موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ١٠ يوليو / تموز ٢٠١٣
درس من البلقان للشرق الأوسط

محمد السماك :

نقلاً عن جريدة المستقبل اللبنانية

انضمت كرواتيا هذا الشهر يوليو- الى الاتحاد الأوروبي. وبذلك تكون الدولة الثانية بعد سلوفينا، من الدول التي انبثقت من الاتحاد اليوغسلافي السابق، التي وجدت طريقها الى الاتحاد. وتوجد على لائحة الانتظار ثلاث دول أخرى هي: صربيا ومقدونيه والجبل الأسود. وكل هذه الدول يغلب على هويتها المسيحية الأرثوذوكسية.
وثمة لائحة أخرى تضم دولاً "يحتمل" أن يبحث في طلب انضمامها ايضاً من بين مجموعة دول البلقان هي كوسوفا والبوسنة والبانيا.

ومن الملاحظ ان هذه الدول الثلاث الأخيرة يشكل المسلمون أكثرية سكانها. غير ان هذه الدول الثلاث تعرف ان تركيا رغم كل مؤهلاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، ورغم انها عضو مؤسس وفاعل في حلف شمال الأطلسي، فانها لم تتمكن من الدخول الى عضوية الاتحاد الأوروبي لسبب وحيد، أعلنه مسؤولون أوروبيون صراحة، وهو ان المسلمين يشكلون الأكثرية الساحقة من سكانها الذين يزيد عددهم على السبعين مليوناً.

لقد ضاقت أوروبا ذرعاً بكثافة الوجود الاسلامي وتناميه في مجتمعاتها. ويترجم هذا الضيق صعود حركات وأحزاب اليمين المتطرف التي تناصب المسلمين العداء وتعتبرهم خطراً على وحدة النسيح الاجتماعي الأوروبي. كما تترجمه سلسلة التشريعات التي اتخذها عدد من الدول الأوروبية وبخاصة فرنسا وهولندا والتي تفرض قيوداً مشددة ليس فقط على هجرة مسلمين اليها، بل على السلوك الاجتماعي الديني لمن أصبحوا مواطنين لديها. وكانت مستشارة ألمانيا انجيلا ميركل قد نعت التعايش بين الثقافتين الغربية والاسلامية في بلادها، الأمر الذي أثار ردود فعل واسعة حتى داخل المجتمع الألماني ذاته.

يدين مسلمو البوسنة وكوسوفا الى اوروبا والى الولايات المتحدة بمساعدتهم على التخلص من محاولات الهيمنة والتي وصلت الى ارتكاب عمليات إبادة تعرضوا لها بعد تمزق يوغسلافيا 1991 1992.

فالمسلمون في البوسنة واجهوا منفردين المحنة القاتلة على يد القوات الصربية في عام 1995 بعد أن فقدوا مئات الآلاف من الضحايا. ولولا التدخل الاميركي الأوروبي لكانت عمليات الابادة الجماعية (كما تدل على ذلك مجزرة سيبرينتشا ) قد ذهبت الى أقصاها. وقد تمكنت الولايات المتحدة من أن تفرض على صربيا (من خلال محادثات دايتون) تسوية سياسية أقرت بقيام البوسنة الاتحادية وبرفع السكين الصربية عن أعناق أهلها.

وفي عام 1999 حدث الشيء ذاته في كوسوفا، إذ ان طائرات حلف شمال الأطلسي تولت قصف المواقع العسكرية الصربية، وقصفت حتى بلغراد ذاتها وفرضت بالقوة العسكرية استقلال كوسوفا. وبمناسبة عيد الاستقلال ترتفع في شوارع العاصمة برستينا أعلام أميركية احتفالاً بالعيد ربما أكثر من الأعلام الوطنية الكوسوفية، اعترافاً بالجميل.

ولكن لا أزمة البوسنة ولا أزمة كوسوفا تنعمان بتسوية نهائية. ففي البوسنة لا يزال الصراع حول تداول السلطة بين المسلمين البوسنيين والكروات الكاثوليك والصرب الأرثوذكس يتفجر من وقت لآخر. فالصيغة الاتحادية التي ولدت في اتفاق دايتون لا تزال صيغة هشة معرّضة للسقوط في أي وقت.

وفي كوسوفا فان الجيب الصربي في شمال البلاد والذي يضم أقلية صغيرة، فانه يشكل مصدر اضطراب دائم. فالمسلمون الكوسوفار الذين يبلغ عددهم 1،7 مليوناً، يتحدرون من أصول البانية شأنهم في ذلك شأن معظم مسلمي البلقان. اما مسيحيو الشمال فيتحدرون من أصول صربية ويتمتعون بحكم ذاتي محلي وبحماية حلف شمال الأطلسي بموجب معاهدة الاستقلال التي حصلت عليها كوسوفا.

