موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٦ يوليو / تموز ٢٠١٨
عظة المطران بيتسابالا للأحد الرابع عشر من الزمن العادي

:

يطرح إنجيل اليوم العديد من التساؤلات. هي عبارة عن خمسة أسئلة يطرحها أهالي الناصرة، وطن يسوع. هناك يدخل يسوع المجمع ويعلم، الأمر الذي يثير الدهشة أولاً (مرقس ٦: ٢)، ثم يصبح حجر عثرة للمستمعين (مرقس ٦: ٣). هذه الأسئلة تتأرجح بين الدهشة والتشكك. في الواقع هذه الأسئلة تحوّل الدهشة إلى تشكك.

إن قرأنا هذه الأسئلة بإمعان، رأينا أنها غريبة لسببين على الأقل. السبب الأول لأنها لا تنتظر جوابا، لاحتوائها مسبقاً على الجواب وعلى معلومات معروفة مسبقاً: من هو يسوع ومن أين جاء وماذا يعمل أبوه ومن هم ذووه؟… لا تحتوي الأسئلة على خطأ بل هي واقعية في حد ذاتها. ليست منفتحة ولا تذهب إلى أبعد مما هو معروف. إنها أسئلة لا تُصغي إلا إلى نفسها. إنها أسئلة لا ترغب في المعرفة.

إن موقف الإنغلاق هذا وعدم القدرة على الذهاب إلى أبعد من السؤال يمثّل خيانة للسؤال نفسه. الإنسان هو كائن قادر على السؤال، ولكن لا يستمر في تساؤلاته حتى النهاية، لأنه لا يخاطر بالدخول إلى واقع غير مستكشف قادر على إحداث تحوّل في حياته. إنه يفضّل الحفاظ على توازن بناه بنفسه، يمنحه الأمان والاطمئنان ولا يعرّضه إلى خطر التغيير.

أسئلة أهالي الناصرة غريبة لأنها غير موجهة إلى أحد: يسوع معهم وأمامهم، ويستدرجهم إلى الحوار بكلامه وتعليمه. إلا أنهم لا يتحاورون معه ولا ينفتحون للقائه ولا يوجهون أسئلتهم إليه. كانت الأمور ستأخذ مجرى آخر إن وُجّهت هذه الأسئلة إلى يسوع؛ كانت ستفتح الطريق للقاء معه ثم للخلاص. كان من الممكن أن يخلّصهم من حواراتهم الذاتية. ويمثّل الانغلاق أيضاً خيانة: لأن الإنسان مخلوق للقاء والحوار وإنشاء العلاقات. يدخل الله حياة الإنسان بدعوة تستدعي الإجابة. إن رفض الإنسان هذا الحوار، فهو ينسحب وينغلق ويخون نفسه.

ويسوع أيضا يطرح أسئلة في الإنجيل. نتوقف فقط عند آخرها وهو سؤال مأساوي: على الصليب وفي أكثر لحظات حياته ظلمة، لم يصدر عن يسوع سوى هذا السؤال: "إلهي إلهي، لماذا تَركتَني؟" (مرقس ١٥: ٣٤). على غرار أهالي الناصرة، يجد يسوع ذاته داخل واقع يتعذر تفسيره، ولا يستطيع فهمه لوحده. إلا أن قوته تتمثل في علاقته مع الآب. إنها علاقة تسمح بكل الأسئلة، ولا تستثني أي نبض حياة. وعليه كل شيء يحظى بالخلاص. ولكن أهالي الناصرة بانغلاقهم على هذه العلاقة، يغلقون أنفسهم على الخلاص. يروي الإنجيل أيضاً أنهم أصيبوا بالدهشة. يعتبرون يسوع حجر عثرة وخطرا على معتقداتهم وثوابتهم ولذلك ينبذونه.

ومن الغريب حصول ذلك تحديداً مع الأشخاص الذين عرفوه عن كثب ورأوه يترعرع بينهم. إن معرفة يسوع تختلف عن معرفة ما يقوم به ومن هم أقاربه. لمعرفته يجب طرح أسئلة وخاصة الأسئلة العميقة والأكثر صعوبة، وحتى تلك التي يتعذر تقبّلها. هذا يعني أن نخبره بما نريد، وما يراودنا من أسئلة حول الخلاص، تماماً كما رأينا في رواية المرأة المنزوفة وابنة يائيرس في إنجيل الأحد الماضي. ونطرح السؤال تماما مثل يسوع الذي طرح سؤاله "المشكّك" على الآب، لأن في سؤاله تتلخص جميع تساؤلات الإنسان.

في مسيرة المعرفة هذه نحن محظوظون. غير المحظوظين هم من يكتفون بمعرفتهم ولا يقبلون التحدي والانطلاق من النقص الذي في داخلهم، ومن عطشهم المؤلم. هم من لا يقبلون الاعتراف بضعفهم وحاجاتهم. هم من ينغلقون على اللقاء على غرار أهالي الناصرة. هناك لم "يَستَطعْ يسوع أَن يُجرِيَ شَيئاً من المُعجزات، سوى أنّهُ وَضَعَ يَديه على بَعضِ المَرضى فشفاهم. وكان يتعجّبُ من عَدَمِ إيمانِهم" (مرقس ٦: ٥-٦). ليس الأمر صدفة إن كان المرضى وحدهم هم المنفتحون على هبة يسوع. هذا تأكيد على ما قيل حتى الآن. إن الذي لم يعد لديه ما يخسره ويتمسك به هو من يستطيع أن يفتح ذاته على الهبة التي تجدّد الحياة.