موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٥ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٦
كلمة الصحفي أندريا تورنييلي، المؤلف المشارك لكتاب "اسم الله هو الرحمة"

عمّان – أبونا ، ترجمة: منير بيوك :

في الثالث عشر من آذار 2015، بينما كنت أستمع إلى العظة في ليتورجية التوبة التي أعلن البابا في نهايتها إطلاق سنة الرحمة الاستثنائية، خطر في بالي أن أطرح على قداسته بعض الأسئلة المتمحورة على موضوعي الرحمة والمغفرة، للتعمّق في ما تعني له هذه الكلمات، كإنسان وكاهن. راقت لي فكرة إجراء مقابلة تظهر قلب البابا فرنسيس ورؤيته. أردت الحصول على نص يفتح أبوابًا، خاصّة خلال السنة المقدسة الحالية، في وقت تسعى فيه الكنيسة إلى أن تظهر وجهها الرحيم بصورة أوضح.

قبل كل شيء، أريد أن أشكر الأب رفعت بدر لدوره في إنجاز الترجمة باللغة العربية ونشر الكتاب في الأردن. كما أريد شكر الشعب الأردني، والعائلة المالكة الأردنية والحكومة لدورهم في تقديم المساعدة للاجئين. كان لي الشرف أن أكون هنا خلال زيارة ثلاثة بابوات في الأعوام 2000، 2009 و2014، علمًا أن بلدكم يبذل جهدًا مهمًا جدًا في إنقاذ عدد كبير جدًا من اللاجئين والترحيب بهم. فاستقبال ما يقرب من مليون شخص من سورية بسبب الحرب، يغيّر وجه بلدكم كما يحدث تغييرًا في حياة المواطنين اليومية. نحن في أوروبا نتحدث كثيرًا حول الهجرة. لكن ما نسميه "حالة طارئة" غير قابلة للمقارنة، نوعًا ما، مع جهود الأردن والتحدي الذي يواجهه. إن ذلك لهو بحق مثال حقيقي وملموس عن الرحمة.

الآن أعود إلى الكتاب. فخلال حوارنا، أوضح البابا فرنسيس أن فكرة اليوبيل الاستثنائي تعود إلى فترة توليه منصب رئيس أساقفة بوينس آيرس. ففي مناقشة لبعض اللاهوتيين حول ما يمكن أن يفعله البابا ليقترب من الناس، وسط العديد من المشاكل التي بدا أنه لا حلّ لها. اقترح أحد المشاركين إعلان "يوبيل المغفرة". فبقيت هذه الكلمات في ذهنه.

في هذا الكتاب، يقول البابا: "آمل أن يعمل اليوبيل على إظهار وجه الكنيسة الأموميّ". إنها، الكنيسة التي تبحث عن "البؤساء الذين هم بحاجة إلى آذان صاغية، وإلى الفهم، والمسامحة، والحب". شبّه البابا فرنسيس الكنيسة كأنها مستشفى للخاطئين قائلاً: "لم توجد الكنيسة لإدانة الناس ولكن لتحقيق لقاء مع جوهر محبة رحمة الله. من المهم التفكير بهذه الكلمة: "الجوهر"، لأن الرحمة والمغفرة هما علامتان "لجوهر حب" الله لنا. نحن خطأة وغير أوفياء، إلا أن الله، دائم الوفاء.

في صباح يوم الأحد الموافق 17 آذار 2013، احتفل البابا فرنسيس بقداسه الأول مع أناس عاديين بعد انتخابه أسقفًا لروما، في كنيسة القديسة حنة داخل الفاتيكان. وبهذه المناسبة، ألقى البابا فرنسيس عظته الثانية كبابا، وتحدث بعفوية قائلاً: "إن رسالة يسوع هي الرحمة. وأنا أقول بكلّ تواضع: إنها رسالة الرب الأكثر قوة". اختار الحبر الأعظم أن يعلّق على مقطع من الكتاب المقدس، من إنجيل القديس يوحنا، الذي يتحدّث عن المرأة الزانية. جاء الكتبة والفريسيون يشكونها، وكانوا يريدون أن يرجموها بموجب شريعة موسى. وقد أنقذ يسوع حياتها لمّا قال للمشتكين عليها: من منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر. إذاك انصرف المشتكون كلهم. وقال يسوع للمرأة: "ولا أنا أحكم عليكِ. اذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة" (يوحنا 8: 11).

