامل أن المسيحيين الحقيقيين هم دعاة حب وسلام.

كانت زيارة فرنسيس لمصر خطوة مسكونية قبل الآوان ومنطلقًا لحوار نسعى إليه الآن في محاولة لانقاذ البشرية من مصائرها الصائرة والسائرة إليها على دروب الألم. ويبقى شعار فرنسيس الأشهر عبر الأزمان: يا رب استعملني لسلامك فأضع الحب حيث البغض، والمغفرة حيث الإساءة، والإيمان حيث الشك، والرجاء حيث اليأس.