موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٧ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٩
من السقوط.. عبر تابوت العهد.. إلى بشرى الخلاص

عمان - فادي حداد :

نعيد اليوم عيد الحبل بلا دنس، وهو عيد الحبل بأمنا مريم العذراء دون وصمة الخطيئة الأصلية، باستحقاقات ابنها يسوع المسيح وآلامه التي سيعانيها في حياته بعد أن تكون الباب له إلى هذا العالم. فافتديت وكانت ممتلئة نعمة منذ ولادتها، حتى تكون أمومتها الإلهية خالية من دنس الخطيئة. وقد أدركت الكنيسة وآباء الكنيسة هذه الحقيقة وتظهر جليًا في كتاباتهم، دون الحاجة إلى ذكر معجزات ظهور سيدتنا العذراء في لورد للقديسة برناديت معرفة عن نفسها أنها "الحبل بلا دنس".

ولهذا نرى الكنيسة الكاثوليكية تؤمن بهذه العقيدة وتعيّدها في الثامن من كانون الأول من كل عام، بعد بضعة أشهر من عيد آخر وهو عيد انتقال السيدة العذراء بالنفس والجسد إلى السماء الذي تعيده الكنيسة في شهر آب. ويرتبط العيدان معًا بشكل وثيق حتى يكاد يصعب تفريقهما. ولهذا فإنه من المناسب أن نبحث في سطور الكتاب المقدس ونرى ما يحويه ويرويه لنا عن هاتين العقيدتين.

في البدء خلق الله كل شيء من العدم وكان كل ما صنع حسن. وخلق الإنسان على صورته كمثاله وأعطاه السلطة على كل الخلائق. فخلق الله آدم، وأعطاه عوناً له فسماها آدم إمرأة، وثم حواء لأنها أم كل حي. وأعطاهم الله حياة سعيدة ورغيدة حتى السقوط. فمع معصية آدم وحواء كانت بداية الخطيئة ودخل الموت إلى العالم، وانفصل الإنسان عن الله وطرد من جنة عدن.

وعندها حل العقاب بآدم وحواء، ولعن الله الحية. ولكن مع هذه اللعنة والعقاب أعطى الله وعداً للإنسان فيه أمل ورجاء رغم هذا الموت، فقال للحية: "سأجعل عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها فهو يسحق رأسك وأنت تصيبين عقبه " (تك 3: 15).

وبعد هذا العهد وتوالي سقطات الإنسان، عزم الله أن يبدأ من جديد مع الإنسان وقطع عهداً مع نوح، فإبراهيم، ثم اسحق فيعقوب ووعدهم أن لا يكون لنسلهم نهاية، بل تتبارك الأمم كلها من نسلهم.

ونجد الله يقطع عهداً مع موسى وشعب اسرائيل في صحراء سيناء بعد خروجهم من مصر، ويعطيه الوصايا العشر على لوحي الشريعة، ويطلب من موسى أن يبني بيت الله ويضع فيه تابوت العهد الذي هو الأقدس في قدس الأقداس، إذ كان يدل على حضور الله وتواجده بين شعبه عندما تحل روحه عليه. فكان لا يستطيع أن يلمسه أحد لقدسيته وكان كل الشعب يقدسه ويكرمه، دون انتقاص من مكانة الله.

وعندما نقرأ في (2 صموئيل 6) نجد أن الملك داوود يذهب إلى بعلة يهوذا ليجلب تابوت العهد بفرح وورع، فحتى الملك ذاته لم يجد أنه يستحق أن يحل تابوت الرب عنده وقال: "كيف ينزل تابوت الرب عندي؟" فأخذه إلى بيت عوبيد آدوم الجتي وبقي هناك 3 أشهر فبارك الرب عوبيد آدوم وبيته. وبعدها عاد الملك داوود ليصعد التابوت إلى مدينة داوود وهو يرقص بكل قوته أمام الرب، الذي اختاره وجعله ملكاً على اسرائيل.

وأما قدسية هذا التابوت فتعود لما يحتويه، ففيه لوحي الشريعة منقوشة بإصبع الله، ووعاء من ذهب يحتوي المن الذي أعطاه الله لشعبه خبزاً مأكلاً من السماء في البرية، وكذلك عصا هارون الممسوح هو وسبط لاوي بأجمعهم كهنة للرب. فقد جعل الرب تابوتاً من خشب السنط أن يكسى بالذهب الخالص ليحل عليه مجد الرب.

وبعد سقوط مملكة داوود وقبل السبي البابلي نقرأ في سفر المكابيين أن النبي إرميا أخفى تابوت العهد ولا يزال مخفياً إلى اليوم. ولكن الله أعطى لشعبه على لسان إرميا الوعد بعهد جديد، لا كالعهد مع آبائهم الذين نقضوا العهد، بل العهد "هو أني أجعل شريعتي في بواطنهم وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلها وهم يكونون لي شعبا" (إرميا 31: 33).

