موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
الاراضي المقدسة
نشر الثلاثاء، ٢٣ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٤
عيد الميلاد المجيد

الأب منويل بدر - ألمانيا :

لقد وُلِد لكم اليوم مخلِّص في مدينة داؤد (لو 2: 1-14)

في كلِّ جواز سفر، إلى جانب تاريخ ميلاد الشخص يتبع السؤال: مكان الولادة!. من منّا لا يعرف مكان ولادة يسوع المسيح؟ أليست مدينة بيت لحم هي أشهر مدينة في العالم "وأنتِ يا بيتَ لحم، أرضَ يهوذا، لستِ الصُّغرى بين رؤَساء يهوذا، لأنّه منك يخرج الوالي، الّذي يرعى شعبي" (متّى 6:2). كانت بيت لحم مدينة راعي المواشي الصّغير داؤد، الذي اختاره الشّعب لاحقاً كأوّل ملكٍ على إسرائيل، وبحسب التقليد مُسِح ملكاً في نفس مكان النجمة المشهورة في مغارة الولادة، التي وُلد فيها المسيح، والذي من نسله ولد لنا اليوم هذا المُخلِّص. نعم بيت لحم هي مكان ولادة مخلّص العالم. لذا تتّجه أنظار العالم كلِّه هذه الليلة إلى بيت لحم، إذ منها تنطلق فرحة هذا العيد وتنتشر في كل العالم.

هذا العيد لا تاريخٌ ثابت أو معروف له في التقويم العالمي بل أساسه الإيمان. أساسه القيصر الروماني أوريليوس الوثني. فقد دشّن يوم 25 ديسمبر عام 275 بعد المسيح أكبر معبد في زمانه للإله الشّمس وأعلن اليوم 25 ديسمبر يوم احتفال دينيّ عام في كلّ مملكته حتى يفرح النّاس بجميع ما كان لديهم من وسائل للفرح والرفاهية، وأعطى الإسم لذلك اليوم قائلاً: اليوم هو عيد ميلاد الإله المُظفّر، الإله الشمس (النّور) الذي ما أسطع منه نور، لا قبله ولا بعده إله. ويوم 25 ديسمبر هو ثابتٌ علمياً أن الشّمس تكون قد وصلت أعلى قمّة لها فوق الأرض فيبدأ ضوؤها يَسْطع لامعاً على كلِّ بقعة وينتصر بل ويطغى على ظلمة فصل الشّتاء الطويل.

ومنذ سنة 275 راح الرّومان وغير الرّومان يحتفلون بهذا اليوم كيوم عيد خارق، لا مثيل له على مدار السنة، يشترك فيه الصّغير قبل الكبير بكلّ أبهةٍ وإجلال بالإشتراك بالألعاب والأكل والشّرب، وسط احتفال دينيّ مُميّز، إكراماً لإله الشمس السّاطعة.

بعد انتشار الدّيانة المسيحيّة والإعتراف بها كديانة رسميّة للدّولة، بارتداد القيصر قسطنطين من بعد اضطهادات دامية دامت أكثر من 300 سنة أدّت بأرواح آلاف الآلاف من المسيحيين، صدر مرسوم من هذا القيصر عام 313، جاء فيه "رأَيْنا من واجبنا (...) إعطاء المسيحيين وسائر النّاس، الحرّية وإمكانيّة اتّباع الديانة التي يختارون". ويتابع بعد ذلك بقليل "قرّرنا السماح، من الآن فصاعداً، للذين يريدون ممارسة الديانة المسيحية، أن يفعلوا ذلك بحرية وكما يشاؤون، من دون أن يزعجهم أو يضطهدهم أحد". فعلى أساس هذا المرسوم احتمى المسيحيّون بمضمونه واستطاعوا أن يُبدلوا اسم هذا العيد الوثني "عيد الشّمس" بعيدٍ مسيحي يحتوي على عناصر وتعاليم مسيحيّة محضة، بحيث جعلوه يوم ميلاد نور العالم الجديد وشمسه اللامعة، أي ذاك المنتصر الكبير على الموت والخطيئة، قيصر وسيد العالم، يسوع المسيح ابن الّله، الّذي سطع نوره في العالم الجديد.

المهم من احتفالنا بعيد الميلاد هو لا اليوم ولا السّاعة، وإنّما الحدث والإيمان. فميلاد يسوع هو دلالة على أنّ الّله لم ينس العالم، صُنْعَ يديه، بل أكَّد لنا أنّ حُبَّه لهذا العالم هو فوق كلِّ اعتبارٍ أو تفكيرٍ بشريّ. يوم ميلاد يسوع البشري هو يوم ميلاد محبّة الّله لنا. هكذا أحبَّ الّله العالم، حتّى أنّه بذل ابنه في سبيله (يو 16:3). "الكلمة صار جسداً وسكن بيننا" (يو 14:1).

