موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٣٠ ابريل / نيسان ٢٠١٦
تأمل يوبيل الرحمة لشهر أيار: الصلاة لأجل الأحياء والأموات ودفن الموتى

المطران بولس ماركوتسو :

في سنة يوبيل الرحمةِ نُقدّم تفكيراً شهرياً حول عمل من أعمال الرحمة الروحية والجسدية. في شهر أيار هذا بالذات، نُقدّم تأملاً حول "الصلاة لأجل الأحياء والأموات وتأملاً اخر حول "دفن الموتى".

أ‌) الصلاة لأجل الأحياء والأموات

وهي أنجع الوسائل للممارسة أعمال الرحمة. نحن نعرف، طبعاً أن كل أعمال الرحمة الجسدية مهمة: " إِذا قالَ أَحَد: إِنِّي أُحِبُّ الله، وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا. لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه. إِلَيكُمُ الوَصِيَّةَ الَّتي أَخَذْناها عنه: مَن أَحَبَّ اللهَ فلْيُحِبَّ أَخاه أَيضًا” (1 يوحنا 20 :4). ولكن الصلاة أفيد وسيلة إذ بالصلاة الله نفسه يعمل في الإنسان وفي العالم.

1- الأسس الكتابية واللاهوتية والليتورجية

في الكتاب المقدس كلّه، في عهديه القديم والجديد، نقرأ أن الله يطلب هذه الصلاة ونرى المؤمن يُصّلي لأجله ولأجل الاخرين، الأحياء والأموات: "فلْيَعتَرِفْ بَعضُكم لِبَعضٍ بِخَطاياه، ولْيُصَلِّ بَعضُكم لِبَعضٍ كَي تُشفَوا. صلاةُ البارِّ تَعمَلُ بِقوَّةٍ عَظيمة" (يعقوب 16: 5).

من الناحية اللاهوتية، هذه الصلاة مبنية على التضامن الأكيد والشركة القوية الكامنة بين جميع المؤمنين ولا سيما المتّحدين بالمسيح بالعمّاد المُقدس: "فما مِن أَحَدٍ مِنَّا يَحْيا لِنَفْسِه وما مِن أَحدٍ يَموتُ لِنَفْسِه" (رومية 14: 7). ويوكّد لنا القديس بولس: "ولكِنَّ الأَعضاءَ كَثيرَةٌ والجَسَدَ واحِد. فلا تَستَطيعُ العَينُ أَن تَقولَ لِليَد: "لا حاجَةَ بي إِلَيكِ" ولا الرَّأسُ لِلرِّجْلَينِ: "لا حاجَةَ بي إِلَيكُما. بل لِتَهتَمَّ الأَعْضاءُ بَعضُها بِبَعْضٍ اَهتمامًا واحِدًا. فإِذا تَأَلَّمَ عُضوٌ تَأَلَّمَت مَعَه سائِرُ الأَعضاء، وإِذا أُكرِمَ عُضوٌ سُرَّت معَه سائِرُ الأَعضاء"(1 كور 26 و18-20 :12).

امّا من الناحية الليتورجية فتقليد الكنيسة عريق جداً، شامل (في كل الكنائس) وثابت (في كل الأزمنة). وهذه الصلاة للآخرين مبينة على قوة الشفاعة: " فهُو لِذلِك قادِرٌ على أَن يُخَلِّصَ الَّذينَ يَتَقَرَّبونَ بِه إِلى اللهِ خَلاصًا تامًّا لأَنَّه حَيٌّ دائمًا أَبَدًا لِيَشفَعَ لَهم" (عبر 25: 7). و" كَذلِكَ فإِنَّ الرُّوحَ أَيضاً يَأتي لِنَجدَةِ ضُعْفِنا لأَنَّنا لا نُحسِنُ الصَّلاةَ كما يَجب، ولكِنَّ الرُّوحَ نَفسَه يَشفَعُ لَنا بأَنَّاتٍ لا تُوصَف. والَّذي يَختَبِرُ القُلوب يَعلَمُ ما هو نُزوعُ الرُّوح فإِنَّهُ يَشفَعُ لِلقِدِّيسينَ بما يُوافِقُ مَشيئَةَ الله" (رومة 26-27 :8).

