موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١١ مايو / أيار ٢٠١٩
بطرك واحد و13 رئيس

نجم الهاشم :

منذ أصبح كاهنًا للمسيح في 7 أيار 1950 عاصر البطريرك مار نصرالله بطرس صفير كاهنًا ومطرانًا وبطريركًا خمسة عهود بطريركية، من البطريرك مار أنطون بطرس عريضة إلى البطريرك مار بولس بطرس المعوشي، وبعده البطريرك مار أنطونيوس بطرس خريش، مرورًا بعهده هو ومتابعة مع عهد البطريرك الحالي مار بشارة بطرس الراعي.

منذ العام 1956 عندما صار أمينًا لسر البطريركية المارونية في بكركي، بات حافظ أسرار الكنيسة المارونية والبطريركية، ولم يتنازل أبدًا عن هذا الدور بعدما صار مطرانًا في 16 تموز 1961، ونائبًا بطريركيًا عامًا تولى شؤون النيابات البطريركية في صربا (دمشق) والبترون والعاقورة وبشري وإهدن ودير الأحمر.

طوال حياته الحبرية عاصر بطريرك واحد للموارنة 13 رئيسًا مارونيًا للجمهورية، من بشارة الخوري (1943-1952) الى كميل شمعون (1952-1958) الذي أحبه واعتبره دائمًا مثالاً، إلى فؤاد شهاب (1958-1964) الذي حظي دائمًا باحترامه، مرورًا بشارل حلو (1964-1970) وسليمان فرنجية (1970-1976) والياس سركيس (1976-1982) وبشير الجميل (23 آب 1982-14 أيلول 1982) وأمين الجميل (1982-1990) ورينيه معوض (5 تشرين الثاني 1990-22 تشرين الثاني 1990) والياس الهراوي (1990-1998) وإميل لحود (1998-2007) وميشال سليمان (2008-2014) وميشال عون (2016).

صحيح أن البطريرك صفير عايش وعاصر تاريخ لبنان الحديث في كل محطاته منذ ما قبل الإستقلال حتى اليوم، ولكن الأصح أيضًا أنه كان الوحيد ربما الذي دوّن وسجل كل المحطات التي شارك فيها محتفظاً بأرشيف لا ينضب من المذكرات اليومية. كأنه كان يعرف مسبقًا ويدرك مؤمنًا أنه مؤتمن على كل ذلك التاريخ، وأنه شريك في صناعته، وأنه سيبقى حافظاً لذلك التاريخ الذي صار جزءًا منه.

لا يقتصر الأمر على مجرد أسماء مرت في البطريركية وفي رئاسة لجمهورية، بل على سلسلة من أحداث هزت لبنان وكادت تقضي عليه، وكان البطريرك شاهدًا عليها وحافظًا لها. شهد من موقعه إقتراب لبنان من الإنهيار والموت، ولكنه كان دائمًا مؤمنًا بالقيامة. لم يخف. لم ينهزم. لم ييأس. لم يهرب. لم ينعزل. حتى عندما خاف كثيرون واعتبروا أن النهاية نهائية. وحتى عندما انهزم كثيرون واعتبروا أن الهزيمة وقعت ولا مجال للإنتصار. وحتى عندما يئس كثيرون وشدوا الرحيل الى الهجرة. وحتى عندما هرب كثيرون من المسؤولية واعتبروا أن السلامة غنيمة. وحتى عندما انعزل كثيرون وذهبوا الى منازلهم متخلين عن قضية الدفاع عن الكنيسة ولبنان. أهم من كل ذلك بقي حرًا حتى عندما حاول عهد الوصاية تطويقه في بكركي، وعندما هددوا أزلامه في السلطة في لبنان أن العشب سيغزو ساحات بكركي وأدراجها وسنقفل أبوابها. حتى عندما كانوا يهددونه ظلوا يطلبون ودّه وبقي في موقعه مقصد الذين بقيت عندهم ذرات من إيمان.

عرف البطريرك صفير لبنان في قوته وفي ضعفه. في تجلي حياته وفي حشرجات موته. في محاولات قتله وفي محاولات الدفاع عنه. عايش ثورة 1958 وأحداث 1969 وحرب 1975، وكل الحروب التي وقعت بعدها. علّمته الحرب أن ثمن السلام يبقى أقل. لذلك ذهب نحو خيار الخروج من الحرب عبر إتفاق الطائف. ولكنه عندما لمس كيف يُطبّق هذا الإتفاق ثار على عهد الوصاية وكان المؤسس لثورة الأرز التي انفجرت في 14 آذار، ثورة السيادة والحرية والإستقلال.