وكما نعلم فهذا العهد تحقق بمجيء المسيح وعمله الخلاصي على الأرض، ولكن قد يخفى عن أعيننا الكثير مما كان جلياً للتلاميذ والرسل الأولين، فقد كان اليهود يحفظون كلام العهد (القديم) عن ظهر قلب، فلما كان الرسل يعلنون بشرى العهد الجديد كان يفهمه اليهود في ضوء العهد القديم، فالعهد القديم تنبأ بالعهد الجديد، وأما العهد الجديد فقد كشف الغطاء عما لم يكن جلياً في العهد القديم.

ففي (1 كور15) نجد القديس بولس يربط علناً المسيح بآدم فيقول: "عن يد إنسان أتى الموت فعن يد إنسان أيضا تكون قيامة الأموات، وكما يموت جميع الناس في آدم فكذلك سيحيون جميعا في المسيح"، ويعلن صراحة تحقيق العهد الذي منذ القدم بأن نسل المرأة سيسحق رأس الحية، إذ يقول: "فلا بد له أن يملك (حتى يجعل جميع أعدائه تحت قدميه). وآخر عدو يبيده هو الموت، لأنه (أخضع كل شيء تحت قدميه)"، فالمسيح هو آدم الجديد. ولكن ماذا عن حواء؟

إذا نظرنا إلى حواء بحسب الأحداث المذكورة في سفر التكوين، نجد أن ما نعرفه عنها هو ما يلي:
-,"هي عظم من عظامي ولحم من لحمي"
-,تدعى "إمرأة" لأنها من إمرء أخذت
-,استمعت حواء إلى كلام الحية وصدقته وعصت الله
-,لعن الله المرأة (حواء) فأصبحت بالألم تلد البنين
-,سمى آدم المرأة حواء لأنها أم كل حي
-,جلبت حواء الموت إلى العالم
-,جعل الله عداوة بين نسل الحية ونسل المرأة، فنسل المرأ سيسحق رأس الحية

فإذا كان المسيح هو آدم الجديد، فهل من حواء جديدة؟

نجد في العهد الجديد أن آدم الجديد أي المسيح يسوع هو من عظم ولحم مريم العذراء، التي دعاها "إمرأة" في عرس قانا الجليل. ونرى أن حواء صدقت كلام الحية وعصت الله، وأما مريم فنجدها تسمع لصوت ملاك الرب وتقبله بإيمان فتطيع الله. حواء جعلت آدم يقدم على عمل أول خطيئة، وأما مريم فقد جعلت المسيح يقوم بأولى معجزاته. وبينما لعن الله حواء، فقد بارك مريم وسماها "الممتلئة نعمة" وذلك بصيغة الحال، أي حالتها الفعلية عند البشارة آنذاك وليس صيغة المستقبل بعد حلول الروح القدس عليها بعدما قالت ال"نعم" لمشيئة الله في حياتها. وإذا كانت المرأة الأولى سميت حواء لأنها أم كل حي مع أنها جلبت الموت إلى العالم، فما أحرانا أن نسمي العذراء التي كانت أم الحياة بحد ذاتها "فيه كانت الحياة" (يو 1: 4) وقد جلبت هذه الحياة إلى العالم بأسره. وهي التي حَبِلت من الروح القدس، فكان المولود قدوساً من "نسل المرأة" من دون أن تعرف رجلاً كما اقتضى العهد، فنجد أن العذراء هي حواء الجديدة.

فبهذا احتلت العذراء مكانة خاصة في الكنيسة لكونها أم الله، والتي فتحت ال"نعم" منها أبواب الفردوس من جديد بعد أن أغلقتها حواء. ونجد العذراء ترافق التلاميذ في الكنيسة الآولى، وكانت في وسطهم عند حلول الروح القدس على التلاميذ بحسب أعمال الرسل، ولكننا لا نجد ذكراً لها بعد ذلك في الكتاب. ولكن الكنيسة لطالما رأت في سفر الرؤيا 12: 1 ذكراً واضحاً لها: "وظهرت آية عظيمة في السماء: امرأة ملتحفة بالشمس والقمر تحت قدميها" والتي تضع إبنها الذي يرعى الأمم بعصا من حديد ويخطف إلى حضرة الله وعرشه، وهذا الابن هو بلا شك المسيح، فتكون تلك المرأة هي مريم العذراء. ونجد الكنيسة تؤمن يقيناً بعقيدة انتقال السيدة العذراء بالنفس والجسد إلى السماء.

