جاء اختيار كرادلة الكنيسة الكاثوليكية رئيس أساقفة الأرجنتين الكاردينال خورخي ماريو برغوليو، أحد كرادلة الظل كما يطلق عليهم، والذي ينتمي إلى الرهبنة اليسوعية، لشغل السدة البابوية مفاجئاً. غير أن المثير في بداية مسيرة البابا الجديد تبدّى في الاسم الذي اختاره لحبريته فرنشيسكو أو فرنسيس، ولأنه أول من حمل هذا الاسم اعتبر البابا فرنشيسكو الأول. ويبقى السؤال من هو فرنشيسكو هذا الذي فضل البابا حمل اسمه عوضاً عن اختيار اسم أغناطيوس دي لويولا المؤسس للرهبنة التي يتبعها؟ وهل سيكون للبابا الجديد حظ من اسم سميه؟

الأجوبة تتطلب العودة إلي القرن الثاني عشر الميلادي حين ولد في مدينة أسيزي بمقاطعة أو مبريا بإيطاليا طفل لأسرة ثرية، حمل لقب فرنسيس وكان أبوه بطرس برنردوني واحداً من تجار الأقمشة الكبار في المدينة. وفي حين كان شغل الأب الشاغل هو المال ولا شيء سواه، نرى الابن فرنسيس يرفض المال والسلطان ويؤسس جماعة «الرهبنة الفرنسيسكانية» القائمة على التجرد من حب العالم والدعوة إلى السلام والوئام بين الناس.

لسنا بمعرض الحديث عن السيرة الذاتية العامة للأسيزي غير أن ما يهمنا فيه، وما نأمل بأن يشاركه في سيرته البابا الجديد، هو رؤيته للشرق وللعالم الإسلامي وللحوار الإسلامي - المسيحي على نحو خاص، فماذا عن المقابلة التاريخية بين فرنشيسكو الأسيزي وفرنشيسكو الأول الأرجنتيني؟

يذكر كتاب سيرة فرنسيس الأسيزي أنه القديس الكاثوليكي الذي وقف في وجه الحملات الصليبية، ففي 24 حزيران (يونيو) 1219 توجه إلى الشرق وبلغ ميناء عكا، ومن هناك حضر إلى دمياط التى كان يحاصرها الصليبيون ويدافع عنها المصريون ببسالة منذ أكثر من سنة، فلما وصل إلى المعسكر المسيحي راعه أن يرى الفوضي والفساد والعداوات الوحشية والنهب والسلب والمواخير النجسة تسود المعسكر في ظل الصليب.

كانت صيحة فرنسيس عند رؤيته هذا المشهد أنه «ليس الشرقيون الذين يسدون الطريق إلى الأرض المقدسة بل غضب الله العادل»، وقد كانت حجة الطريق المسدود إلى الأرض المقدسة هي الذريعة التى اتخذت لتبرير تلك السلسلة من الحملات العسكرية.

سعي فرنسيس لمقابلة السلطان الكامل بن الملك العادل أيوب، والذي قربه فأقام عنده أياماً غير قليلة كان يستمع خلالها من فم فرنسيس إلى الكثير من الحقائق المسيحية الإيمانية الصادقة غير المزورة أو المنحولة. وفي نهاية فترة إقامته قدم له السلطان منحاً وهدايا ثمينة كثيرة، لم يقبل فرنسيس منها سوى قرن من العاج كان يستخدم للدعوة إلى الصلاة ترضية لخاطر الملك وتصريحاً كتابياً يمنحه حق زيارة الأماكن المقدسة في فلسطين والوعظ في طول البلاد وعرضها.

وفي القدس، اتصل فرنسيس الأسيزي بالسلطان عيسى سلطان دمشق مستخدماً كتاب التوصية الذي أخذه من سلطان مصر، وطلب منه التصريح له ولرفاقه بالإقامة في مقر متواضع فوق جبل صهيون بهدف رعاية المقدسات المسيحية الموجودة فوق الجبل.

كانت رحلة فرنسيس الأسيزي إلى العالمين العربي والإسلامي مجدية بأبلغ مكان، فقد استطاع بمحبته وحواره السلمي أن يصنع وحده ما لم تستطع الجيوش أن تقوم به، وبنى فرنسيس جسراً من الثقة والحوار المتواصل مع سلاطين العرب وأئمة الإسلام والمسلمين في البلاد العربية التى زارها، وقد قال بعض مؤرخي سيرته إن ما كسبه الأسيزي بالمحبة والحوار مع العالم الإسلامي، يفوق الانتصار في أربعين معركة حربية.

