موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٣٠ ابريل / نيسان ٢٠١٩
مبعوثو ترامب والمسيحيون الفلسطينيون في الأرض المقدسة

السفير عيسى قسيسية :

ساد إعتقاد ما بأن قرار إدارة ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، في انتهاك للسياسة الخارجية الأمريكية وقرار مجلس الأمن رقم 478، جاء من أجل إرضاء فئة هامة من المسيحيين الإنجيليين والمُشار إليهم أيضًا باسم "الصهاينة المسيحيون". إلا أن أحد أكبر التناقضات هو أن القرارات التي اتخذتها إدارة ترامب أحدثت ضررًا خاصًا بالوجود المسيحي في فلسطين، ولذلك خرج رؤساء الكنائس في القدس ببيان موحد عشية إعلان ترامب يعبّرون فيه عن رفضهم لمثل هذه الخطوة غير القانونية.

المسيحيون الفلسطينيون مكون أصيل ورئيسي من مكونات شعبنا الفلسطيني، حيث ينتمون إلى 13 طائفة مختلفة بالإضافة إلى كنائس إنجيلية نشأت مؤخرا. وقد كدحوا جنبًا إلى جنب مع إخوانهم المسلمين نحو الإزدهار والتطور في فلسطين، وحازوا وسائل إعلام رئيسية، منها تلك التي عارضت بشدة وعد بلفور الخاص بفلسطين، وأهمها جريدة "فلسطين" لعيسى العيسى التي صدرت في مدينة يافا حتى عام 1948. في الواقع، كان المفكرون العرب المسيحيون روّاد القومية العربية التي حاربت الإمبراطورية العثمانية وقاوموا بعد ذلك الانتداب البريطاني والمخططات الصهيونية في فلسطين. ولا يزال يتذكر البعض موقف البطريرك اللاتيني في القدس لويس برلسينا الذي عارض باستمرار الانتداب البريطاني، تمامًا كمطران الروم الكاثوليك غريغوريوس حجار الذي أصبح أحد أقوى الأصوات الداعية إلى التحرر العربي حتى استشهاده عام 1940 في سبيل تحرير فلسطين.

خلّفت نكبة عام 1948 آثارًا كارثية على الشعب الفلسطيني بمن فيهم الفلسطينيين المسيحيين، حيث تمّ طرد العشرات من منازلهم، من البصة إلى صفد ومن البروة إلى عين كارم، ومن القطمون والطالبية، بينما تمّ تقليص عدد المسيحيين في يافا وحيفا إلى الحد الأدنى. وهكذا تم التعامل مع حالات معينة من قبيل الطائفة الأنجليكانية في حيفا التي تمّ تقليص عدد أفرادها من 1200 إلى 150 شخصًا بحلول شهر أيار عام 1948، فيما تضاعف عددهم في المهجر، إذ تشير التقديرات إلى أن حوالي ثلثي السكان الفلسطينيين المسيحيين أصبحوا لاجئين عام 1948. وعلى الرغم من محاولات بعض المسيحيين في الغرب تصوير إقامة دولة إسرائيل على أنه "معجزة" إلا أن العواقب التي عانى منها السكان المسيحيين الأصليين تروي رواية مختلفة أقرب إلى "طريق الآلام" منها إلى "القيامة".

وبعد عام 1967، عندما احتلت إسرائيل بالقوة ما تبقى من فلسطين التاريخية أي 22% منها، بدت ظاهرة أخرى بالبروز، ففي الوقت الذي لم تخلق فيه حرب عام 1967 تدفقًا هائلاً لللاجئين الفلسطينيين كما حصل أثناء نكبة عام 1948، كانت المخططات الإسرائيلية تهدف إلى السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض الفلسطينية عن طريق بناء مشروع إستيطاني إستعماري توسعي. وكانت القدس الشرقية المحتلة ومحيطها من أهم المناطق التي تركّز فيها الاستيطان الإسرائيلي ليومنا هذا.

ومع الضّم غير القانوني للمدينة المقدسة بدأت معاناة مدينة بيت لحم، حيث تمّ عزل هذه المدينة التي وُلد فيها السيد المسيح عن توأمتها مدينة القدس لأول مرة منذ نشوء المسيحية قبل نحو 2000 عامًا. وقد واجهت العائلات المسيحية الفلسطينية الأخرى في محيط مدينة القدس، ومن الطيبة وعابود وبيرزيت وعين عريك في الشمال إلى بيت جالا وبيت ساحور في الجنوب والعيزرية (بيت عنيا) إلى الشرق صعوبات جمّة في الوصول إلى الأماكن المقدسة في القدس، وعانت من سياسة منع العمران الفلسطيني، وإلغاء بطاقات الهوية، وطلبات لمّ الشمل التي تقدمها العائلات الفلسطينية لسلطات الإحتلال الإسرائيلية للعيش في القدس، ممّا كان له عظيم الأثر على وجود العائلات الفلسطينية في القدس الشرقية المحتلة بأكملها، بما في ذلك الآلاف من الفلسطينيين المسيحيين.

