موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٣٠ أغسطس / آب ٢٠١٧
د. شارلي أبو سعدى يكتب: ’المطران بيتسابالا، من الألم إلى الأمل‘

د. شارلي يعقوب أبو سعدى :

قال رئيس الأساقفة بيير باتيستا بيتسابالا، المدبر الرسولي للبطريركية اللاتينية في القدس، إن المسيحي المشرقي العربي يعيش تحت ظروف تاريخية تمتاز بالتغيير والتغيّر السريع على جميع الأصعدة، فهو مضطر بالتالي إلى أن يعيش حالة من القلق والشكوك والالتباس في الهوية. نعيش في زمن يُلغي مكان ومكانة الله الخالق. زمن نسمع فيه صوت البنادق والحروب، أمّا صوت العقل والضمير فهو مضطر إلى الصمت. زمن يضعنا جميعاً في مواقف صعبة ومحرجة، فنجد أنفسنا عاجزين عن الإجابة عن أسهل الأسئلة التي يسألها الناس. فما هو مستقبل المسيحيين المشرقيين؟

يقول المطران بيتسابالا إن منطقة الشرق الأوسط باتت مفتتة بسبب الحروب الكثيرة التي قتلت وشردت أهل البلاد بما فيهم المسيحيون، فتناقصت أعدادهم. إن الصراعات المستمرة دمّرت النسيج الاجتماعي والثقافي والديني في المنطقة، أمّا الشعور بالانتماء إلى المجتمع الديني فلم يعد كافياً لدعم الوجود المسيحي. والحل في نظر المطران فهو إعادة البناء. لكنه يسأل ويتساءل: "كيف نبني وأين نبدأ وأي معايير نستخدم؟".

وذكر المطران بيتسابالا إن التحدي الأكبر الذي يواجه كنائسنا اليوم هو كيفية إقناع المسيحيين المهجّرين والمهاجرين بالعودة إلى وطنهم الأم. ونضيف إن التحدي الأكبر هو أيضا: متى يقرر زعماء الغرب إنهاء حروبهم في الشرق ومتى يعي أهل الشرق العربي ويفلتوا من قبضة أسياد الحرب في الغرب؟ ويؤكد القس متري الراهب أن السبب الرئيسي الذي أدّى إلى نقصان عدد المسيحيين هو النكبة، والهجرة التي سببتها. ففي العام 1948 كانت نسبة المسيحيين في فلسطين التاريخية 8%، أمّا بعد النكبة فقد انخفضت هذه النسبة إلى 2.4%. أمّا الدكتور برنارد سابيلا فيحدد أن عدد المسيحيين الذين هجّرهم الاحتلال كان من 50000 إلى 60000 مواطن. ويضيف: "منذ العام 1967 وحتى بداية التسعينات من القرن الماضي كان معدل هجرة الفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة أكثر من 13.000 مواطن كل عام (8.000 من الضفة و 5.000 من القطاع)... ومن بين هؤلاء ما يقارب عشرة آلاف مسيحي فلسطيني، أي أكثر من 20 % من مجموع المسيحيين الفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة". وفي هذا السياق يؤكد المطران بيتسابالا أن المسيحيين المشرقيين يجب أن لا يربطوا مصيرهم بالحلول السياسية التي جلبت فقط الاحباط للناس. ولكنا نقول إن الأوضاع السياسة والحلول السياسية التي هي حرب ودمار وحرمان حرية هي بيئة الحياة الطبيعية لكل مواطن ومن ثم لكل مسيحي، فلا يمكن إلا أن تؤثر في حياته اليومية، فيقاومها أو يهاجر. والقيادات الدينية يجب أن تساعد المؤمن في تفكيره وفي رؤيته للأمور ليكون قويا في مقاومته للأوضاع السياسية القاتلة، فيبقى في أرضه ولا يهاجر. وأمام هذا الوضع المعقد فإن الكنيسة تجد نفسها في ظروف صعبة وخصوصاً أنها مدعوة لزرع الأمل بين الناس. فأين يكمن خلاص مشرقنا العربي؟

