موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٣١ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٥
كميل حشيمة: راهب عشق اللغة وأرّخ مسيرة الأدب العربي المسيحي

القاهرة - ذوات :

عن ثلاثة وثمانين عاماً، أمضى منها خمسة وستّين في الرهبانيّة اليسوعيّة، رحل في الثالث من الشهر الجاري علّامة اللغة العربية كميل حشَيمة المختص بالأدب العربيّ المسيحيّ والأستاذ الجامعي السابق، وصاحب أكثر من ثلاثين كتاباً بين مؤّلف ومترجم، وعشرات المقالات البحثية. والذي ظل، رغم وطأة المرض، يعمل بجدّ ومثابرة على إنجاز المجلّد الثامن من موسوعته "المؤلّفون العرب المسيحيّون" المكوّن من اثني عشر مجلّداً، لكن لم تسعفه الحياة من أجل إتمامه.

أبصر حشيمة النور في المنصورة في مصر، ثمّ انتقل للدراسة في المعهد الثانويّ لجامعة القدّيس يوسف، وحاز على البكالوريا اللبنانيّة والبكالوريا الفرنسيّة في العام 1951، وما لبث أن اختار طريق حياته في الرهبانيّة اليسوعيّة ابتداءً من السنة نفسها، حيث تابع مقرّرات الإجازة في الفلسفة واللاهوت في شانتييه في ضواحي باريس، ومن بعدها الإجازة في الآداب في السوربون، وإثر ذلك الدكتوراه في الآداب العربيّة من جامعة ليون الشهيرة في السنة 1967.

ومن ليون انتقل حشيمة مباشرة إلى مدرسة القديس يوسف، حيث عيّن مديرًا عامًا لـها حتّى السنة 1975. ومن السنة 1975 إلى السنة 1987، عاش حقبة جديدة من حياته الرسوليّة، إذ استقرّ في سوريا أستاذًا للترجمة في جامعة حلب ثمّ رئيسًا قطريًّا على الرهبانيّة في سوريا، حيث كان اهتمامه الأوّل في دمشق ينصبّ على مركز التنشئة اللاهوتيّة لمعلّمي التعليم المسيحي حيث تخرّج منه المئات من الأساتذة.

وبعد الحقبة السوريّة، يمّم شطر لبنان حيث عمل حتى السنة 2010 مديرًا لدار المشرق، التابعة للرهبانية اليسوعيّة في الشرق، موجّهًا سياستها نحو تعزيز الكتاب الروحي والديني فيها، حيث صدرت عشرات لا بل مئات العناوين التي تناولت التراث العربي الأدبي الفلسفي والديني بوجه عامّ والتراث العربي المسيحي بوجه خاصّ.

وكان الباحث د. جورج جبور رصد كتابه الجديد، الصادر العام الماضي في دمشق، تحت عنوان "الأب كميل حشيمه اليسوعي... صفحات عنه ومنه" لمعاينة المحطات الأساسية في حياة الأب كميل حشيمة.

الكتاب ضمّ، كما يقول مؤلفه "صفحات من جانب من فكر راهب يسوعي ذي بصيرة برهنت عن نفاذها في أمر يشغل ذوي النزعة الإنسانية على امتداد شواطئ المتوسط منذ نحو ألف عام". ورأى أنّ مشاغل حشيمة بمثابة "مرجع أخلاقي عالمي سامٍ"، رغم أنه عبارة عن أوراق متناثرة أحب جبور جمعها في كتاب وفاءً لشخص الأب حشيمة الذي كانت تجربته في التعامل معه مريحة ومفيدة منذ بدأ هذا التعامل عام 1992. أما المناسبة، فهي اجتيازه العقد الثامن من عمره، وهو مثابر معطاء في عالم الكتابة والتصنيف والفكر كما عادته في مجمل حياته، متوقفاً ملياً عند بعض كتبه وترجماته مثل "جمهورية اشتراكية مسيحية" خاصة وأنه يقع ضمن انشغاله العلمي- السياسي الأول، بالإضافة إلى عرض مراجعته غير المنشورة سابقاً لكتاب حشيمه "اليسوعيون والآداب العربية والإسلامية".

