موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٢ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٢
رسالة المطران كريكور كوسا لعيد الميلاد 2012

المطران كريكور كوسا :

إلى إخوتي الكهنة الأحباء والراهبات الفاضلات،
وأبناء الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية في أبرشية الإسكندرية،
وإلى المؤمنين أبناء الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية،

"لا تخافوا، أبشّركم بفرحٍ عظيم يكون فرح الشعب كُلِّه: وُلِد لكم اليوم مخلّص" (لوقا 10:2 -11).

أبشّركم بفرحٍ عظيم، اليوم ولد المخلّص الرّب، كلمة الله، في بيت لحم، في مغارةٍ حقيرة. واتخذ جسداً من مريم العذراء البتول فانتسب إلى العائلةٍ البشرية.

يرسم لنا القدّيس متى الإنجيلي شجرة هذه العائلة إبتداءً من داود، ليشير أن المسيح مَلِك وهو المسيح المنتظر. إنتسب يسوع إلى عائلة بشرية ليجعلنا أبناء العائلة الإلهية، فاصبحنا بالعماد والأسرار المقدّسة أبناء الآب السماوي وإخوة المسيح وهيكل الرّوح القدس.

اليوم وُلِد يسوع المخلّص: "ابن الله تجسّد من مريم العذراء وصار بشراً" (يوحنا 14:1)، فأسرع الرعاة على ألحان الملائكة ليشاهدوا ذلك الحدث العجيب.

اليوم يولد المسيح من جديد في صحراء العالم المتألم، في ساحات الحرب والفقر والتشرّد والهجرة، في الكنيسة والرعية والمجتمع، في بيوتنا... في قلوبنا وضمائرنا. يولد في لقائنا مع كل شخص، وخاصةً مع المريض والمتألم والمهمش والضعيف... يولد مرّة أخرى، كي يستمر سرّ تجسدِه ومحبّته أبدياً.

اليوم نستقبل الآتي باسم الرب، برفقة رعاة بيت لحم ومجوس المشرق. اليوم نقبل مع العذراء ويوسف إرادة الله ونخضع لأوامره، ونفرح مع الملائكة والكنيسة والعالم لهذا الحدث العظيم.

في الميلاد لك دورٌ يجب أن تؤديه كما أداه الرعاة ومريم ويوسف والمجوس.

دور الرعـــاة:

عيد ميلاد الرّب يسوع بالجسد يبدِّد الخوف، وينشر السلام والفرح والمحبّة والألفة بين الناس. هذا ما أعلنه الملاك قائلاً: "لا تخافوا، اليوم وُلِد لكم مخلّص".

لا تخافوا، أجل إن العالم أجمع في أمس الحاجة إلى سماع هذا الكلام، لأن كل ما فيه يُخيف. وكيف لا يخاف، وفي جميع مناطقه: بؤر مشتعلة، وصراعات قائمة، وإرهاب وتهديدات باستعمال أسلحة نووية جديدة تؤدي إلى ما لا يتخيّله عقل الإنسان؟ وهكذا نرى أن البشرية، وقد أصبحت في القرن الحادي والعشرين، كلّما سارت على طريق التقدّم والرقيّ، رأت أنها في الواقع تعود القهقرى، ذلك أن التقدّم المادي لا يزيل الخوف، إن لم يرافقه تقدُّم في الإيمان بالله، والتقيّد بالضوابط الأخلاقية والأدبية، وتحكيم العقل السليم المستنير بنور الإيمان الحقّ في الغرائز والنزوات.

في سكون الليل وظلامه شعّ مجد الله وانكشف أمام الرعاة، فطلب منهم أن يبشرّوا به. لقد رأى لوقا الإنجيلي في هؤلاء الرعاة الفقراء الجهلاء الذين كشف لهم الآب سرّه فقبلوا بإيمان وبساطة كلام الله.

كلام الملائكة هو كلام الفرح، هو كلام بشري وخبر سار وإنجيل نُقِل إلى شعب الله دون تمييز وتفرقة.

فهل طرحتم عنكم يا أحبائي كل كبرياءٍ وحسدٍ وقبلتم نعمة الله كالرعاة البسطاء، وفتحتم قلوبكم وأصبحتم من الذين يسر أبوهم السماوي أن يكشف لهم سرّه (لوقا 21:10)؟

دور العذراء مريم البتول:

يحدد لوقا الإنجيلي وضع مريم بكلمات قليلة: "هي البتول وخطيبة يوسف البار. هي العذراء الحُبلى من الرّوح القدس". هنا نفهم سرّ التجسّد الذي حيّر البشرية ولا يزال يحيرها.

في هذا السرّ لقاء: لقاء بين شقاء البشر ومجد الله، إنه دخول الله في تاريخنا حيث يتحد ببشريتنا لينعش فيها الأمل والإيمان والرجاء والمحبّة وليكون فيها حاضراً بمحبّته الدائمة. أمام هذا السرّ "كانت مريم تحفظ جميع هذه الأمور وتتأملها في قلبها" (لوقا 19:2).

