موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٧ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٧
فلسطين.. لتحمينّ السماء حماكِ والسيدة العذراء!

القدس - الأب د. بيتر مدروس :

<p dir="RTL">للبطريركيّة اللاتينيّة المقدسيّة فضل، بنعمة الله كبير، في رفع شأن الأرض المقدّسة والمحافظة، مع الآباء الفرنسيسكان الأفاضل، على مقدّساتها. وكان البطريرك الرّاحل لويس برلسينا، سنة 1927، قد شيّد في قرية &quot;رافات&quot; (التّي صارت تحمل اسم &quot;دير رافات&quot;) كنيسة ومزارًا لعبادة الله وإكرام السيّدة البتول مريم &quot;سلطانة فلسطين&quot;. ولا عجب أن تحضن العذراء أمّ الكنيسة كلّ الكنائس، ولا سيّما &quot;الكنيسة الأمّ&quot; في القدس وسائر فلسطين، الّتي &quot;فيها كلّ ينابيعنا&quot; أي كلّ جذورنا المسيحيّة الرّسوليّة العريقة العميقة. وكلّ آخر أحد من شهر تشرين الأوّل أكتوبر تحتفل البطريركيّة اللاّتينيّة، مع سائر الكاثوليك، في مزار &quot;دير رافات&quot; بعيد السيّدة مريم &quot;سلطانة فلسطين&quot;. وتجمع الأمّ السّماويّة أبناءها في كلّ مقاطعات هذا الوطن المقدّس، مع أنّ ظروف الحروب فرضت على هذا الشّعب وهذه الأرض الطّهور انفصالاً وانقسامًا وقطعًا جائرة نرجو ألاّ تتسرّب إلى القلوب فلا تفصلها الحواجز ولا تجفّيها الجدران ولا تقطع بينها الحدود.</p><p dir="RTL"><strong>مزار &quot;دير رافات&quot;: نبض حياة بعد نكبة ودمار، وأمل بعد الألم</strong></p><p dir="RTL">يقع المزار على أراضي قرية &quot;رافات&quot; المهجّرة الّتي تم احتلالها في الثّامن عشر من تمّوز يوليو سنة 1948. حينها كان عدد بيوتها 157 ما بقي منها إلاّ القليل، إن لم يكن لا شيء. وأصل الاسم كنعاني &quot;يرفئيل&quot; يعني&quot;الله يشفي&quot;.وبقربها، على مدخل المزار، كانت تقوم قرية &quot;صُرعة&quot; (وتلفظها العامّة &quot;صَرعة&quot; بفتح الصّاد) كان سكّانها يعدّون 390 نسمة حين تمّ احتلالها في الرّابع عشر من تمّوز يوليو سنة 1948. وقد ورد اسم&quot;صرعة&quot; في رسائل تلّ العمارنة في مصر، في القرن الرّابع عشر قبل الميلاد. وكان بالإمكان الوصول إليها بالطّريق الرّئيسيّ بين بيت جبرين وباب الواد.</p><p dir="RTL"><strong>&quot;سلطانة فلسطين&quot; بالمعنى الرّوحانيّ التّاريخيّ الإنسانيّ المأثور</strong></p><p dir="RTL">ولا تخفى على القارىء الكريم &quot;حساسيّة&quot; بعض القوم للفظة &quot;فلسطين&quot; وتنكّر بعض الفلسطينيين لها (بعد أقلّ من سبعين سنة على تغيير اسم مقاطعة منها). فهل يغيّر خطّ وقف نار طبيعة البشر وهويّتهم؟ ولكن، مع الأسف، هذا ما حصل في نفوس الكثيرين الّذين تبرّأت قلوبهم من &quot;فلسطين&quot;، وقد نسوا أو تناسوا أنها اسم هذه البلاد، على الأقلّ منذ القرن الخامس قبل الميلاد، مع المؤرّخ اليونانيّ &quot;هيرودوتس&quot;، وأنّ أيّة تسمية أخرى تهدف إلى محو هذه الهويّة ودفن هذه القضيّة. وصدق الآباء&nbsp; العباقرة الدومنكان ومنهم لاجرانجوفنسنت أبيل &nbsp;ورولان ده فو الّذين لفتوا انتباهنا، نحن الفلسطينيّين، إلى أننا أحفاد الكنعانيّين في أرضنا، أرض كنعان، وأحفاد الفلستيين (في السّاحل الغربيّ) قبل أن نعتنق المسيحيّة.ويُشرَح صدر المرء عندما يرى مؤسسات وجمعيّات فلسطينيّة تستذكر أرض كنعان أمّنا الّتي ما جفّ لها دمع عبر العصور ولا نضب لها دم، إذ شهدت دولاً عديدة &quot;أخضعتها&quot; وكأنّنا بها &ndash; أي بالدّول الغازية- تريد أن تحقّق الاسم الكنعانيّ الّذي يعني &quot;الخضوع&quot;. وها نحن حتّى القرن الحادي والعشرين في عديد &quot;الشّعوب من الدّرجة الثّانية&quot; الّتي ترفض المحافل الدّوليّة ودسائس السّياسة استقلالها وسيادتها، مثل قوم كاتالونيا أو الباسك أو البيافرا سابقًا.</p><p dir="RTL">وفي &quot;ظلال الموت&quot; وفي &quot;وادي البكاء&quot; القريب من زهرة المدائن، نقف ونحن نبكي عاصمة شعبنا وكنيستنا مع إرميا النّبيّ ابن &quot;عناتوت&quot; أي عناتا: &quot;آه، كيف جلست وحيدة المدينة كثيرة الشّعب، أمست كأرملة العظيمة في الأمم، السّيّدة في البلدان باتت تحت الجزية&quot; (المراثي 1: 1). وفي حين لا ينتهي الظُّلم ويستمرّ كل يوم، ترتفع إلى الله صلوات ملؤها التّقوى يرافقها الدّمع السّخين، ليس فقط على أطلال مدن وقرى &quot;ما باتت في الوجود&quot; (كما كان يفتخر الملك ميشع في شأن بني يعقوب)، بل من أجل أهلها المهجّرين المشرّدين. وتصلّي الكنيسة بورع وخشوع: &quot;نسألكِ، أيّتها البتول، أن تلقي نظرة عطوفة إلى هذه البلاد الفلسطينيّة الّتي تخصّك لأنّكِ باركتِها بميلادك فيها وفضائلك وأوجاعك، ولأنك فيها ومنها وهبتِ المسيح الفادي للعالم! أنظري إلى وطنك على هذه الأرض وبدّدي عنه ظلمات الضلال، بعد أن سطعت فيه شمس البِرّ الأبديّ&quot;!</p><p dir="RTL"><strong>من قراءات هذا العيد: غلاطية 4: 4 ولوقا 1 : 47 وتابع</strong></p><p dir="RTL">تقدّم لنا الكنيسة الرّومانيّة أي اللاّتينيّة، كلّ أحد وعيد، ثلاث قراءات من الكتاب المقدّس، ومقطوعة من المزامير. وفي القراءة الثّانية لهذا الأحد، نسمع من مار بولس الإناء المختار رسول الأمم (غلاطية 4: 4) أنّ الله في ملء الزمان أرسل كلمته &quot;مولودًا من امرأة&quot;. ويوضح القدّيس المعلّم الواعظ الأسقف المقدسيّ كيرلّس (المتوفّى سنة 368 م) أنّ &quot;مرأة&quot; تعني هنا أيضًا &quot;بتول، عذراء&quot;، انطلاقًا سِفر التّكوين حيث دُعيت &quot;حوّاء&quot; البتول &quot;امرأة، لأنّها من امرىء أُخذت&quot;، وانطلاقًا من الإنجيل المقدّس الّذي أكّد مرارًا وتكرارًا عذرية البتول النّاصريّة (متّى 1: 18- 23، ثمّ لوقا 1: 26 وتابع). ولا يجوز أن يفسّر أحد لفظة &quot;امرأة&quot; بالمعنى الشّعبي الحديث في اللهجة العامّيّة الّذي يشير &nbsp;باللفظة إلى ضدّ &quot;البنت&quot; أو &quot;العذراء&quot;.