عالِمُ الفضاء والطيّار الروسي المُلحد يوري جاجارين، كان أول طيّار يقترب من القمر عام 1958 ويقوم بجولات استكشافية للإطلاع على طبيعة عالم الكواكب فوقنا. ولمّا رجع من جولته الإستكشافيّة صرّح: في جولاتي في الفضاء العالي فتّشْتُ عن الّله فلم أجده! يا للسّخافة! إنّه طبعاً لن يجد الّله جالساً على عرشٍ بعيداً عن عالمه. الّله لم يلد على القمر ولا على أيّ كوكبٍ آخر، بل هو نزل إلى أرضنا وسكن بيننا. هذا ومنذ ذلك التّاريخ وإلى اليوم كثُرَتْ المركبات الفضائية والطّيارون الّذين يدورون حول أشهر الكواكب، مفتِّشين عن علامات حياة عليها، وإلى الآن لم ولن يجدوا، لأنَّ الّله خلق كلّ الكائنات الحيّة وأسكنها على كوكب الأرض هذه وليس على كوكب آخر.

الّله وُلد بيننا وليس على كوكب المرّيخ أو المشتري أو القمر. أرضنا الوحيدة هي صاحبة الإمتياز. هي أصغر الكواكب المعروفة وهي وحدها الكوكب المُظلم، الّذي لا طاقة ضوئيّة فيه. إنَّ كلَّ الكواكب الأخرى تحتوي على طاقة ضوئيّة منيرة في داخلها. كوكب الأرض هو الوحيد الذي يحتاج إلى نور خارج عنه، لذلك اختاره الّله ليسطع نوره الحقيقي عليه. وهذا يعني أنّه تعالى قد فضَّل الأرض على باقي الكواكب واتّخذ له فيها مسكِنا، ليُقاسِمنا حياتنا ويكون لنا شريكاً في كلِّ شيء.

"أُبشِّركم بفرح عظيم. لقد وُلِد لكم اليوم مخلِّص في مدينة داؤد". الإحتفال بعيد الميلاد هو المناسبة السنوية المُتكررة والدائمة بين أيدينا، لكي ننشر هذا الخبر المفرّح: أنَّ الّله ما خلقنا وتركنا وشأنَنا، ولكنَّه كالمُحبّ، تعلَّق بنا وسكن معنا "ها أنا معكم كلَّ الأيّام" (متّى 28:20). فلا أعظم ولا أجمل من ديانتنا المسيحيّة ديانة، لأنّها الدّيانة الوحيدة التي تُؤكِّد، أنّ يسوع هو المُخلِّص الموعود، ابن الّله. هذا اللّقب في الدّيانة اليهوديّة كان تجديفاً وهرطقة. ومن يدّعي أنّه الّله أو ابن الّله فكان قصاصه الموت، كما قالوا لبيلاطس حتّى يحصلوا على إذن صلبه: "لنا ناموس، وحسب ناموسِنا يجب أنْ يموت، لأنَّه جعل نفسه ابنَ الّله" (يو 7:19). أليس هذا أيضاً هو قول القرآن؟ من قال أنّ يسوع ابن الّله فهو كافر ونهايته النّار الأبدية! أمّا لنا، نحن معشر النّصارى فيسوع هو المخلِّص، فلا ضرورة بعد لانتظار مجيء أيّ مخلِّص آخر، إذ هو قد أتى، ولو أن الكثيرين رفضوه. فسيبقون ينتظرون عبثاً إرسال مُخلّص آخر، إذ ما يعمله الّله لنا هو وحيد ودائم وأبدي. بميلاد يسوع ابتدأ ملكوت الّله ينتشر بيننا. ميلاد يسوع يعني اشتراك الخالق والمخلوق في محورٍ أساسيّ ورئيسي، وهو اشتياق الخالق لخليقته والخليقة أيضاً لخالقها. فكما العائلات تجتمع مع بعضها بهذه المناسبة، هكذا اجتمع الّله معنا وجعل من كلِّ البشر عائلتَه الكبيرة.