ومما لا شك فيه أن الوضع على الأرض قد تفاقم بعد اتخاذ إدارة ترمب قرارها بالاعتراف بالقدس "كعاصمة لدولة إسرائيل" مما مكّن إسرائيل، السلطة القائمة بالإحتلال، من المضي في سياساتها التي تحرم شعبنا من حقهم في تقرير المصير، تضاءلت معها احتمالات التوصل إلى حل سياسي، وازدادت التساؤلات حول مستقبل الوجود الفلسطيني المسيحي في الأرض المقدسة! كان البطريرك اللاتيني السابق ميشيل صباح، وهو أول فلسطيني يصبح رئيسًا للكنيسة الكاثوليكية في القدس، يُذكّر دائمًا جماعة المؤمنين بأهمية إبقاء الأمل حيًّا في نفوسنا، لكن ماذا يعني الأمل في مثل هذا الوضع الذي يعانيه الشعب الفلسطيني اليوم؟ إن القرارات غير القانونية والأحادية التي اتخذتها إدارة ترامب والتي تدّعي من ضمنها الاهتمام بـ"حقوق المسيحيين" في الشرق الأوسط لها أثر مناقض على أرض الواقع. ولهذا، فإن الحاجة لإتخاذ تدابير ملموسة تمكن شعبنا من ممارسة حقوقه التي طال انتظارها أصبحت أكثر أهمية من أي وقت مضى إذا أردنا الحفاظ على احتمالات تحقيق السلام. ولا يكمن الحل في انتظار إدارة ترامب تقديم خطتها الرامية إلى إضفاء الشرعية على الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي، فمبعوثي ترامب كوشنر وفريدمان وغرينبلات، ووفقًا لأيديولوجيتهم العقائدية، لا يقميون وزنًا للفلسطينيين المسيحيين في الأرض المقدسة. وأكد على ذلك فريدمان حين قال: "الآن جعلت الولايات المتحدة القدس عاصمة الشعب اليهودي، لقد فعل ذلك الملك داود قبل نحو 3000 سنة بتوجيه من الله".

سيحتفل الفلسطينيون المسيحيون بعيد القيامة المجيد هذا العام في بلد يرزح تحت الاحتلال وفي المنافي ومخيمات اللجوء. أمّا أؤلئك المسيحيون -الذين لا يتم اعتبارهم أصلاً مواطنين في مدينتهم التاريخية- وحصلوا على تصاريح عسكرية إسرائيلية لدخولها فقد يحالفهم الحظ في الاقتراب أكثر من الأماكن المقدسة في المدينة المقدسة، ولا زال يساورهم القلق ويتملكهم الخوف حول حقهم الطبيعي والإنساني بإقامتهم في المدينة المقدسة، لكنهم مع ذلك سيواصلون النضال من أجل حريتهم وكرامتهم رغم السياسات الظالمة تجاه حقوقهم في مدينتهم.

وفي ضوء ما تشكله الأرقام من مصدر كبير للقلق وتدق ناقوس الخطر، فإن القيادة الفلسطينية ومن خلال لجنتها الرئاسية لشؤون الكنائس وبالتنسيق مع رؤساء الكنائس في القدس والعالم المسيحي تقوم بعمل كل ما يمكن عمله لإنقاذ ما تبقى من الوجود المسيحي الوطني الأصيل وخاصة في القدس.

وفي الوقت الذي يجلب فيه عيد الفصح المجيد مئات الملايين من المسيحيين من جميع أنحاء العالم إلى القدس، تتطلب الضرورة القيام بإجراءات عاجلة لإجبار إدارة ترامب على التراجع عن الخطوات التي اتخذتها، وإنقاذ احتمالات تحقيق سلام عادل ودائم في الأرض المقدسة من أجل استعادة مكانة المسيحيين الفلسطينيين في فلسطين. وبمناسبة أسبوع الآلام، سوف تبقى مدينة القدس رمزًا لحياة جديدة على الأرض، تبعث الأمل في حياة جديدة بعد الموت، حيث ينتصر فيها الحق والعدل.