موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٩ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٧
رسالة راعوية للمطران كريكور أوغسطينوس كوسا بمناسبة عيد الميلاد 2017

أسقف الإسكندرية وأورشليم والأردن للأرمن الكاثوليك :

المسيح، كلمة الله الأزلي، صار جسدًا ووُلِد وسكن بيننا (يوحنا 14:1)، فلنفرح ونتهلّل ونسجد لسرّ الله العظيم (أفسس 32:5) الذي ظهر بيننا. هذا هو معنى الميلاد الذي نحتفل به اليوم. وهذا هو سبب فرحنا في هذا العيد "لأنه قد وُلِدَ لنا ولدٌ وأُعطيَ لنا ابنٌ فصارتِ الرئاسةُ على كتِفِه، ودُعيَ اسمُه عجيباً مُشيراً إلهاً جبّاراً، أبا الأبدِ، رئيس السلام لنمو الرئاسة لسلام لا انقضاء لهَ، على عرش داوُدَ ومملكتِه لٍيُقِرَّها ويُوَطِّدَها بالحقِّ والبِرّ من الآن وإلى الأبد" (أشعيا 5:9-6).

اليوم الكلمة صار إنساناً، جامعاً بين طبيعة الله وطبيعة العبد في شخصٍ واحد (فيليبي 6:2-7). هو خالق الأزمنة وُلِدَ في ملء الزمن، وهو الذي به كُوِّن كل شيء ووُلد مثل سائر الخلائق (البابا لاوون الكبير). وُلِد بشراً مثلنا في بيت لحم، "وملأنا بنعمته" (يوحنا 16:1)، ليخلصنا من الشرّ الذي علينا أن نقاومه كل يوم.

"إن الله ما رآه قَطٌ أحد، الابنُ الوحيدُ الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه" (يوحنا 18:1)، هذا يعني أن الابن الوحيد الذي رأى الآب، المولود في شرقنا وعلى أرضنا المقدسة في بيت لحم، وُلِدَ ليمنح الحياة للناس، ويجعلنا قادرين على معرفة الله، وأن نجعل حياتنا الأرضية بكل ما فيها بداية حياةٍ أبدية أي حياة مع الله. حياة، تكون نوراً لنا في كل جهدٍ، ومسعى بشري وكفاح في سبيل السلام. كل التحديات التي تواجهنا، أفراحنا والآمنا، نجاحنا وفشلنا، نحن قادرون أن نحوّلها إلى حياة وسعادة أبدية، أعني إلى حياة مع الله تستنير بنوره وتمتلئ بقدرته وصلاحه.

الميلاد بالرّوح القدس والحقّ

عيد الميلاد يجددنا بالرّوح القدس "الذي أفاضه الله علينا وافراً بيسوعَ المسيحِ مخلّصنا، حتى نُبَرّرَ بنِعمته فنصيرَ، بحسب الرجاء، ورثة الحياة الأبدية" (طيطس 6:3-7). فبقوةِ نعمة الرّوح القدس يتجدّد فينا الميلاد كل يوم، فنلتزم بجميع واجباتنا، العائلية والاجتماعية والوطنية، لنجعلها مصدراً ومنبعاً لنعمة الميلاد الإلهية.

حياتنا الأرضية بكل فقرها وضعفها وبالإمكانات والنِعَم والمواهب الإلهية التي وضعها الله فينا، يجب أن تكون بداية حياةٍ أبدية. بقوةِ هذا الإيمان بالله، وفي ضوءِ نِعمة الميلاد، نتأمل في سرّ أرضنا التي لم تصل بعد إلى رؤية الله، ولا إلى تحقيق المحبة والسلام فيها. بقوةِ الميلاد، وبقوةِ روح الله وصلاحه الذي وضعهما في قلب وضمير كل إنسان، نؤمِن أننا قادرون على صنع السلام والعيش بموجب متطلباته. وهذا يتطلّب منّا تسامياً يسمو بنا فوق حدود ذاتنا فنتجاوزها، فنصبح قادرين على أن ننظر إلى الآخر كما ينظر الله إليه، ونقبل الآخر كما يقبله الله، حتى ندرك ونحقّق العدل والحق لنا ولغيرنا.

شمولية الميلاد

في يوم ميلاد السيّد المسيح، لابد لنا أن نفهم رسالة هذه الأرض الشمولية، حيث تظهر لنا إرادة الله في هذه الأرض من خلال الكتب المقدّسة، ومن خلال التاريخ، إذ هو نفسه الموحىَ به في الكتب المقدّسة لأنه هو سيد التاريخ. وقد جمعنا هنا عبر العصور مسيحيين ومسلمين لنُكوِّن شعباً واحداً نقبل هذه الدعوة الشمولية ونصبح قادرين على صنع وبناء السلام في كل مكان وزمان بمشيئة الله وعونه. هذه الأرض هي ملك الله، ولا يمكن أن تكون للبعض أرض حياة، وللبعض الآخر أرض شقاء وموت. كل ما جمعه الله من شعوب وقبائل، يجب أن يجدوا على هذه الأرض الحياة والكرامة والأمن والاستقرار.