أوضح فرنسيس إلى أن المرأة لم تدّعِ أنها كانت ضحيّة تهمة زور. لم تدافع عن نفسها بالقول: "أنا لم أقترف الزنى". كلا، "بل أقرّت بخطيئتها"، وأجابت يسوع قائلة: "ما أدانني أحدٌ، يا رب". فرّد عليها يسوع: "ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي بعد". وخلص البابا فرنسيس إلى القول: "فالمسيح يغفر. لكن هنا أكثر من المغفرة، لأن يسوع كمعرّف يتخطّى الشريعة". في الواقع، "تنص الشريعة على أن المرأة يجب أن تعاقب". ويضاف إلى ذلك أن يسوع كان "نقيًا بلا خطيئة، وكان باستطاعته أن يرميها بأوّل حجر". لكن المسيح "ذهب إلى أبعد من ذلك. إنّه لا يعلن أن الزنى ليس خطيئة، لكنه لا يدينها بحسب الشريعة". هذا هو سر رحمة المسيح.

الرحمة هي الطريق التي بها يغفر الله الخطيئة. "كان باستطاعة يسوع أن يقول لها: إنني أغفر لك، والآن اذهبي! كما قال للرجل المشلول: مغفورة خطاياك!". في حالة المرأة الزانية، "يذهب المسيح إلى أبعد من ذلك، وينصح المرأة أن لا تخطئ مرة أخرى. وهنا نرى موقف الرحمة الذي اتخذه يسوع: إنه يدافع عن الخاطىء ويحميع من أعدائه، بل يدافع عن الخاطىء وينجيّه من حكم عادل". وأضاف البابا فرنسيس، "هذا الكلام ينطبق علينا أيضًا... كثيرون منّا ربما يستحقون أن يدانوا! وقد تكون الإدانة عادلة! لكن الله يغفر! كيف؟ "بالرحمة، التي لا تزيل الخطيئة. المغفرة من الله هي التي تزيلها. والرحمة تذهب إلى أبعد من ذلك". إنها مثل السماء: إننا ننظر إلى السماء ونراها مليئة بالنجوم. ولكن عندما تظهر الشمس في الصباح بنورها الباهر، لا نعود نرى النجوم. وهكذا رحمة الله: إنها نور باهر من الحبّ والحنان. لان غفران الله لا يتم بمرسوم، وإنما بلمسة حنان. إنه يفعل ذلك بلمسة حنان يمررها على جروح خطايانا. لأنه تعالى هو مهتمّ أن يغفر لنا. هو مهتمّ لتحقيق خلاصنا".

وفي معرض الإشارة إلى الكتبة والفريسيين الذين اقتادوا المرأة أمام يسوع الناصري لترجم، قال البابا فرنسيس: "يحلو لنا نحن أيضًا أحيانًا أن نضرب الآخرين وأن ندينهم". وأضاف: إنّ الخطوة الأولى والوحيدة المطلوبة منّا لننال الرحمة، هي أن نعترف بأننا محتاجون إلى الرحمة. "يأتي يسوع المسيح إلينا عندما ندرك أننا خطأة". والمطلوب منّا هو ألا نتصرّف مثل الفريسي الذي وقف أمام المذبح وشكر الله لأنه ليس "مثل سائر الناس الخطأة".

هذا هي حقيقة الكنيسة التي لا تدين الناس لضعفهم ومعاناتهم ولكن تعالجهم بدواء الرحمة. نحن نعيش في مجتمع يشجعنا على التخلص من عادة من الإقرار بمسؤولياتنا وتحملها. هناك دائمًا الآخرون الذين يخطئون. الآخرون هم دائمًا من يتميزون باللاأخلاقية. فدائمًا الخطأ على شخص آخر، وليس خطأنا. وأحيانًا نخوض تجربة العودة إلى نوع من الإكلوريسه، وبقصد دائم على إقامة الحدود، وتنظيم حياة الناس من خلال متطلبات والمحظورات مفروضة تقيد حياتنا اليومية، التي تتسم بالصعوبة بالفعل، وتجعلها أكثر صعوبة. إنه الموقف الذي يجعلنا دائمًا مستعدين لإدانة الغير، ويجعلنا أقل استعدادًا بقبول ذلك. فنحن جاهزون لإصدار الحكم، ولكن لسنا مستعدين للإنحناء برحمة تعاطفًا مع معاناة الغير. فرسالة الرحمة تزيل بعيدًا كل تلك الصور النمطية.