هناك مطالب بتقسيم البوسنة بحيث يضم الجزء الأرثوذوكسي منها الى صربيا والجزء الكاثوليكي الى كرواتيا، وما تبقى يبقى للمسلمين البوسنيين. وهناك مطالب بتقسيم كوسوفا بحيث يفصل الجزء الشمالي الأرثوذوكسي عن الدولة ويضم الى صربيا.

كما ان هناك مطالب بتقسيم مقدونية، بحيث يفصل الجزء الجنوبي بأكثريته الاسلامية عن الدولة ويضم الى البانيا، وذلك بعد أن تعثرت كل محادثات المشاركة السياسية بين المسلمين والمسيحيين الأرثوذوكس الذين يشكلون أغلبية سكان هذه الدولة.

من هنا يبدو واضحاً ان عملية التجزئة والتقسيم التي بدأت مع سقوط الاتحاد اليوغسلافي لم تتوقف، ولم تصل الى خواتيمها. فالنرجسيات القومية والدينية المتعددة في البلقان لا تزال حية، بل انها تزداد حيوية، بحيث ان خريطة المنطقة تتعرض الى إعادة تخطيط والى إعادة تحديد.

كان الرئيس اليوغسلافي السابق سلوبودان ميلوسوفيتش يرفع شعار صربيا الكبرى. وقد خاض تحت هذا الشعار حروب إبادة ضد المسيحيين الكاثوليك وضد المسلمين معاً، الى ان انتهى به الأمر الى محكمة العدل الدولية حيث حوكم وحكم عليه بارتكاب جرائم ضد الانسانية ومات في عام 2006 وهو في السجن.

لم يكن ميلوسوفيتش أول قومي صربي يرفع هذا الشعار ويموت في سبيله. لقد سبقه اليه آخرون تسببوا في نشوب الحرب العالمية الأولى في عام 1914 والتي أودت بحياة 35 مليون انسان.

فقد أشعل فتيل تلك الحرب شاب قومي صربي من مدينة سيراييفو عاصمة البوسنة اليوم-، إذ قام باغتيال ولي عهد النمسا الذي كان يقوم بزيارة رعائية رسمية للمدينة. فردت الامبراطورية النمساوية الهنغارية بحملة تأديب واسعة للصرب. انتصر الروس الأرثوذكس الى الصرب الأرثوذكس فقامت التحالفات الأوروبية التي أشعلت نار تلك الحرب المدمرة، وجرّت اليها دول العالم كلها .

وجه امبراطور النمسا انذاراً مدته 48 ساعة الى الصرب، ولكنهم لم يكترثوا. وهو ما حدث عندما وجه حلف شمال الأطلسي الانذار اليهم للانسحاب من كوسوفا ولم يكترثوا أيضاً. فكانت الكارثة في المرتين.

وحتى قبل حادثة سيراييفو في عام 1914، اقتحم في 11 يونيو من عام 1903، 28 جندياً صربياً القصر الملكي في بلغراد وقتلوا الملك الكسندر وزوجته الملكة دراغا - ولم يكونا من الصرب- احتجاجاً على الموقف السلبي للملك من المشروع القومي الصربي. وقد تمزقت اجسادهما شر ممزق والقي بجثتيهما عبر شرفة القصر الى الساحة الرئيسية ومن هناك تولت الجماهير الصربية سحلهما أو ما تبقى منهما في الشوارع، بحيث لم يعد بالإمكان التعرف على أي منهما.

لم تتمكن الامبراطورية النمساوية من تدجين الحركة القومية الصربية. وفشلت الامبراطورية العثمانية من بعدها في هذه المهمة أيضاً. وخلال العهد اليوغسلافي، ورغم رئاسة الجنرال تيتو الكاثوليكي الكرواتي، فقد تولى الصرب شؤون ادارة الدولة والاقتصاد والجيش على مدى عقود طويلة. ولكن بعد أن سقط الاتحاد اليوغسلافي سقط كل شيء.

بدأت عملية اغتيال قومي صربي لولي عهد النمسا، جريمة، وانتهت مأساة. وبدأت عملية حرب البوسنة وكوسوفا مأساة، وانتهت جريمة ويخشى أن تبقى منطقة البلقان رغم كل ما تعرضت له من تجزئة وتقسيم، مفتوحة أمام المزيد من المآسي التي تتحول جرائم.. والى المزيد من الجرائم التي تتحول الى مآسىٍ.

فهل تغير من هذا الواقع المأسوي الانقسامات المتمثلة في قيام الكيانات السياسية الجديدة.. تحت مظلة الاتحاد الأوروبي؟

يحمل الشرق الأوسط بعض الجواب. وهو بالنفي. ذلك ان المنطقة العربية التي قسمها سايكس وبيكو لم تجد في التقسيم حلاً لمشاكلها. وها هي تتعرض اليوم الى خطر تقسيمات جديدة على يدي سايكس جديد وبيكو جديد.. ولم تجد في جامعة الدول العربية مظلة تحمي وحدة كياناتها السياسية.