في هذه الليلة، في هذا العيد يتحقّق حُلْم رائع: الّله يصبح قريباً من الإنسان. يُصبح إنساناً ليستعيد الإنسان ما أفقدتْه وشوَّهتْه فيه الخطيئة من ميّزاتٍ إلهِيّة. فما هو عيد الميلاد بدون شخص يسوع؟. لذا فعيد الميلاد هو ليس يوم اعتيادي، بل هو يوم تاريخيّ كبير في السّماء كما على الأرض. ابن الّله يترك السّماء ويأخذ الأرض مسكنا له. فهذا يعني أن الإنسان خليقة مهمٌّة، حتّى أنّ الّله نفسه يهتمُّ بها. فهو لم يتراجع أمام أيّة مُعضِلَة حتّى يؤكّد للإنسان: أنت ابني! سكن في هذا العالم كما هو، ولم ينتظر أن تتوفّر فيه تلك الشّروط، الّتي كانت تضعُها الآله الوثنيّة للتّدخّل في شؤون البشر، بل هو نفسه خَلَق المُناسبة الّتي جعلته يترك السّماء ويأتي إلى الأرض، بما فيها من نواقص وعلّات، ليبدأ معنا في ترمِيمِها وبنائها وإصلاحها. هو يُغيّر سكناه. يأتي إلى العالم، لا لأنّها أرض مقدّسة ولكن ليجعلها تصبِح أرضاً مقدّسة. "لمّا ظهر لُطْف الّله مخلِّصنا ومحبّته للبشر، لم ينظر إلى أعمالٍ عملناها نحن في البِرّ، بل شاءت رحمتُه أنْ يُخلِّصنا" (تيطس 4:3 رسالة قدّاس الفجر). الإنسان خُلِق على صورة الّله، ولأنَّ الإنسان فقد هذه الصّورة، إتّخذ المسيح صورة الإنسان في هذه الليلة وأرجع له هذه الصورة بطريقة أعجب. إن اسمه يُدعى عمّانوئيل، أي الّله معنا.

قد يعترِض البعضُ ويَسْأَل: ماذا جلب ميلاد المسيح للعالم من جديد؟ إذ الشّرَّ بقي موجوداً، قبل وبعد ميلاده. الحروب والمناوشات بقيت بل ازدادت شراسة خاصّة المُدّة الآخيرة مع بروز القاعدة وداعش ومشتقّاتهما. الجوع والفقر بقيا بل ازدادا. الظلم بقي بل ازداد. المشاكل العائليّة بقيت بل ازدادت. الأمراض بقيت بل ازدادت. فما هو الجديد إذن، حتّى نقدِر أن نفرح؟ "هيّا افرحوا فاليوم عيد! الجديد هو أن هذا العالم قد أصبح مسكناً للــه وموطِئًا لقدميه. ميلاده أعطانا الأمل أنّه ليس فقط من السّهل بل والمُمكِن أيضاً تحويل الظّلام إلى نور في هذا العالم "لأنّه هو نور العالم"، هو مفتاح الباب لنخرج من الظّلام في داخل البيت إلى النّور السّاطع في خارجه. الجديد هو أن نعْرف أنَّ الجديد قد ابتدأ وعلينا نحن أن نكتشِفه، إذ العالم القديم الّذي نعرِفُه قد أصبَح مكان عمَلِ الّله الجديد. لقد ربط علاقةً جديدة مع هذا العالم. فالمطلوب الآن هو أنْ نربِطَ نحن معه علاقة جديدة. إنَّ عالَماً لا يزال يبني مستقْبَله بالحروب وعلى الحروب هو عالم لا مستقبل له. عالم المستقبل هو الّذي يفتح أبوابه للتّسامح والسّلام والمحبّة. وهذا كلُّه جعله ميلاد يسوع مُمكِنا. فلنفتح قلوبنا لزراعة هذه البذور، الّتي، إنْ وقعت على أرضٍ جيّدة، فستُعطي ثمراً غزيراً.

ميلاد المسيح لم يضع مِعطفاً خانِقاً على المشاكل المعروفة لتختنق، كما وإنّه لم يطمُرْها ولم يدفنها في بئرٍ عميق أراح العالم منها. لكنّ رسالة الميلاد دخلت في كلِّ هذه الميادين وتقول لنا: العالم ما عاد مسرحاً للشُّرور، فلا يجوز الحكم على الظّواهر. عالمنا دخله يسوع وزرع فيه بذور الحياة الجديدة القائمة على المحبّة والتّسامح والسّلام. بهذا عاد العالم مُؤهَّلاً لأن يقبل رسالة السّلام، التي بشّر بها الملائكة ليلة ميلاده: "المجد للــه في العلى وعلى الأرض السّلام" (لو 14:2). فعالم بدون يسوع هو مُغلَّف فارغ، لا رسالة فيه. لكن برسالة عيد الميلاد دخل يسوع الآن في كلِّ القلوب وفي كلِّ بقعة وفي كلّ ظلمة. "لقد ظهرتْ نعمة الّله" فما عاد التّفكير بعالم بدون وجود يسوع فيه مُمكناً. "أُبشِّركم بفرح عظيم. لقد وُلِد لكم اليوم مخلِّص في مدينة داؤد". هيّا افرحوا فاليوم عيد!.