وحول فرح الله في المغفرة: "دعونا نتذكر دائمًا أن فرح الله يكون أكثر عندما يعود خاطئ واحد إلى الحظيرة، مما عندما يكون هناك تسعًا وتسعين من الصالحين الذين لا يحتاجون التوبة. فالله يريد جميع الأغنام المئة. فيسوع يتطلع لجميع الناس، وخاصة أولئك الذين يعيشون المحنة، والصعوبات، والمعاناة، والشك. علينا أن نتذكر في كل مرة، عندما نقرأ إنجيل لوقا، أنه كان حشد من العشارين والخطأة يتبعون يسوع. ماذا يعني العشارون والخطأة؟ إن ذلك يعني أنهم ليسوا بوضع طبيعي، وأنهم غير قادرين على تدبر أمورهم، وأنهم يعانون من مشاكل أخلاقية أو أمراض. وفي كل مرة أقرأ هذا في الكتاب المقدس، لا يمكنني إلا أن أتساءل عما إذا كانت جماعاتنا المسيحية تجذب الخطأة أو تصدهم. ويرجى الأخذ بعين الإعتبار أن هذه ليست كلمة البابا فرنسيس، وإنما مقتبسة من الكتاب المقدس.

وأريد أيضًا أن أتحدث عن قضية أخرى، تتعلق بالأهمية الاجتماعية للرحمة. فالرحمة والمغفرة مهمتان في العلاقات الاجتماعية وفي العلاقات بين البلدان. ففي رسالة القديس يوحنا بولس الثاني إلى يوم السلام العالمي، الذي عقد في عام 2002 وجاء في أعقاب الهجمات الإرهابية في الولايات المتحدة، ذكر أنه لا توجد عدالة بدون مغفرة، وأن القدرة على المغفرة تشكل الأساس لكل الأعمال الرامية لتحقيق عالم أكثر عدلاً، ودعمًا لمجتمع المستقبل. فالإفتقار إلى المغفرة والعودة إلى شريعة "العين بالعين، والسن بالسن" قد تؤدي إلى تصعيد للصراعات إلى ما لا نهاية.

في الأول من كانون الثاني، وخلال القداس الاحتفالي بيوم السلام العالمي، قال البابا فرنسيس: "يبدو أن سيلاً من البؤس الذي يزداد ضخامة بسبب الخطيئة يتعارض مع ملء الزمان الذي جاء به المسيح. لكن هذا السيل الضخم يقف عاجزًا أمام محيط الرحمة الذي يفيض في عالمنا. جميعنا مدعوون لنغمس أنفسنا في هذا المحيط، لنولد من جديد، ولنتغلب على اللامبالاة التي تمنع التضامن، ولنترك وراءنا الحياد الزائف الذي يمنع المشاركة.

وأخيرًا اسمحوا لي أن أشكر أصدقاءنا المسلمين ووزير الثقافة السيد نبيه شقم الذي مكننا أن نكون هنا ولمساعدتنا على فهم رسالة الرحمة. ومن ضمن ما جاء في مرسوم البابا فرنسيس "وجه الرحمة" أن: "الإسلام يضع الرحمن الرحيم من بين أسماء الخالق. وهذا الابتهال هو غالبًا على شفاه المؤمنين المسلمين الذين يشعرون بأن الرحمة ترافقهم وتعضدهم في ضعفهم اليومي. وهم أيضًا يؤمنون بأن ما مِن أحد يستطيع أن يحدّ الرحمة الإلهية لأن أبوابها مفتوحة دائمًا. لتشجّع هذه السنة اليوبيلية المُعاشة في الرحمة اللقاء مع هاتين الديانتين ومع باقي التقاليد الدينية العريقة؛ ولتجعلنا أكثر انفتاحا على الحوار كي نعرف ونفهم بعضنا بعضًا بشكل أفضل؛ ولتُزِل كل شكل من أشكال الانغلاق والازدراء ولتُبعد كل شكل من أشكال العنف والتمييز".