وبخصوص توجهه إلى تأريخ الأدب العربي المسيحي، يقول حشيمة في حوار صحفي عندما أخذت "أحضّر رسالة الدكتوراه، أحببت أن أنوّه بتراثنا العربيّ المسيحيّ، واخترت حينها كتابًا للأب لويس شيخو - وهو أحد أعلام الرهبنة اليسوعيّة في رسالتها الثقافيّة - عنوانه "شعراء النصرانيّة في الجاهليّة"، مدركًا أنّه يتوجّب عليّ المتابعة في هذا الحقل من الأبحاث. وبعد الدكتوراه أحببت أن أتوسّع في المجال عينه وانطلقتُ، سنة 1974، أجمع الموّاد وكلّ ما يتعلّق بالمؤلّفين المسيحيّين من عصر ما قبل الاسلام حتى نهاية القرن العشرين. مكثت أطالع الكتب، والجرائد، والمجلّات، وأزور المكتبات في كثير من البلدان، حتى استنبطت منها المادّة للكتابة في سِيَر وكتابات المؤلفين العرب المسيحين، من أكبرهم وأعظمهم شأنًا إلى أقلّهم شهرةً وإنتاجًا، ولم استثنِ أحدًا، فجمعت حوالي 23 ألف اسم، عبر مسيرة طويلة".

ويستحضر هذا الجهد الشاق روحَ البحث والمعرفة لدى المؤرخين القدامى الذين كانوا ينصرفون إلى العلم، وينقطعون عما سواه، لذا يتابع حشيمة: "وضعت نصب عينيّ تحقيق هذا المشروع، وهو في الحقيقة ضرب من الجنون، فبقي طورَ التحضير إلى أن فرّغني الرؤساء في الرهبنة لهذا العمل أخيرًا، بعد نهاية خدمتي لدار المشرق، حيث أمضيت أكثر من عشرين عامًا. الآن بدأت معركة من نوعٍ آخر، صراع مع الزمن قبل أن ينطفئ السراج!".

وبخصوص آلية العمل في موسوعة "المؤلفون العرب المسيحيّون من قبل الإسلام حتى نهاية القرن العشرين" يقول: "نظرًا إلى كثرة عدد الأسماء الّتي جمعتها مدّة 35 سنة ونيّف، رحت أغربلها حتى اكتفيت في آخر المطاف بأهم 17 ألف اسم".

ويوضح: "أقوم بالعمل متناولاً الكتّاب بالترتيب الأبجدي كما يلي: بعد إصدار المقدّمة ولائحة المراجع، أُحرّر نبذة عن حياة المؤلّف، مركّزًا على ما له علاقة بالناحية الأدبيّة والعلميّة من دون الولوج إلى التفاصيل، ثم أضع لائحة بكلّ مؤلفاته بحسب الترتيب الزمنيّ، مع الإشارة إلى الدراسات الّتي تناولت هذه المؤلّفات، وأُذيّل النبذة بكلّ المراجع الّتي أستقيت منها المعلومات. قد يُضاهي عدد المراجع الّتي أدرجتها في بعض الأحيان مئتي دراسة للكاتب الواحد - ما تتوافر معرفته بسهولة حتّى بعد اللجوء إلى الإنترنت".

ويسعى أستاذ الأدب العربي إلى إبراز دور المسيحيّين في بناء صرح الحضارة العربيّة، "فنحن لسنا دخلاء على هذه البلاد، إذ إنّنا وُجدنا فيها قبل الإسلام. فقد برع المسيحيّون عبر العصور في الطبّ، والفلسفة، وميادين العلوم كافة، وفي العصور الأولى بحركة الترجمة إذ نُقل معظم التراث اليونانيّ واللاتينيّ إلى السريانيّة ومن ثمّ إلى العربيّة. أريد من هذا العمل ألاّ يتوجّه إلى شريحة العلماء الباحثين في التاريخ والأدب فحسب، بل أيضًا إلى القارئ المثقّف العادي، ويكون مرجعًا في المدارس، والجامعات، ومراكز التوثيق".

