موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٢ سبتمبر / أيلول ٢٠١٨
عظة رئيس الأساقفة بييرباتيستا بيتسابالا للأحد الثاني والعشرين

:

نتابع هذا الأحد قراءة انجيل القديس مرقس.

تجري أحداث انجيل اليوم بين معجزتي تكثير الخبز والسمك. ومباشرة بعد هذا النص سيَعبر يسوع حدود الجليل إلى أرض وثنية و"غير طاهرة". إن معجزة تكثير الخبز الثانية ستجري خصيصاً من أجل الوثنيين.

يبدو أن نص إنجيل اليوم يحضّرنا لهذا العبور عبر طرحه السؤال التالي: ما هو الأمر غير الطاهر؟ ما الذي يبعدنا عن الله؟

إن مناسبة الحديث عن هذا الموضوع سببه سؤال طرحه الفريسيون والكتبة على يسوع. هؤلاء أتوا من القدس، أي من مكان مقدس بامتياز. هؤلاء الأشخاص، المحافظين على التقليد والشريعة، كانوا قد عبّروا عن غضبهم إزاء عدم التزام التلاميذ بالطقوس، متسائلين عن سبب هذا التصرف (مرقس ٧: ٥).

بالنسبة للفريسيين والكتبة، إن الحدود بين الطاهر والنجس جلية وبديهية. الطاهر هو من يلتزم التزاما دقيقا بسُنّة الشيوخ والأقدمين. لهذا المقياس ميّزة حتماً؛ لقد كان مقياساً خارجياً وواضحاً يسهل التأكد منه واثبات من كان على صواب. المقياس هو الالتزام بالشريعة وسُنّة الشيوخ.

أما يسوع فيدعو تلاميذه إلى اتباع مقياس آخر ويريدهم أن يأخذوا منحنى آخر نجده في الحقيقة في الشرائع القديمة وقد تم تغافله. كان لأحكام الطهارة الخارجية دور اجتماعي هام، والغرض منه تذكير المؤمن بضرورة طهارة القلب وهذا ما يتحدث عنه يسوع في هذا النص.

يميّز يسوع بين "الفرائض" الخارجية الاتية من تقاليد الأقدمين و"الوصايا". إن الفرائض مصدرها الإنسان أما الوصايا فتأتي من الله. الالتزام بهذه الفرائض خاضع للقياس على عكس طاعة الوصايا. إن الفرائض تصبح غاية في حد ذاتها وتمنح بعضاً من الأمن ويمكنها أن توهمنا بإمكانية الخلاص بقدرتنا الشخصية، بينما تضعنا الوصايا على الطريق وتحررنا وتجعلنا منفتحين على الله.

بإيجاز، تلمس الوصايا قلب الإنسان ودوافعه العميقة في حين تبقى الفرائض أمراً ظاهريًا.

يتمثل الخطر هنا في الاعتقاد بأن الالتزام بالفرائض الخارجية يجعلنا قريبين من الله من دون ملاحظة أن القلب "بعيد" كما قال يسوع مقتبساً النبي أشعيا (مرقس ٧: ٦-٧).

إن التقاليد البشرية يمكن أن تصبح ذريعةً لتجنب طاعة الوصية الوحيدة التي بإمكانها أن تكشف معنى حياة الإنسان وتحقق ذاتها، أي وصية المحبة. إلا أن هنالك المزيد؛ عند توهّم الإنسان بأنه على صواب، فإن هذه التقاليد تمنعه من النظر إلى قلبه ومن الإدراك بأن الشر ينبع من أعماق قلبه.

هذا بالتحديد ما يهتم به يسوع في تعليمه الثاني؛ يقول بأن قلب الإنسان، وكل إنسان من دون تمييز، معرض لخطرالازدواجية والوقوع في الشر. ليس ما هو خارج الإنسان ما يوقعنا بالخطيئة بل ما يسكن فينا من الأنانية. الحد الفاصل بين الطاهر والنجس موجود هناك والعبادة الخارجية ليست كافية. كما والالتزام بالفرائض الخارجية ليس كافيا لتقريب هذا القلب من الله.

كما تجري العادة في إنجيل مرقس، لا يخبرنا يسوع عن كيفية شفاء القلب وما هو العلاج الضروري لاستعادة عافيته. قد يعود السبب في ذلك إلى كون الخطوة الأولى للشفاء تتمثل في اعتراف الإنسان بكونه مريضاً من دون تضليل نفسه عبر الاكتفاء بإجراءات خارجية لشفاء القلب، ذلك لأن الشفاء يجب أن يكون عميقًا.

إن هذا الإدراك وحده يُهيئ القلب لقبول عبور يسوع إلى الأراضي الوثنية، أي قبول نعمة الخلاص التي تدخل إلى أعماق حياتي، حيث أكون أنا غير الطاهر والوثني، وليس غيري. ينبغي عليّ أن أقبل حقيقة أن الرب سيجتاز الحدود ليصل إليّ، إلى ما يبعدني عنه، لأنه حينها يقترب ملكوت الله (مرقس ١: ١٥).

لعله بهذه الطريقة يحدث العبور من الالتزام بالفرائض الخارجية إلى الطاعة التي تشفي القلب. إن لم تستطع الفرائض أن تحررنا من أنفسنا ومن العزلة التي تحتجزنا (وهو ما يجعل القلب عليلاً)، فالطاعة في المقابل تضعنا في علاقة مع مالك الحياة ومانحها. إنه خيار العيش من هذه الهبة والأكل من هذا الخبز الذي تكلمنا عنه بشكل مفصل في قراءات الآحاد الماضية، والذي يضعنا في زخم المحبة والمجانية التي تمثل الشفاء الحقيقي والفريد لقلب الإنسان.