هل قرأت الكتاب المقدّس وتأملت في أسراره وتعمّقت في تعاليمه؟ هل هيأت ذاتك لتسمع صوت الرّب وتعمل بحسب إرادته ومشيئته، وتقول مع العذراء ما قالته باسم البشرية: "ها أنا آمة الرّب" (لوقا 38:1)؟

الرّب يدعوك إلى الخدمة في العائلة والكنيسة والمجتمع، للتضحية والعطاء في كل مكان وزمان، فهل أنت مستعد لأن تكون شاهداً لأسراره وحياته أمام الإنسان المعاصر؟

دور القديس يوسف:

يوسف البار (متى 19:1) رجلٌ متواضع عاش سرّ التجسّد عن كثب، لكنه لم يستطع أن يفهم كل شيء. لقد اختبر يوسف صعوبة الإيمان، ولكنة لم يعترض على كلام الله، بل آمن بعمل الرّوح القدس في حبل العذراء مريم.

في تلك الليلة بدّد الملاك قلق يوسف وخوفه وأزال الحيرة والشك عنه وأفهمه أن المولود هو المسيح الذي سيولد من الرّوح القدس (متى 20:1).

إنسان اليوم لا يزال يشك في أمور إلهية كثيرة، صعب عليه، كما على يوسف، إدراك وفهم كل الأمور والأسرار الفائقة الطبيعة، والتي لا نستطيع أن نفهمها إلاّ بالإيمان والإيمان فقط. حقيقة التجسّد الإلهي لا تتضح لنا إلاّ إذا قبلنا صوت الله الذي يهمس في ضمائرنا ويكشف لنا عن عمق وجوهر سرّ التجسّد العظيم الذي لا نستطيع فهمه بعقلنا البشري.

دور المجوس:

"قد رأينا نجمه في المشرق فجئنا لنسجد له" (متى 2:2). ظهور النجم الغريب في الشرق وإشراقة نوره في السماء، جعل المجوس يتركون كل شيء و يتبعوا النجمة ويبحثوا بحثاً دقيقاً عن يسوع الطريق والحق والحياة. ورغم كل الصعوبات والمشقّات والمسافات الطويلة وصلوا إلى المغارة، ووجدوا يسوع ومريم ويوسف ففرحوا فرحاً عظيماً لأن الله الخالق والمخلّص كشف سرّ علاقته مع البشر. وعرفوا أن الله افتقد شعبه (لوقا 68:1)، وأن الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً (أشعيا 2:9)، عند ئذٍ سجدوا وقدّموا هداياهم للإله المتجسّد: ذهباً وبخوراً ومُرّاً، شاكرين عظمة العطاء الإلهي للبشرية، والذي يفوق كل هدايا البشر. فانصرفوا ورجعوا في طريق آخر إلى بلادهم لأن هيرودس كان يريد أن يقتل الطفل يسوع مَلِك السلام.

بالأمس أراد هيرودس أن يقتل يسوع واليوم مئات الهيرودسييون يقتلون أتباع يسوع في العالم، وما زال البشر يبحثون عن مخلّصٍ يمنحهم السلام وحرية الضمير ويعيد لهم كرامتهم وحقوقهم.

أمام الطفل الإلهي نقف خاشعين متأملين مصلّين لكي نخلع عنا أعمال الظلم ونتمسك بالحقيقة وندافع عن الحقّ ونطالب بالحرية.

أمام طفل المغارة نرفع الصلوات لتتنقى الضمائر وتلين القلوب القاسية وتعود البسمة إلى أطفالنا ونجدّد الثقة في شبابنا وتلتقي العائلات وكل المجتمعات بالفرح والتسامح.

الميلاد: إيمان وتجدّد وحياة

في البرية كان قداس الميلاد الأول، وأمام الطفل يسوع المتجسّد – القربان – أنشدت الملائكة في السماء: "المجد لله في العُلى وعلى الأرض السلام وللناس المسرّة" (لوقا 14:2). مجد الله دوماً في حنانه وغفرانه، سكب سلامه فأزهرت البرية فرحاً وسلاماً، وتحوّلت أرض اللعنة إلى بركة، وفاضت نعماً، وبدأ الرجاء الصالح ينمو في قلوب البشر بعالم أفضل وأسمى.

اليوم في قداس الميلاد، في قداسك أنت وفي كل مرّة تقوم للصلاة يتحوّل العالم فيك من ساحة حرب إلى واحة سلام، وبحر الشقاء يصبح فسحة سماء. فهل أدركت مفعول الصلاة بأنواعها في حياتك، واحتفلت دائماً بها مع الأسرة والرعية وتعود إلى بيتك وعملك كالرعاة وأنت تمجد الله وتسبحه على كل ما سمعت ورأيت (لوقا 20:2)؟

لاتخافوا: لأن عيد ميلاد الرب بالجسد ينشر السلام في القلوب. هو وحده يأتينا بالسلام المنشود، ولهذا قال: "السلام أستودعكم وسلامي أعطيكم. لا أعطي أنا كما يعطي العالم. فلا تضطرب قلوبكم ولا تفزع" (يوحنا 27:14).

إننا ندعوكم في سنة الإيمان هذه إلى التعمّق في سرّ التجسّد والتأمل بالكتاب المقدّس وتعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني وكتاب التعليم المسيحي للكنيسة الجامعة لكي نكتشف فرح الإيمان والرجاء في حياتنا والعمل بها.

نسأل الإله المتجسّد، طفل المغارة، مَلِك السلام أن يجود علينا وعلى العالم أجمع بسلام عادل وشامل وأن يجعل هذه الأعياد الخلاصية والسنة الجديدة عليكم جميعاً مقيمين ومغتربين، مواسم سلام وتوفيق وخير، ويعيدها عليكم بالنِعَم والبركات السماوية.