التقى المطران بيتسابالا مؤخراً بشاب فلسطيني مسيحي، كان قد رجع لتوه من الخارج حيث كان يدرس. تبادلا الحديث حول الوضع المحلي وكيفية الخروج من الأزمة. وقد أعجب المطران كثيراً بتفكير هذا الشاب الذي أكّد أن الحل هو التمسك بالإيمان المسيحي والرسوخ في المسيح، ذلك الإيمان الذي يدعونا إلى المحبة. وقد أمرنا الله أن نحب الجميع وحتى الأعداء، وهذا سيغّير الناس وأفكارهم فتنتشر الخميرة الطيبة في المجتمع. وهنا أيضا نقول إن التمسك بالإيمان يدعو المسيحي إلى الالتزام في مجتمعه وفي ظروف الحياة اليومية، ويعمل مع كل المواطنين على إصلاحها أو تحسينها. فمن أول المبادئ لبقاء المسيحي المعرفة أنه فرد في مجتمع عام فيه المسيحي وغير المسيحي، وعدم اعتبار نفسه فئة أو طائفة خاصة يبحث وحده عن البقاء، بل يجب أن يعلم أن بقاءه من بقاء الجميع ومع بقاء الجميع.

هذه هي دعوة المسيحي في هذه الأوضاع المظلمة تماماً. أن نكون ملحاً ونوراً للجميع. التمسك بالإيمان لا يعني أن أكون مؤمنا منعزلا في عالم الروح، من دون عمل وعطاء مع كل الناس وكل المنكوبين في هذا المجتمع. أن أكون مؤمنا يعني أن أعيش إيماني يوماً بعد يوم أينما كنت ومع جميع الناس الجاهدين والساعين إلى الخلاص والحرية. هذه دعوة لنا للتحلي بالشجاعة والجرأة للمضي قدماً في تغيير المجتمع والعقليات السلبية فيه. العدد لا يهم أبداً، بل النوعية. التقوقع لا محل له بيننا، أمّا التباكي على الماضي وعلى الوضع الحالي فهو مرفوض أيضاً. نحن أبناء اليوم، أبناء النور الذي لا ينطفئ، أبناء القائم من بين الأموات والإله الحي الموجود بيننا وفينا. عاش أجدادنا وظلموا لكنهم بقوا شهداء لوطنهم ولكنيستهم ولكتابهم المقدس. إيليا النبي عاش تجربة مرّة جداً حتى أنه فضّل الموت على الحياة، لكنه لم يستسلم بل مضى قدماً في تغيير المجتمع ونجح في النهاية. وإرميا النبي تعرض للصعاب أيضا حتى إنه تمنى لو لم يولد، لكنه وضع ثقته بالله الحي.

علينا اليوم أن نواجه الخوف بشجاعة وأن نكون حكماء كالحيات. فالله الخالق والقادر على كل شيء يستطيع أن يغيّر الوضع القائم والراهن، كما فعل مع يوسف الذي ألقاه اخوته في البئر ثم باعوه لقافلة من التجار. إن الشر الذي حصل مع يوسف قد حوّله الله لاحقاً إلى خير، فأصبح هذا الشر وسيلة لإنقاذ نسل يعقوب من المجاعة، والكتاب المقدس مليء من هذه الوقائع. إن الشيطان وعلى مر التاريخ والعصور لم يستطع أن ينتصر على الله، ولو ظهر ذلك في فترات كثيرة من التاريخ أو في فترتنا اليوم. الله هو سيد التاريخ وله الكلمة الأخيرة في التاريخ وفي حياة كل شعب وكل إنسان. إن الله يحّول الشر إلى خير باسلوبه وبطريقته الخاصة وفي الوقت الذي يريد. وسؤال كل واحد منا هو طبعا: متى يظهر الله قدرته ومحبته هنا ويمنح الخير والسلام لمنطقتنا؟

إن الخير سيأتي والسلام سيعم يوماً ما، وسيجد الفلسطيني نفسه يعيش بكرامة. لكننا يجب أن نعمل لنحضّر لذلك اليوم... أن نحب الله والناس مهما اختلفوا عنا، أن نقيم العدل بين الجميع، أن نعطي الفقير والمريض والمهجّر والأسير والمنبوذ حقه في هذه الحياة. أن نجعل حياتنا إيمانا بالله ومحبة لجميع خليقة الله، وهدفنا استعادة حريتنا، وتكوين إنسان كرامته من كرامة الله، وبناء مجتمع الكل فيه أحرار ومتساوون بالكرامة التي منحهم إياها الله. وباختصار: أن نكون بشراً ونعيش كبشر.