عرف الأمل مع انتخاب بشير الجميل وعاش الخيبة مع إغتياله. لم يتأخر في تحمّل عبء المسؤولية التي ألقيت على كتفيه عند انتخابه بطريركًا في 19 نيسان 1986. كيف لا وهو لم يتوانَ عن حمل ملف الفراغ في البطريركية إلى البابا يوحنا بولس الثاني قبل شهرين من انتخابه مكلفًا من مجلس المطارنة الموارنة. ذهب إلى الفاتيكان معترضًا. وعاد منها بطريركًا مؤجلاً انتخابه إلى حين إلتئام المجلس. وفي ظل بطريركيته عايش آلام الصراعات المسيحية، ولكنه كان مدركًا دائمًا للحق ومُدينًا دائمًا للباطل، ويعرف من هم أهل الحق ومن هم أهل الباطل.

راهن على الأمل باتفاق سلام بعد مآسي حرب التحرير. إعتبر أن انتخاب رينيه معوض قد يفتح الطريق نحو الخروج الحقيقي من الحرب، ولكن إغتياله وضع حدًا لهذا الحلم. إضطُر الى تجرّع كل كؤوس حرب الإلغاء منتظرًا نهاية الكابوس، وعندما أتت الساعة أدرك أنه في مسار طويل جديد من المواجهة والصعوبات والتحديات.

لم يقف أبدًا على الحياد، حتى لو بدا ظاهرًا أنه على حذر. كان حريصًا على الدفاع عن «القوات اللبنانية» والدكتور سمير جعجع، مدركاً أنهم يُلاحقون ويُعتقلون لأنهم في قلب قضية الدفاع عن لبنان، وأنهم يدفعون ثمن التزامهم. لذلك لم يتوانَ عن تحذير الرئيس الياس الهراوي من الحكم في قضية الكنيسة على «ولدنا» سمير جعجع لأن هذا الحكم سيكون بمثابة حكم على الكنيسة والمسيحيين.

طوال عهد الوصاية كانت عظات البطريرك صفير جرس إنذار دائم. في كل يومياته وجولاته وسفراته ولقاءاته وصلواته كان هاجس إنقاذ لبنان والدفاع عنه حاضرًا لديه، وكأنه مؤتمن على إرث هذه البطريركية الضاربة جذورها في التاريخ. وفي كل هذه المسيرة الطويلة، كان البطريرك صفير شاهدًا على نفسه كما على الآخرين. كثيرون يجهلون حقائق كثيرة عن أعمال كثيرة شارك فيها وكتب عنها، كأن الكاتب الذي يكتب ليس الشخص الذي يكتب عنه. يتحدث عن نفسه في اللقاءات والحوارات وكأنه شخص آخر حاضر. إنها مهمات سرية وغير سرية. وفي كل تدويناته يبقى البطريرك صفير وكأنه أوسع ذاكرة للأحداث في لبنان، وكأنه ذلك الراهب الذي يجلس على كرسي الإعتراف ويحفظ في سره إعترافات الناس الذين يزورونه واللقاءات التي يشارك فيها.

منذ العام 1961 كان كأنه الملاك الحاضر عند كل المحطات مكلفًا من البطريرك المعوشي أو البطريرك خريش، حتى بدا في خلفية الصورة أنه البطريرك الدائم غير المُنتخب. وهو بهذه الصفة يكاد يكون أهم من دون لقاءات واجتماعات الجبهة اللبنانية في القصر الجمهوري في بعبدا مع الرئيس سليمان فرنجية، أو مع البطريرك خريش في بكركي. وفي أحيان كثيرة لم يتوانَ عن المخاطرة بنفسه قاطعًا خطوط التماس العسكرية ومغامرًا بالقيام بزيارات ولو تحت القصف مؤمنًا بصوت المخلص يقول له: «لا تخف. آمن». وهو الذي لم يتخلَّ عن إيمانه لم يدخل الخوف الى قلبه. حتى عندما واجه الموت ليلة الدخول الكبير إلى بكركي في 5 تشرين الثاني 1990، إعتبر أنه كان يمشي على طريق المسيح منتظرًا ساعته. ولكن تلك الساعة كان دائمًا هو صانعها. حتى عندما قرر أن يتنحى كان هو صاحب القرار.

اليوم بعد ثمانية أعوام على استقالته من السدة البطريركية، ربما يتساءل كثيرون: ماذا كان وضع البطريركية لو كان هو الذي لا يزال بطريركًا؟ ألم تكن بكركي لتواجه ما واجهته مع البطريركين عريضة والمعوشي؟

اليوم ومع إجتياز البطريرك عامه التاسع والتسعين وعبوره عتبة العام المئة، يدخل عتبة التاريخ ليس من بوابة العمر، بل من أبواب الإنجازات التي حققها، والبصمات التي تركها، والإيمان الذي يزرعه، والمثال الذي كان والمثل الذي سيبقى.

(المسيرة – العدد 1694)