موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأحد، ٢٤ أغسطس / آب ٢٠١٤
المسيحيون في الإسلام: الأردن

أ‌., د. كامل أبو جابر :

يتمتع المسيحيون في الأردن بمزايا المواطن الأردني كاملة واجبات ودون أي نقصان فهم مواطنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم من حقوق وواجبات تجاه دولتهم ومجتمعهم يعملون في الحقلين العام والخاص كيفما تتاح لهم الفرص تماما كإخوانهم وجيرانهم المسلمين. تراهم في مناصب وزارية أو أعضاء في مجلس الأمة بأعيانه ونوابه أو عاملين في أجهزة الدولة المختلفة المدنية والعسكرية أو في مؤسسات المجتمع المدني أو الجامعات كذلك. ولهم دور فاعل ونشيط ومميز في مجال الأعمال الحرة والقطاع الخاص.

وكعرب أقحاح يشكلون جزءاً أصيلاً من مجتمعهم العربي الإسلامي الذي في أبهى وأروع ملامحه تعدديته الاجتماعية المنفتحة على الأقوام والجماعات والأعراق والمذاهب والأديان. هذه التعددية التي ميزت المجتمع العربي الإسلامي على مر التاريخ عن الحضارات الأخرى والتي حتى عهد قريب كان بعضها منغلق على نفسه لا يسمح إلا بوجود مذهب معين في مجتمعه.

وجدير بالذكر أن هذه التعددية تعود في أصولها ومرجعيتها إلى القرآن الكريم نفسه الذي أفسح المجال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لأهل الكتاب حيث أكد أن أصل البشر لام وأب واحد وأن الخالق عز وجل شاء للبشر لا تعددية الأقوام والأعراق وحسب بل وتعددية الثقافات واللغات والمذاهب والآراء. فالإسلام ربما الدين الوحيد اللذي أفسح المجال جهارة وعلناً لا لوجود الأديان والمذاهب الأخرى إلى جانبه بل وأكثر من ذلك أنه سمح بحرية المعتقد ومهما كان حتى الكفر.

هذه الحضارة الرحبة سمحت لا مجرد وجود المسيحية بالوجود لا بل وسمحت لأهل الكتاب النصارى المشاركة الفعالة في بناء الحضارة العربية الإسلامية كانت وما زالت الى اليوم نبراس نور وبركة للعالمين.

انتماء الإنسان العربي المسيحي هو لقومه العرب حيث منذ لحظة ولادة الإسلام والمسيحية والمسيحيون يشاركون لا بمجرد الدفاع عن أهلهم وحضارتهم بل بالفخر والتباهي بإنجازات هذه الحضارة في جميع مجالات الحياة من فلك وطب وعلوم وآداب ومسرح وشعر وموسيقى.

صحيح أن إيمان ومعتقد المسيحي يختلف في حيث الشكل والطقس عن المسلم ولكن صحيح كذلك أن الإيمان بالله وملائكته واليوم الآخر إضافة إلى عدد كبير من المشتركات بين المعتقدين واحدة حتى ليمكن القول أن العربي المسيحي وإن اختلف مذهبه عن المسلم عقيدة إلا وأنه ابن حضارته العربية الإسلامية. يفتخر بالشاعر والفارس والطبيب والفلكي العربي أكان مسلماً أم مسيحياً... يفتخر ويعتز بأبي بكر الصديق وخالد بن الوليد وبالنصر على الفرس والروم والفرنجة ويطرب لموسيقاه العربية ويحزن على ضياع الأندلس ويقف اليوم ليدافع عن فلسطين والقدس الشريف ومقدساتها الإسلامية والمسيحية على حد سواء.

مثل هذه الخلفية ضرورية للبحث في شؤون المسيحيين في الأردن التي كانت الساحة الأولى لأول معركة بين العرب والروم على أرض مؤتة حيث استقبل أهلها بالترحيب بوادر الجيوش العربية لمواجهة الروم. منذ تلك اللحظة والتفاعل بين المسيحية العربية والإسلام يسير على أرض الأردن حيث لا زال المسيحيون يعيشون في دار الإسلام الأردنية بيسر مع أهلهم وجيرانهم من المسلمين.
منذ تأسيس الدولة العربية الحديثة في أعقاب انهيار الدولة العثمانية انتهج الأردن النظام الوسطي المعتدل الذي تمكن من الجمع ما بين العقل والنقل، الإيمان والاحتكام إلى العقل في شؤون المعاملات والدنيا بيسر ودون اللجوء إلى العنف وبحيث انتقل أهله من حال البداوة التي كانت حالهم في عشرينات القرن الماضي إلى ما هم فيه من تقدم اليوم.