وإذا نظرنا إلى قراءات الكنيسة في عيد الانتقال نجد أنها هي ذات النصوص التي ذكرناها آنفاً، (رؤيا 11: 19، 12: 1-6، 10) و(1 كور 15: 20-27). أما نص الإنجيل (لوقا 1: 39-56) فنجده يروي لنا زيارة مريم لخالتها أليصابات في مدينة في يهوذا، ونجد اليصابات تهتف "مباركة أنتي في النساء.. من أين لي أن تأتيني أم ربي؟" فنجد ربطاً عجيباً مع ما ورد في (2 صموئيل 6) لدى لقاء داوود بتابوت الرب في مدينة يهوذا، وكما رقص داوود أمام هذا التابوت، نجد المعمدان يرتكض فرحاً لدى وقع صوت سلام مريم على مسمع اليصابات، وكما تصاغر الملك داوود وتواضع ورقص فرحاً أمام عظمة الرب، نجد مريم تتهلل بتواضع بما أنعم عليها الله، مدركة أنها الأمة الوضيعة التي صنع بها الرب العظائم، وسوف تطوبها جميع الأجيال، ويذكر الانجيل أنها بقيت 3 أشهر عند خالتها كما بقي التابوت 3 أشهر في بيت عوبيد آدوم الجتي.

وهنا نجد رابطاً عظيماً وخفياً، فنرى تشابه الأحداث هذا في (لوقا 1) و(2 صموئيل 6)، واذا تمعنا ملياً نجد ما هو أعظم من ذلك. فقد كان تابوت العهد يحمل لوحي الشريعة، كلمة الله المنقوشة على الحجر، أما مريم فحملت كلمة الله الحية، يسوع المسيح. وكان التابوت يحمل أيضاً المن، الخبز الذي أكله شعب الله في البرية، وأما مريم فقد حملت الخبز الحي النازل من السماء، جسد ابنها يسوع المسيح. وإن كان تابوت العهد يحمل عصا هارون الكاهن، فقد حملت مريم يسوع المسيح الكاهن الأعظم. فمريم هي حواء الجديدة وأيضاً تابوت العهد الجديد الذي حملت في أحشائها المسيح الذي كانت كل الأحداث فيما مضى منذ الزمان الأول والخطيئة الأولى تمهد الطريق لمجيئه. لم تكن مباركة من تلقاء ذاتها كما لم يكن التابوت المصنوع من خشب مقدساً بحد ذاته، ولكن الله كساه بالذهب الخالص ليكون الإناء النقي ليحوي بداخله ما هو مقدس ويكون مقدساً، فكذلك مريم فقد كانت "الأمة" ولكن الله غطاها وملأها بالنعمة ووصمها من الخطيئة والدنس منذ ولادتها لتكون ذلك الإناء الطاهر ليحمل بداخله نبع الطهارة والقداسة بذاتها.
لننظر إلى آدم القديم وحواء القديمة وقد ولدا في حالة النعمة دون وصمة الخطيئة، ونحن ندرك يقيناً أن آدم الجديد أيضاً لم تمسه الخطيئة إذ "كان شبيهاً لنا في كل شيء ما عدا الخطيئة" (عب 4: 15) فكم بالأولى أن تكون حال حواء الجديدة التي اصطفاها الله لتلد لنا المخلص؟ وإن كان تابوت العهد مقدساً ومكرماً لدى شعب الله كله دون انتقاص من مكانة الله، وكان لا يستطيع أحد أن يمسه فبقي طاهراً دون أن يدنسه أحد وأخفاه الله حتى لا يدنس على يد إرميا، فما حال العذراء التي حملت "الكلمة" المتجسد؟

فإن كان القديم نال كل تلك الحظوة لدى الله والناس وهو إلى الزوال بمجيء الجديد "ها إني أجعل كل شيء جديداً" (رؤيا 21: 5)، فكم بالحري يكون حال الجديد الذي أعده الله ليدوم إلى الأبد؟

وفي الختام لا يسعنا في هذا اليوم إلا أن نرفع إلى أمنا العذراء صلواتنا وتضرعاتنا وهي المنزهة عن كل عيب والشفيعة لنا لننال رحمة من عند ابنها سيدنا يسوع المسيح، فهي التي كانت الشفيعة الأولى في عرس قانا الجليل لأولى معجزات ابنها، قبل أن تأتي ساعته، فكم بالحري أن تتشفع لنا الآن وقد تم عمل الفداء، وقد أعطاها المسيح أمًا لنا جميعًا على الصليب؟

فقد قام المسيح آدم الجديد من بين الأموات وأخذ معه أمه العذراء حواء الجديدة أم كل حي في المسيح أي أم الكنيسة وتابوت عهده الطاهر الذي بلا دنس إلى السماء، فنترنم كما يترنم المزمور 132: "قم يا رب إلى مكان راحتك أنت وتابوت عزتك".