البابا الجديد

لماذا اختار برغوليو اسم فرنسيس؟

وفق تصريحاته، حباً بالرجل الذي عشق الزهد والفقر بعيداً من بهرجة العالم الخادعة، والذي كان يحتضن المصابين بمرض «البرص»، في حين كانت تفرض عليهم القوانين تعليق الأجراس في رقابهم لتحذير الناس منهم إذا أرادوا السير في شوارع إيطاليا.

والفقر وترك غنى العالم سمتان تلازمان التواضع، وقد ظهر للوهلة الأولى من شرفة الفاتيكان أنه بابا متواضع في مظهره وطريقة تفكيره، فلم يشر إلى نفسه بصفته الحبر الروماني الأعظم للمؤسسة الكاثوليكية حول العالم، بل عرّف عن ذاته بأنه «أسقف روما» بما يعني ذلك من معاني الخدمة لا آيات الإكبار والتعظيم.

وفي اللحظات التي كان على البابا الجديد أن يعطي فيها البركة التقليدية المعروفة للمدنية والعالم Urbi et Orbi كان البابا المتواضع ينحني أمام جموع الجماهير المحتشدة في ساحة القديس بطرس طالباً بركتهم والصلاة من أجله في مشهد لم تألفه بروتوكولات إعلان البابا في تاريخ حاضرة الفاتيكان.

والثابت أنه إذا كانت هذه علامات الباب الجديد في ما خص علاقته بالمال والغنى ومظاهر العظمة، فإن التساؤل الذي يهم الكثيرين في عالمنا العربي والإسلامي: ماذا عن رؤية فرنشيسكو «فرنسيس» الأول لمسألة الحوار بين أتباع الأديان حول العالم؟

المؤكد أن الجواب لم يطل انتظاره، ففي الخطاب المقتضب الذي ألقاه فرنشيسكو الأول أمام الديبلوماسيين الأجانب المعتمدين لدى الفاتيكان، أعرب عن رغبته في تكثيف الحوار مع المسلمين، وبناء جسور معهم متعهداً بدعم العلاقات بين الكنسية الكاثوليكية والأديان الأخرى، لا سيما الإسلام.

وعند البابا «أنه من المهم تكثيف الوصول إلى معتنقي الأديان الأخرى لكي لا تسود الخلافات التى تضرنا، وتسود الرغبة في بناء علاقات حقيقية من الصداقة بين جميع الشعوب مع تباينها. ليس هذا فحسب بل أضاف الحبر الروماني الأعظم أنه «من غير الممكن إقامة علاقات حقيقية مع الله تعالى في ظل تجاهل الآخرين»، ومن ثم هناك ضرورة ملحة لـ «تكثيف الحوار بين مختلف الأديان، وبالأخص إجراء حوار مع الإسلام».

هل يمكن تصريحات البابا الجديد أن تكون بداية تمحو آثار ما علق في نفوس العالم الإسلامي نتيجة اللغط الذي ثار بعد محاضرة سلفه البابا بنديكتوس السادس عشر في رينسبورغ؟ مما لا شك فيه أن الآمال في البابا الجديد عريضة في أن يكون صاحب دعوة تصالحية حقيقية مع العالم برمته، ومع الإسلام والمسلمين بنوع خاص. ولعل أفضل من تحدث عن فرص البابا الجديد في التجديد كان اللاهوتي الكاثوليكي الألماني هانز كونغ الذي قال إن البابا فرنشيسكو أظهر في ليلة واحدة أنه قادر على التغيير فقط من خلال مظهره البسيط والرصيد، وتوقّع أن يركز البابا الأرجنتيني على مشاكل الفقراء في العالم، كما أن هناك الكثير من القضايا الأخلاقية التى ستواجهه ولا بد له من أن يعطي رأياً قاطعاً فيها، مثل تحديد النسل والاكتظاظ السكاني، وإن كان الجميع يعلم مواقف البابا السابقة تجاهها، والتي لا تخالف تعاليم الكنيسة الكاثوليكية.