ومن الإسهامات في حقل الترجمة، الذي برع فيه كميل حشيمة، نقله إلى العربيّة كتاب "لا أؤمن بهذا الإله"للكاتب خوان أرياس، وهو صحفي وكاتب وعالم لغوي إسباني، وُلد في أربولياس، المرية عام 1932. درس عن علم اللاهوت، والفلسفة، وعلم النفس واللغات السامية في جامعة روما. وفي عام 1985 حصل على جائزة كاستيليوني دي سيسيليا لأفضل مراسل أجنبي.

وفي فصل من الكتاب بعنوان "أصول الحرية" نطالع:

أخذ العجب من بعض الشبان، بينهم الطالب والعامل، لمّا سمعوني أعلن في إحدى محاضراتي: "أنا حر".

فقالوا: "أتُراك حراً وأنت كاهن؟ أتراك حراً وأنت تنتمي إلى كنيسة تقوم على السلطة المنظمة، وقد كبّلتَ ذاتك بنذور الرهبان الثلاثة، وتناضل منذ سنوات ليتاح لك بعثُ مكنونات أفكارك للآخرين؟ ما هي الحرية بالنسبة إليك؟ كيف تتصور الإنسان الحر؟"

هذه الأسئلة العنيفة المخلصة أوحت إليّ بعضَ الخواطر، فلو لم تكن الحريّة، لما قُيّضَ للإنسان أن يحب، ولولا الحب لبقي الإنسان وحيداً، مغضوباً عليه، دون إله.

ولكن، يتساءل الكاتب: متى يا ترى أكون حراً حقاً؟

أنا حر عندما أحب ما أعمل وعندما لا أعمل إلاّ ما أحب.

أنا حر إذا ما أحببت الأشياء والناس، فأضحى هؤلاء بعدئذ أكثر حرية وكنت أنا أقل عبودية.

أنا حر عندما أتضوّر ألَماً، وأسمع صوتاً يهتف في أحشائي: إنك الآن تُبعث من ممات.

أنا حر عندما أؤمن بإله خلق كل شيء بحرية.

أنا حر عندما أقبل حرية الآخرين.

أنا حر عندما تكون حريتي أثمن من المال.

أنا حر عندما لا يكون الموت في نظري سوى عبور إلى ملء الحياة وتمامها.

أنا حر عندما أنجح في أن أكون إنساناً.

أنا حر عندما أتوصل إلى اكتشاف ما يكمن من صلاح في كل مخلوق.

أنا حر عندما أؤمن أن لا شيء مستحيل.

أنا حر عندما أذعن في حياتي لسلطان الضمير.

أنا حر إن كانت حريتي لا تُقَدّر بثمن.

أنا حر إن كانت شريعتي الوحيدة هي المحبة.

أنا حر إن كنت أحسن بذل ذاتي في سبيل الآخرين دون أن يكون الشرط امتلاكهم.

أنا حر إن كان صوتي يساهم في تحديد مجرى التاريخ.

أنا حر إن كنت لا أنفك أقول "لا" في وجه الطغيان، حتى لو اضطررت الى المجاهرة بذلك أمام الدبابات.

أنا حر إن كنت لا أنفك أرفع صوتي في غياهب السجن وأطالب بحقي في الحرية.

أنا حر إن كنت أدافع باقتناع وبتجشم الأخطار عن حرية الآخرين.

أنا حر إذا ما كنت مقتنعاً بأن ما نحققه من خير وصلاح لا ينال منه الخراب.

أنا حر عندما أؤمن بأن رحمة الله أرجح في ميزانه من خبثنا وخطايانا.

أنا حر إن كنتُ أستطيع أن أتبيّن وراء كل ألم، وكل خيانة، وكل ظلم، ثمرةً لخطيئةٍ تضادُّ المحبة.

أنا حر إن كنتُ أقدر أن أسمع في باطن المادة أصواتاً تدعو الى الوحدة، فتعبّر عمّا يختلج من حب في أعماق كل شيء.