طوبى للساعين إلى السلام، فإنهم أبناء الله يدعون (متى 9:5)

كلنا يعلم كيف يُصنع السلام، والكل يعلم ما هو حقّ ومصير كل إنسان يعيش على هذه الأرض الطيبة. السلام يعني ليس على الضعيف أن يستمر في الخضوع والعبودية تحت سلطة القوي، وفي تجريد نفسه من متطلبات الحياة، بل على القوي الذي بيده كل شيء هو الذي يجب أن يعتني ويهتم بالضعيف والفقير، وهو الذي يجب أن يزهد بما ليس له ويردّه لمن جرّده منه. ومع توفر الإرادة الحازمة والنيّات الطيبة لصنع السلام، يمكن لكل القضايا الصعبة أن تجد حلاً لها.

تاريخ البشرية مليء بالحروب، ولكنه مليء أيضاً بالله ونِعَمِهِ. والله محبّة، وليس إلهاً ظالماً يفرضه بعض المؤمنين على غيرهم وهم يَدّعون أنهم مؤمنون ويفرضون إرادتهم لا إرادة الله على غيرهم. يلجأون إلى العنف بسم الله، والقتل والقساوة والخراب لا تبرّره أي ديانة سماوية. التطرّف في كل ديانةٍ ومجتمعٍ هو رغبة الاستيلاء والسيطرة وإلغاء الآخر وإخضاعه لا للإيمانِ بالله ووصاياه ومحبّة القريب بل لطرق وسلوكيات بشرية شخصية معادية للغير. على القيادات الدينية اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة مسؤوليّة، ولها دور كبير وفعّال في توجيه المؤمنين وتثبيتهم في عبادة الله بالرّوحِ والحقّ والعدل (يوحنا 24:14)، وفي الوقت نفسه تعلّمهم طرق المغفرة والمسامحة والمصالحة (متى 14:6-15)، والحوار والتعاون مع كل إنسان ذو إرادة صالحة.

لا تخافوا

في عيد الميلاد، عيد ميلاد ملك السلام، كُلُّنا لنا دور في بناء وتوطيد السلام رغم كل الصعوبات والعقبات. أقول لكم ما قاله الرّب يسوع للناس أجمعين: "لا تخافوا"، فلا يحقّ لنا، وخاصةً للمسيحيّ أن يخاف، ولا أن يهرب من وجه الصعاب. هذا يعني أن يحمل كلٌّ منّا فوق همومه هموم الكُل، هموم الوطن والعائلة والمجتمع، فنبني السلام يداً بيد، ونقبل بالتضحيات لحل صعوبات الحياة اليوميّة، السياسيّة منها والاقتصاديّة، الاجتماعيّة والتربويّة والأخلاقيّة... وهكذا بتضحياتنا وسخائنا نبني السلام لمصلحة الجميع.

هذه هي رسالتنا ودعوتنا

أن نكون في هذا الشرق الذي منه انبعث النور، نور العالم، أرض السيّد المسيح.

رسالتنا أن نُحافظ على مصر الكنانة التي زارتها العائلة المقدّسة حاملة إليها السلام بقداستها وبركتها.

رسالتنا ولو كانت صعبة هي تثبيت لحضورنا الذي يبقي شاهداً للرسالة الشمولية لهذه الأرض بسرّ الميلاد الإلهي العظيم، أرض الله ومهد الديانات السماويّة الثلاث.

رسالتنا هي أن يعلم الجميع أننا نعيش في تاريخ الله الذي هو سيّده. نعيش في تاريخ يصنعه الله ويدعونا إلى أن نصنعه معه. هو الذي كان والكائن والذي سيكون، هو "البداية والنهاية والألف والياء"، ولا أحد يمكن أن يغيب عنه، لا زمان ولا مكان يمكن أن يخلو منه. هو من لا يستطيع أن يتجاهله أحد. معه وأمامه وفي ظل عنايته ورحمته نعيش ونتحرّك ونعمل ونتوحّد.

بدون خوفٍ، وبإيمانٍ عميق وبثقةٍ كبيرةٍ بالله، نتابع طريقنا ورسالتنا ونحن أقوياء ممتلئين بالرجاء والأمل، وأحراراً من كل خوفٍ وتعب.

أيها الإخوة والأخوات الأحباء: في هذا اليوم الأغر، وأمام مغارة الميلاد نرفع صلاتنا من أجل السلام في العالم، وأيضاً من أجل المتألمين والمرضى والمشرّدين واللاجئين، من أجل شهدائنا الأبرار الذين سقطوا ليسقوا بدمائهم الذكية أرض الوطن ليطهّروه من الأعداء والإرهاب لينعم أبناؤه بالحرية والكرامة. نصلي من أجل حُكامِنا حتى يحققوا بالحكمة والفطنة العدالة والأمن والاستقرار والسلام لبلادنا.

أتمنّى لكم ميلاداً مجيداً مليئاً بالقداسة والمحبة، وسنةً جديدةً مباركة ملؤها الخير والبركة والسلام.

ومع الملائكة ننشد ونسبّح الله قائلين: "المجد لله في العُلى وعلى الأرض السلام وللناس المسرّة" (لوقا 14:2).

المسيح ولد فمجّدوه... هللويا هللويا