موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ١٤ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠١٩
لماذا كل هذه التشوهات؟

وفاء الخضراء :

مجموعة أسئلة تحمل قضايا جوهرية، تؤرق العالم وتؤرقنا، أطرحها وأترك الإجابة للقراء، كل حسب رؤيته، إذ لم نحسم موقفنا منها بعد.

لماذا لم يستطع العالم، ونحن جزء منه، أن يقضي على ثقافة التهميش لغاية الآن؟ ولماذا تجده أحياناً مشكلاً نفسه من خلال ثنائيات غير متكافئة تعطي طرفاً استحقاقات وامتيازات وتضع الطرف الآخر في فئة الأقل فرصاً وموارد والأفقر حقوقا؟

قد يجد البعض تبريراً عقلانياً ومنطقياً لهذا الطرح مفاده أن المجتمعات التي عملت برأسمال بشري عالي الإنتاجية والأداء وبرؤية استباقية مستقبلية ريادية وبمنظومة أخلاقية سامية وبعقد مجتمعي واضح المعالم، تضع ضمن أولوياتها الأمن الإنساني وتمكين المواطنة، لهي قادرة على تبوؤ مكانتها “السيادية” في الاقتصاد والسياسة والثقافة والمعرفة.

وهذا مسوّغ يمكن أن يعتد به. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا استطاع التهميش – وعياً ومفهوماً وأداة – أن يكون عابراً للأزمنة والأمكنة حتى في الدول التي حققت مؤشرات عالية في الأمن الإنساني والحقوقي؟

ورغم أن العالم في هذا القرن أضحى ينتج ذكاءه الاصطناعي ويصنع جيناته واقترب كثيرا من فك ألغاز علمية هائلة ، فإنك تجده “متعثراً” في حل لغز تحقيق المساواة الحقوقية والعدالة بمفهومها المطلق وحتى النسبي. هل لأن العالم تشرب الفروقات ما بين الدول والشعوب والفئات واعتاد عليها فتعود النظر من خلالها دون أن يسأل لماذا هكذا؟

هل لأننا نسلّم بأننا نولد لفئات مجتمعية تحدد أمكنتنا وأدوارنا وفرصنا فنتقبّل حتمية الفروقات المنبثقة عنها والتي تحكم مصائرنا ؟ أم لأن الأساطير الثقافية تشكل رؤية المواقع والأدوار وبالتالي تمنهج فروقاتنا وعلاقات القوة فيما بيننا؟ أم هل لأن العقل “يتطبع” فينجرف وراء أنماط من سلوكيات التفكير المبنية على ثنائيات متضادة في المفهوم والدلالة والقيمة ولهذا يتخيل العقل الفراغات والمساحات البينية للعلاقات البشرية ضمن ثنائيات الأنا/والآخر ؟ أم لأن “البيولوجيا” اختُطِفت ثقافياً وسُيِّست لتلعب دورا حاسما في تحديد أوزان “وقيمة” كل جين وكل جنس وكل عرق وكل لون؟

أم لأن السياسات الاقتصادية في المشهد العالمي الراهن تلعب دوراً في صياغة أعراف الاستحقاق في ملكية الموارد والخدمات على أساس مادي “وفروقاتي”؟ أم لأن فلسفة التهميش قد تكون مُتخفّية في التشريعات والقوانين أو مختبئة في السياسات العالمية؟ أو لربما لأن التهميش تمترس عبر التاريخانيات ليكون مكونا أساسيا في سيسيولوجية الأدوار والهويات التي تؤثر فيها -وربما تشكلها- علاقات القوة المحلية السائدة وعلاقات القوى العالمية؟

أم لأن التهميش محركٌ من قبل سيكولوجيات هوياتية “تُشرعن” جوهر الهوية وذاتيتها ووجودها بناءً على قدرة هذه الهويات في تشكيل الآخر بالنسبة لها وتهميشها أو إقصائها له؟

ثم ما هي السلوكيات المجتمعية التي تُنتجها قوالب التهميش تلك؟ ما هي عادات التفكير والتعبير والتطبيق التي تُكوّنها ثقافة التهميش؟ وما هي سلوكيات العيش والتواصل والاتصال التي تُشكّلها سيسيولوجيات التهميش؟ وما هي أشكال الحريات والديمقراطيات والبرلمانات التي تفرزها سياسات متجذرة في التهميش؟ وما هي علاقات الأفراد في الأسرة وفي المجتمع وفي المؤسسات إذا كانت منبثقة من أدبيات التهميش؟

كيف تُبنى الفروقات بين الأفراد والجماعات والفئات لتجعل من الاستحقاق والحظوة والاستقواء حقاً مكتسباً ومكفولاً لطرف ما بينما تجعل من التردد والخوف والنزوح الدائم من مركز الحدث أو القرار مصير الطرف الآخر؟ هل يمكن أن تفرز ثقافة التهميش ثقافةً تبرر العنف الموجه ضد المهمشين “والأقل” حظا والأفقر حقوقاً فتستقوي هذه الفئات على النساء والفتيات والأطفال وكبار السن والأقليات العرقية والإثنية والمذهبية والدينية وذوي الإعاقات وتتغوّل على البيئة والطبيعة وعلى الحيوان؟

وأخيراً وليس آخراً، هل المنظومات الاقتصادية العالمية الحالية تؤصل لعنف اقتصادي يزيد من ألم البون بين الغنى والفقر؟

هذه أسئلة أستنبطها من ارتفاع نسب العنف الموجه ضد المستضعفات والمستضعفين وأستشفها من النداءات المتكررة في معظم الدول ومن التحولات الراهنة التي تجنح نحو العدالة والمساواة الحقوقية المبنية على التعاطف والمودة والرحمة والتشاركية ما بين الأفراد والجماعات.

خُلقنا “من ذكر وأنثى”، وأكرمنا أتقانا؛ فلماذا كل هذه التشوهات؟

(الغد)