موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢١ يونيو / حزيران ٢٠١٦
د. رندا جريسات تكتب: الأب يعقوب حجازين في ذاكرة الوطن

د. رندا جريسات :

نصول ونجول؛ ندور ونمور في الحياة طولاً وعرضاً وعمقاً. نتفاعل، ونتفق، ونختلف، ونبني عَلاقات مع الآخرين؛ بعضها يستمر والبعض الآخر يندثر. وإذ نتنقل من محطة إلى أخرى في هذه الحياة، نجد أنّ عدداً محدوداً جدّاً من الناس ينقشون شيئاً في عقولنا وقلوبنا، ويتركون أثراً طيباً في ذاكرتنا على مدى العمر.

في السبعينيات من القرن الماضي، جاء ذات يوم إلى مدرسة لاتين الفحيص وكنيستها الأب يعقوب حجازين ككاهن رعية ومربٍّ تربويّ دينيّ. كنت في ذلك الوقت في المرحلة الابتدائية. انتقلت بعدها إلى مدرسة أخرى، ثم إلى الجامعة والدراسات العليا. وبحكم الظروف الاجتماعية والتنقل والعمل، ابتعدت قليلاً. إلا أنّ "أبونا" يعقوب كان يتابع ويراقب إنجاز طلبته وتحصيلهم، ويفتخر بهم ولو من بعيد. فهو مَن خرَّج وعلّْم أجيالاً ما زالت تذكره بكل خير واعتزاز.

علَّمنا أبونا يعقوب أنّ من لا وطن له لا دين له، وأن الوطن يتقدم على كل شيء؛ هو الماضي والحاضر والمستقبل. رسّخ فينا مبادئ الدين المسيحي، مُبيّناً أنّ المسيحية تعني المحبة، والسلام، والحوار، وتقبّل الرأي الآخر. علمنا أنّ انسانية الإنسان لا حدود لها، وأن التديُّن لا يقف عائقاً أمام التقدم، والانفتاح، واحترام الاختلاف في الرأي. كبرنا، وكبرت هذه الأفكار معنا. ابتعدنا؛ لكننا لم نبتعد بثقافتنا وممارساتنا عما زرعه فينا، من تنمية القيم الإنسانية جيلاً بعد جيل.

أحبّ يسوع واتّبع خطاه. كان يعلّم ويقود؛ وكان ينشر تعاليم المسيح بأسلوب عصريّ مؤثر يلائم كل زمان ومكان. خدم رعيته وإنسانيته زمناً طويلا، ويستحق فعلاً أن يُلقب بشيخ الكهنة والعم والخال لكل منا.

لمن لم يعرف أبونا يعقوب حجازين، فهو رجل لا يعرف الخوف أو التردد. يملك روح المبادرة في بناء جسور التواصل بين البشر. يتصدر الجلسات والجاهات. ينتمي إلى هذا التراب واضعاً نصب عينيه مقولة الحسين الراحل "فلنبْنِ هذا البلد ولنخدمْ هذه الأمة".

ما زلت أذكر تشجيعه لي وإعجابه بموضوع رسالتي للدكتوراة عن "الأخلاقيّات الحيويّة". فكانت رؤيته للتقدم العلمي وللمشهد السياسي ثاقبة. مثلاً، قال لي مهاتفاً قبل بداية "الربيع العربي": إننا في أمس الحاجة إلى موضوع الأخلاقيات الحيوية في ممارسات العلم والمجتمع. كان يحثني على إدخال تدريس هذا الموضوع في مناهجنا، وفي سياساتنا التعليمية في المدرسة والجامعة على حدٍّ سواء. كان يؤمن أن التغيير قادم، وأن استغلال الدين سيتصدر المشهد؛ وعلينا أنْ نتصدّى لمواجهة ذلك. تألم كثيراً لنواتج الربيع العربي، وللضغوطات التي تُمارس على الأردن. فكان أردنياً حتى النخاع، ولم يكن يميز بين شخص وآخر إلا بمقدار إيمانه وحبه لأردنيّته.

انتهت رحلة ابونا يعقوب حجازين على الأرض؛ لكنه لن يرحل من ذاكرتنا، بأسلوبه التربوي والديني، وبخدمته لرعيته في كلّ بقعة من بقاع بلدنا. وسيبقى في ذاكرتنا بمواقفه الرجولية وبطولاته الحقّة وشهامته ونخوته.فقد أحب الناس وأحبّوه. وكان كبيراً في حياته وفي مماته؛ فبكيناه من القلب.

randa1@orange.jo