موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ١٨ مايو / أيار ٢٠١٦
في مسألة الدين والانتماء الطبقي لعمدة لندن

بلال حسن التل :

تحدثنا في المقال السابق عن بعض دلالات ردود الفعل والتعليقات التي ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام في بلادنا,على فوز صادق خان المسلم من أصل باكستاني بمنصب عمدة لندن, وقد حصرنا المقال بردود الفعل حول استخدام الرجل لوسائل النقل العام, وسنتناول في هذا المقال ردود الفعل على اختياره كمسلم لمنصب عمدة لندن.

لقد اعتبر البعض ذلك انتصاراً للمدينة الغربية, وهي قضية تحتاج إلى وقفة للتذكير نقول فيها: أننا في بلادنا سبقنا لندن وغير لندن في مفهوم المواطنة البعيدة عن التعصب الديني, ففي تجربتنا الأردنية المعاصرة على سبيل المثال ليس مستغرباً أن يكون رئيس بلدية هذه المدينة أو تلك مسيحيا, بل أكثر من ذلك فإن الكثيرين من المرشحين المسيحيين نجحوا في الانتخابات البرلمانية والبلدية بأصوات مواطنيهم المسلمين, الذين راوا في هؤلاء المرشحين تعبيراً عن تطلعاتهم ولم يستهجن ذلك أحد لأن هذا هو الطبيعي المتسق مع سياقنا التاريخي كعرب وكمسلمين.

وفي بلدنا ذي الأكثرية المسلمة الساحقة من مواطنيه ليس هناك منصب يحظر على مواطن مسيحي, فلا تكاد تكون لدينا وزارة لم يتول حقيبتها مسيحي أردني,وليس مستغربا أن يقود مسيحي أردني هيئات أو مؤسسات تتولى التخطيط لمستقبل الأردنيين ووطنهم, كما هو الحال في الأجندة الوطنية وغيرها, فذلك لا يثير أى قلق أو استغراب عندنا لأنه أمر متسق مع تاريخنا وتربيتنا ومفاهيمنا الحضارية, التي تجعل المسيحي يصوم رمضان ويسمي أبناءه بأسماء «علي» و»عمر» و»مصطفى»مثلما يسمي المسلم أبناءه بأسماء عيسى ومريم ويحيى ابن خالة عيسى عليهم أفضل الصلاة والسلام. مثلما هو ليس مستغربا أن يشارك المسلم جاره أو صديقه المسيحي أعياده الدينية ومناسباته الاجتماعية.

وفي بلدنا ذي الأغلبية الإسلامية الساحقة يحتل كاتب مسيحي أردني مرتبة الصدارة بين الكتاب الأردنيين في استفتاء شعبي وبأصوات المسلمين الذين يتعاملون مع مواطنيهم المسيحيين كشركاء متساوين في الحقوق والواجبات. وفي الهموم والتطلعات, لذلك من الطبيعي أن يعبر طارق مصاروه وفهد الخيطان المسيحيين الأردنيين العروبيين عن هموم الأردنيين بصرف النظر عن صلاتهم في المسجد أو الكنيسة فالهم واحد, ولأن هذا متسق مع حضارتنا وتاريخنا وديننا, الذي يلزمنا بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد منهم كجزء من عقيدتنا, ولا يكتمل إسلام أحدنا دون أن يؤمن بعيسى وبكل أنبياء الله ورسله, وأن يحسن التعامل مع أتباعهم كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات, وهو الأساس الذي بنى عليه رسول الله عليه السلام أول دولة في الإسلام, والتي حكمتها وثيقة المدينة المنورة التي بُني مجتمعها على أساس المواطنة والتعددية, وعلى هدى رسول الله وسنته سار كل من جاء بعده من الخلفاء والسلاطين عندما كانوا يلتزمون بتعاليم الإسلام الذي كان رسوله يتعهد جيرانه من أهل الكتاب بالبر وحسن الجوار, ويتبادل معهم الهدايا, ويتعامل معهم في مجالات الاقتصاد بيعا وشراء وقرضا ورهنا, ولم يمنع اختلاف الدين غير المسلمين من إشغال أهم المناصب وأرفعها وأخطرها في الدول التي قامت على التصور الإسلامي, فقد كان منهم الولاة كالطبيب ابن أثال والي حمص في عهد معاوية, وكان المسيحي سعيد بن ثابت وزيرا لمعاوية وكان اسطفان بن يعقوب مديراً لخزينة المأمون. بل لقد تولى المسيحيون أعلى الرتب والمراتب في جيوش الدولة القائمة على التصور الإسلامي, ويكفي هنا القول أن الخليفة المعتضد أوكل إلى مسيحي أمر تنظيم الجيش, وأن المقتدر ولى مسيحيا ديوان الجيش «وزارة الدفاع» وهي حالة تكررت في تاريخ أمتنا مما يؤكد على روح المواطنة ورفض التمييز على أساس الدين والمله.

خلاصة القول في هذه القضية أن ما حدث في لندن ليس سبقا للغربيين فلقد سبقناهم بقرون ومراحل, لكننا تعودنا في مراحل الانحطاط التاريخي أن ننسى تاريخنا فلا نسعى إلى إحياء القيم المضيئة التي مارسناها عبر هذا التاريخ, ومنها قيمة المواطنة التي لا تفرق بين الناس على أساس أعراقهم وأديانهم.

قضية أخرى من القضايا التي أثارتها ردود الفعل في بلادنا على فوز صادق خان بمنصب عمدة لندن هي انتماءه لغير طبقة الأغنياء, وكأن هذا أمراً لا يحدث في بلدنا. وأن الغربيين قد سبقونا بهذا السلوك, وهذا أمر غير صحيح, والرد عليه هو تدقيق في قائمة المسؤولين في بلدنا, عندها سنكتشف حجم المغالطات التي يروجها البعض, ذلك أن معظم المسؤولين في بلادنا جاءوا من قلب الطبقتين الوسطى والفقيرة, وجلهم أبناء عسكر وحارثين فلم يمض وقت طويل على تفاخر رئيس وزرائنا د.عبدالله النسور بأنه ابن رجل فقير, ونظن أن معظم وزرائه مثله. والتدقيق في قائمة جل رؤساء الوزارات في بلدنا من أمثال وصفي وهزاع واللوزي والبخيت وبدران وعبيدات وغيرهم وكذلك الوزراء والأمناء العامين والمدراء العامين تؤكد أنهم في غالبيتهم الساحقة جاءوا من الطبقة الوسطى وما دونها, وأن نسبة قليلة منهم كانت أسرهم تنتمي إلى الطبقة الثرية, آخذين بعين الاعتبار أن بلدنا لم يعرف الإقطاع بمفهومه الحقيقي, وآخذين بعين الاعتبار أيضا أن الغني بالحلال ليس سبه.

خلاصة القول في هذه القضية: أننا بحاجة للتدقيق والتمحيص في الكثير من الأقاويل والإشاعات التي نتداولها على أنها مسلمات, بينما هي أوهن من أن تصمد أمام أي نقاش, وكل ما علينا هو أن نتبين ونمحص فيما يصلنا من أقوال,عندها سنكتشف أننا سبقنا لندن في الكثير من ممارسات المواطنة وحقوق الإنسان وتكافؤ الفرص. وهي ممارسات علينا أن نستعيدها في حاضرنا المعاصر.

(نقلاً عن الرأي الأردنية)