2- ماذا وكيف وأين نصلّي؟

القداس الإلهي و" ليتورجيا الساعات" (الفرض الإلهي) هما، على الاطلاق وفي كل الكنائس، أحسن الصلوات لأجل الأحياء والاموات. لأن في القداس السيد المسيح نفسه يُصلي ويُقدم نفسه من أجل الجميع. وليتورجيا الساعات هي جوهراً صلاة الكتاب المقدّس مبينة خاصّة على المزامير، وهي صلاة رسمية أي الكنيسة تصلي لأجل الكنيسة. ونظرا الى أهمية هذه الصلوات الليتورجية، جعلتها الكنيسة واجباً يومياً على كل الكهنة، على الشمامسة والمكرّسين.

وهنالك صلوات وممارسات اخرى تقليدية، جميلة وبسيطة، نعرفها عن غيب ويمكن ان نصلّيها في كل مكان وزمان: - الصلوات التقليدية المألوفة: ابانا، السلام، المجد، وافعال الايمان والرجاء والمحبة. - الممارسات التعبّدية المألوفة، خاصّة المسبحة الوردية ومسبحة الرحمة ودرب الصليب والتساعيات. - وأي صلاة اخرى رسمية أو شخصية جماعية أو فردية. - تقدمة التضحيات والإماتات. - تقدمة الصيام الرسمي أو الشخصي. - تقدمة أعمال النهار وخاصةً أعمال الخير.

وفي سنة يوبيل الرحمة هذه، لا ننسى ممارسة الغفرانات المقدّسة التي يمنحها ألله، لصالح الأحياء والاموات، للذين يعبرون بإيمان "باب الرحمة"، ويتلون صلوات معينة ويمارسون سرّ التوبة وتقبل المناولة المقدسة. وهذه الممارسة تُبرَّر لاهوتياً على أساس الاستفادة من استحقاقات السيد المسيح ومن استثمار قداسة الكنيسة وقداسة شركة المؤمنين.

وهنا نذكر بسرور القدّيسة مونيكا، ام القديس أوغسطينوس، التي قبل وفاتها بقليل قالت لابنها: " الان أستطيع أن اموت لان الربّ استجاب لدموعي. واراك صرت مؤمناً مسيحياً...لا يهمّني مكان دفني، يهمّني شيء واحد: اوصيك أن تذكرني، أينما كنتَ، امام هيكل الربّ" (الاعترافات، الفصل 9). ونجد أساسا لعمل الرحمة هذا في تصريح القدّيس أغناطيوس دي لويولا: " صلّوا كما لو كان كلّ شيء متعلّقا بالله، واعملوا كما لو كان كلّ شيء متعلّقا بكم" (CCC 2834).

ب‌) دفن الموتى

دفن الموتى واجب طبيعي وبديهي على كل انسان وفي جميع الشعوب والديانات والحضارات. طقوس دفن الموتى ورموزها هي أقدم علامات التمدّن في التاريخ وحتى في الحقبة التي نسّميها قبل التاريخ. ولكن هذا العمل التقليدي الحميد يحتاج الى انتباه دائم حتى يحافظ على معانيه السليمة ويتطلب حكمة واتّزانا حتى يتمّ بصورة جيدة ونتجنّب الانحرافات.

ونظراً الى أهمية هذا الواجب الايمانية أصبح عملاً من أعمال الرحمة. ولا عجب إذا أدخلت الكنيسة في قانون الايمان نفسه ذكر دفن السيد المسيح وجعلته جزءا لا تجزأ من نواة الكرازة الرسولية الأساسية (Kerygma): “سَلَّمتُ إِلَيكم قبلَ كُلِّ شيَءٍ ما تَسَلَّمتُه أَنا أَيضًا، وهو أَنَّ المسيحَ ماتَ مِن أَجْلِ خَطايانا كما وَرَدَ في الكُتُب، وأَنَّه قُبِرَ وقامَ في اليَومِ الثَّالِثِ كما وَرَدَ في الكُتُب" (2 كور 15: 3-4).

1- الاساس الانساني واللاهوتي

هو الأساس الجوهري لعمل الرحمة هذا يكمن في الايمان في كرامة الشخص حتى لو كان ميتاً والوعي بمعاني الموت وما بعد الموت وبالحياة الابدية.