</p><p dir="RTL">أمّا قراءة الإنجيل الطّاهر فتقدّم لنا نشيد العذراء الخالد، منها السّلام: &quot;تعظّم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلّصي&quot;. ولا تعني العبارة أنّ السيّدة البتول خطئت&ndash; حاشى- ونالت بعدها الخلاص (كما يتوهّم بعض القوم) بل أنّ الله خلّصها بالوقاية، بما أنها ستكون البتول الوالدة للكلمة المتجسد. وتتابع العذراء: &quot;لأنّ (الرّبّ) نظر إلى تواضع أمته&quot; (وقد يكون المقصود &quot;الذّلّ&quot; بسبب الوضع الحرج الذي وجدت البتول نفسها فيه عندما حملت السّيّد المسيح) &quot;فها منذ الآن تطوّبني جميع الأجيال&quot;. تطوّبني تعني &quot;تهنّئني&quot;. ولنا الشّرف، في الكنيسة الكاثوليكية وشقيقتها الأرثوذكسيّة، أن نهنّىء العذراء دائمة البتوليّة والدة المسيح وأمّنا. وتأتي تهانينا الإنجيليّة الصّميمة إمّا في صيغة الغائبة &quot;طوبى لمريم التي ولدت المسيح&quot; أو في صيغة المخاطبة &quot;طوبى لكِ يا مريم وعليك السلام بلا ملل&quot;. وليس &quot;السلام الملائكي&quot; أي تحيّة جبرائيل فقط محفورة منقوشة على الحجر تحت كنيسة البشارة في الناصرة &ndash; وهي تحية في اليونانية ترقى إلى القرون الميلاديّة الأولى- بل هي في قلوبنا منقوشة، صغارًا وكبارًا، شبابًا وشيبًا. ونفخر، مسلمين ومسيحيّين، بإكرام سيّدتنا مريم &quot;المباركة في النساء&quot; المصطفاة المطهّرة &quot;فوق نساء العالمين&quot;.</p><p dir="RTL"><strong>خاتمة</strong></p><p dir="RTL">ورُبّ سائل يسأل: &quot;وماذا استفدنا كفلسطينيّين من هذا العيد؟&quot; نستفيد أنّه يُذكّر باسم كان يريد كثيرون أن يمحوه إلى الأبد، بعد رغبتهم في محو اسم يسوع وذِكراه. نستفيد أننا نُثبت مرّة أخرى أننا شعب مؤمن لا ييأس من رحمة الله ولا من حنان السيّدة مريم. نستفيد أننا نجتمع في الكنيسة (والكنيسة لفظة كنعانية وآراميّة تعني &quot;التّجمّع&quot;) مع أنّ حدودًا تفرّقنا وحواجز تفصلنا وجدرانًا تحول بيننا وبين أهلنا. نستفيد أنّ أناسًا مؤمنين ورعين &quot;من كلّأمّة وقبيلة وشعب ولسان&quot; في الكنيسة الكاثوليكيّة الجامعة الرّسوليّة، في فلسطين وسائر بقاع المعمور، يصلّون معنا ومن أجلنا، من أجل فلسطين وكلّ شعبها، في الوطن والمهجر، سائلين العزّة الإلهيّة أن تتكرّم وترحم هذا الشّعب المقهور وسائر الشّعوب المظلومة كي يشرق مجدّدًا من الشّرق النّور ويتبدّد الظُّلم والظّلام من أرض ومنطقة وبقعة منحت العالم الحضارة ونشرت بين الأنام الهدى فحقّت في سبيلها التّضحيات والفدا!</p>