أنا حر إن كنت أؤمن وطيد الإيمان بأن إنساناً مثلي عاش وما زال بعد موته يحيا إلى الأبد.

أنا حر إن كنتُ أشعر بأنني أصغر من الله، ولكنّي أعظم من كل ما هو مخلوق.

أنا حر إذا ما صفعوني لأني قلت بأن الحرية هي الله، وإن الله يدين كل من يدوس حرية إنسان واحد أو يسيء إليها.

أنا حر لمّا أخاطب الله بِدالّة دون تكلّف.

أنا حر إن كنت أدرك أن الآخرين هم بحاجة إليّ.

أنا حر عندما أشعر بأنني قادر على تطوير الخليقة دون المساس بخالقها.

أنا حر إذا لم أخلط بين السلطة والتسلّط، فنبعَتِ السلطة في نظري من قوة الضمير تُسَخّر لخدمة الآخرين.

أنا حر إذا ما استطعت إبراز انتصاراتي واكتشافاتي ومواهبي وأفكاري، دون أن يحكم عليّ أحد.

أنا حر ساعة أؤمن بالآخرين.

أنا حر ساعة أستطيع حب ما ملكت يديَّ الآن من الحياة، دون أن أهتم للغد.

أنا حر ساعة أحسن النظر إلى عيني قريبي، فأرى فيهما نضارةَ أولى نظرات الخالق.

أنا حر إذا ما أحببتُ فاكتشفت أن الحب، الذي هو أساس كياننا، ليس إلاّ ذاك الخالق الذي لا ينفك يحيي ويجدد ما يخلق فينا من سعادة.

أنا حر إن كان الحب وحده قادراً على تقييدي.

أنا حر عندما أؤمن بأن الخلاص يأتيني من الروح لا من الشريعة.

أنا حر عندما أدرك أن "كل شيء حلال ولكن ليس كل شيء بنافع".

أنا حر إذا ما احترموا حقي في الاختيار حسبما يمليه عليّ ضميري.

أنا حر إن كنت أستطيع أن أقول "لا" حتى في وجه الله.

أنا حر إن كان بوسعي قبول السعادة التي تأتيني من الآخرين.

أنا حر لمّا أشعر بالخجل من عبودية قريبي.

أنا حر عندما أقبل الآخرين على ما هم عليه، لا كما أريدهم أن يكونوا.

أنا حر إن كنت أحسن الاهتداء، بحيث أستطيع السير إلى جانب إخواني في مغامرة مشتركة.

أنا حر إن كانت الحقيقة وحدها تغيّر طريقي.

أنا حر إن كنت أفضّل بذل حياتي في سبيل إنسان، على بذلها في سبيل فكرة.

أنا حر إذا ما أُعطِيتُ القدرة على التخلي عن حقوقي.

أنا حر إن انعدمَت الأصنام في حياتي، وإن لمستُ في الأمور والناس جميعاً حضورَ كائنٍ فريد، شخصي، حر، لا يموت.

أنا حر إن كنت أؤمن بإله لن يندم قط لأنه خلقني حراً.

أنا حر ساعة أستطيع التلفّظ بالكلام الذي استودعني إياه الله، لأساهم في بناء التاريخ.

أنا حر ساعة أدرك أن عملي هو تكملة أعمال الخالق.

أنا حر عندما أوقن أن المخلوقات جميعها تساعدني على تحقيق ذاتي واكتشافها.

أنا حر إن كنت أعيش في جماعة، الشخصُ فيها أهم من التكوين والنظام؟

أنا حر حينما يعترف النظام المدني بأنّ كل إنسان هو مَلِكُ الإحياء ويسمو على المخلوقات.

أنا حر إذا تعذر على الأمور والناس طُراًّ الحلول محل ضميري، وهو كلمة الفصل التي ينطق بها الخالق فيّ.

أنا حر إن كنت أُقْدِم على الاختيار أياّ كان، لا بدافع المتعة، بل لأجد فيه ما يجعل مني إنساناً.

أنا حر إذا ما وُجِد في الدنيا مخلوق واحد يحبني.

والحق يقال: "طوبى للأناس الأحرار فإنهم يرثون الأرض".