2- كيف نتمّم عمل الرحمة هذا؟

يُقدّم لنا سفر التكوين نموذجاً بسيطاً وواضحاً على كيفية دفن الموتى، في هذه الحالة دفن ابراهيم خليل الله (التكوين 25): أي بكل عناية ومحبة. وأصبح طوبيا، صاحب القصة الجميلة في الكتاب المقدس، مثالا في هذا العمل الذي يتطلب احياناً شجاعة وبطولة. "ولَمَّا غَرَبَتِ الشَّمسُ، ذَهَبتُ فحَفَرتُ حُفرَةً ودَفَنت الجُثَّة. وكانَ جيراني يقولونَ ساخِرين: لم يَعُدْ يَخاف، فقَد سَبَقَ أَن سَعَوا إِلى قَتلِه بِسَبَبِ مِثلِ هذا الأَمرِ، فهَرَب خُفيَةً، وها هوذا يَعودُ إِلى دَفْنِ المَوت... فحينَ كُنتَ تُصَلِّي أَنتَ وسارة، كُنتُ أَنا أَرفعُ ذِكْرَ صَلاتِكُما إِلى حَضرَةِ مَجْدِ الرَّبّ، وكذلك حينَ كُنتَ تَدفِنُ المَوتى " (طوبيا 2: 3-4). وفي الانجيل المقدس أروع قدوة في هذا العمل، هو قدوة النساء التقيات، حامات الطيب، ويوسف الرامي ونقوديموس الذين قاموا بدفن جسد السيد المسيح "في قبر جديد وبالطيب...اللفائف والكتّان"، أي بكل ايمان ومحبّة ورجاء فصحي.

ليست مراسم الدفن مجرّد عادة طبيعية واجتماعية فحسب، بل صلاة حقيقية وعمل رحمة، وطريقة الدفن تدلّ على الأيمان بالقيامة وهي شهادة تضامن عائلي وانساني. لذلك يدعونا قداسة البابا فرنسيس، في هذا الامر كما في غيره، الى عدم التمييز بين الغني والفقير، بين الشخصية والانسان العادي. وعند الضرورة، نفضّل الفقير والمنسي على أي شخص اخر.

3- مسألة حرق الجثث (Cremation)

في الكتاب المقدس الدفن الطبيعي هو الدفن في التُربة، وحرق الجثة غير مسموح. في تاريخ الكنيسة، قانونياً، كان حرق الجثة ممنوعاً. ابتداءً من سنة 1963 وفي "مجموعة قوانين الكنيسة" الجديدة أصبح الحرق مسموحا في ظروف معيّنة ولأسباب خاصّة. ولكن الكنيسة "توصي بشدّة بالمحافظة على العادة التقوية بدفن أجساد المتوفّين" (قانون 1176) خاص في التربة او في قبور مبنية. أربعة أسباب تُبرّر هذه التوصية: إبراز كرامة الانسان، الدلالة على تواصل الانسان في حياته الأرضية والأبدية، إظهار الشركة بين الأحياء والاموات وتجنباً لسوء استعمال "قنينة الرماد".

4- الرموز الخارجية والاهتمام بالمقابر

رموز وحركات كثيرة تدور حول دفن الموتى: الماء المبارك، التبخير، الزهور والاكاليل وبساط الرحمة. وفي المقابر تفاصيل متعددة تلفت انتباهنا: الزيارات الجماعية او الشخصية، الحرّة والموسمية، شكل بلاطة القبر والكتابات والصور عليها ومشاعل النور. كل هذه رموز، إذا استعملت بحكمة، تعبّر عن معان كثيرة وجميلة: الحياة الأبدية، الوحدة والمحبة بين الأحياء والأموات والرجاء بالقيامة. في بلادنا، لربما يجب علينا أن نُرّكز أكثر على نظافة وترتيب المقابر.

وخصوصاً، يعبّر عمل الرحمة هذا عن الحقيقة الحاسمة: ليست للموت الكلمة الأخيرة: " أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟ ... لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه. وآخر عدو يبطل هو الموت"(1كور15:25،26،55). وبينما نرافق اخوتنا وأخواتنا المتوفّين الى مقرّ الراحة نملأ قلوبنا برجاء القيامة: " غير أننا ننتظر، كما وعدنا الله، سماوات جديدة وأرض جديدة، يقيم فيه البرّ" (2 بطرس 3، 13).

+ المطران بولس ماركوتسو
النائب البطريركي اللاتيني العام في الناصرة