على أن الاهتمام غير المسبوق الذي حظيت به عملية اختيار البابا الكاثوليكي الجديد في الأسابيع الأخيرة لفت الانتباه إلى عودة الكنيسة والبابوية إلى بؤرة التركيز الإنساني والحضاري، وحصول نقاشات معمقة حول دور البابوية في أوروبا وحول العالم.

ورأى كونغ في هذا السياق أنه يمكن الكنسية أن تكون سلطة أخلاقية في العالم إذا عملت في شكل صحيح، داعياً إياها إلى أن تجيب على أسئلة الناس، وأن تظهر تفهماً لهم، كما يجب أن تكون متضامنة مع الكنائس المسيحية الأخرى، والأديان التوحيدية والوضعية المختلفة. وعليه فالمسؤولية جسيمة من دون شك وعلى البابا فرنشيسكو أن يقدم المزيد من أجل إحلال السلام حول العالم.

عقبات

هل سيكون طريق فرنشيسكو الأول في مسيرة الحوار بين أتباع الأديان سخاءً رخاءً صفاءً زلالاً؟ أم إن هناك عقبات خطيرة ومؤثرة على الطريق؟

تلفت الدكتورة كليرا أموس منسقة برنامج حوار الأديان في مجلس الكنائس العالمي إلى أن «الحوار بين المسلمين والمسيحيين في الوقت الراهن مفخخ بسبب أزمة الشرق الأوسط، وبالأخص بسبب المشكلة الفلسطينية - الإسرائيلية»، وترى أن التعقيد سيستمر في هذا الحوار ما دامت المشكلة قائمة، وما دام المسلمون وجانب من المسيحيين يرون في ذلك قضية ظلم وانعدام عدالة.

الإشكالية الثانية التي تلفت إليها أموس والتي ستنسحب على جهود البابا الجديد لتعميق مناخ الحوار الإسلامي - المسيحي، هي قضية العلاقة بين الدولة والدين لأن هذه القضية تكثر في شأنها الخلافات في الفهم بين المسلمين والمسيحيين. وقد يكون المسيحيون من جهة قد كونوا فكرة مبسطة عن أن المجتمعات المسلمة تسير وفقاً لتعاليم الدين، ولكن في الوقت نفسه هناك الكثير من المسيحيين في منطقة الشرق الأوسط بدأوا يشعرون بنوع من القلق بسبب طبيعة الحكومات التى ستتولى مقاليد السلطة عقب ما يسمى «الربيع العربي»، وهناك من مسيحيي الشرق الأوسط من أطلقوا عليه عبارة «الخريف العربي» بالنظر إلى هذه العلاقة بين الدولة والدين.

والأمر نفسه يمكن قوله عن نظرة المسلمين إلى الدول الغربية في أوروبا والولايات المتحدة التي يعتبرون أنها مسيّرة وفقاً للمسيحية، وهذا ما لا ترغب تلك الدول في وصفها به. فعندما نشر الفيلم المسيء إلى الإسلام اعتبر المسلمون أنه فِعل مسيحيين أميركيين، وليس عمل فرد واحد، وقد يصعب عليهم فهم أن تسيير الدولة في الغرب يختلف وأن هناك فصلاً بين الدين والدولة، ولذلك يجب العمل على الخروج من هذه الحلقة المفرغة التى تعمّق الأفكار المسبقة وتعقّد الأمور.

يبقى القول إنه من الأهمية بمكان أن يتجاوز العالم العربي والإسلامي حالة سوء التفاهم التى خيمت على الأجواء مع الفاتيكان في الأعوام القليلة المنصرمة، لا سيما أن هناك جماعات دينية أخرى تسعى إلى تعزيز العلاقات مع المؤسسة الفاتيكانية، وهذا ما قاله على سبيل المثال الحاخام دافيد روزن مدير اللجنة اليهودية - الأميركية، على هامش تقديم التهنئة للبابا الجديد. ولا يعني ذلك أننا ضد تلك العلاقات، إنما فقط يجب التنبه واليقظة كي لا تقع المؤسسة التى يتبعها بليون و200 مليون مؤمن حول العالم في دائرة الضغوط الدينية أو الأيديولوجية لجماعة دينية بذاتها، نعلم جميعاً كيف تنظر إلينا، وكيف لا تعجبها مواقف الفاتيكان من القضايا العربية التاريخية وفي مقدمها القضية الفلسطينية.