وكان من حسن حظ الدولة الأردنية أن جمع ملكها المؤسس عبد الله الأول في شخصه ما بين الأصالة والمعاصرة حيث عايش التراث الإسلامي العثماني في مقتبل حياته وأخذ بتعقل واعتدال بضرورة التكيف مع متطلبات العصر وهكذا أسس النظام الأردني المرتكز إلى أصوله الإسلامية الحقيقية من جهة والنظام المنفتح والجامع ما بين الديمقراطية والشورى من جهة أخرى.

وإذ يكثر الحديث اليوم عن الدولة المدنية لا بد من التذكير أن الأردن منذ لحظة إنشائه كان وما زال دولة مدنية تحتكم إلى العقل دون التخلي عن القيم الروحية والاجتماعية المستحبة. كما ولا بد من التذكير بأن دستور المدينة ريما كانت أول دولة مدنية في تاريخ البشرية جمعت ما بين الإيمان والمبادئ الإنسانية كذلك.

مثل هذه الأفكار والأجواء كانت وما زالت قائمة سمحت بأن يتمتع مواطنو الأردن من مختلف الملل والنحل بدفء الانتماء إلى دولة كرست نفسها لخدمتهم ورفعة شأنهم. وقد انتبه الملك المؤسس إلى التراث الإسلامي السياسي والاجتماعي للإمبراطورية العثمانية حيث كان الخليفة مصدر شرعيتها السياسي والنظام الملي فحواها الاجتماعي وبحيث تم التعايش ما بين الثماني عشرة ملة في الإمبراطورية العثمانية حتى عام 1917 تحت الخيمة والغطاء السياسي وشرعيته دولة الخلافة.

لا بد من التأكيد بدايةً أن المسيحيين في الأردن هم من أهله الأصليين الذين استقبلوا الفتح الإسلامي ورحبوا به وقام بدوره ومنذ تلك اللحظة كذلك بإفساح المجال لهم في رحاب العيش المشترك حتى اليوم. ولا شك كذلك بأن عبد الله الأول كان رجلاً مؤمناً انطلق في نهجه السياسي والاجتماعي المنفتح مستنيراً بهدي القرآن الكريم الذي شاء لخلقه أن يكونوا شعوباً وقبائل لا ملة اثنية أو دينية واحدة.

مثل هذه العجالة في الإرث السياسي والاجتماعي للدولة الأردنية ضروري لتفسير الحال المريح والإنساني الذي تحياه الطوائف المسيحية في الأردن وحيث نجد أن أي هجرة لأردني أكان مسيحياً أم مسلماً تمت لأسباب شخصية إما طلباً للعلم أو الرزق وبحيث اختلف حال المسيحيين في الأردن وبحيث لم يتم هجرة أحد منهم لأسباب قسرية كما هو الحال في بعض بلدان المنطقة العربية كالعراق وسوريا وحتى مصر ولبنان حيث يشعرون بالضغط والخوف وعدم الاستقرار. كما ويختلف حالهم كذلك عن حال مسيحيي فلسطين الذي تعمل إسرائيل على تهجيرهم منذ لحظة تأسيسها عام 1948. والجدير بالذكر التأكيد أن للتهجير الإسرائيلي عدة أهداف بعضها ظاهر بغية الاستيلاء على أراضيهم وأملاكهم والبعض الآخر خفي هدفه إظهار الصراع على فلسطين وكأنه مجرد صراع ديني بين إسرائيل ومن خلفها من المحافظين الجدد في العالم العربي من جهة والإسلام المتهم زوراً وبهتاناً بالإرهاب والدموية من جهة أخرى.

مثل هذا المخطط لتهجير المسيحيين في المنطقة قاد إلى تهجير ما يزيد على العشرة ملايين مسيحي في الفترة 2003 - 2013 من العراق وسوريا وغيرها من البلدان العربية الأمر الذي يسير في اتجاه تنفيذ المخطط الصهيوني لتفتيت وبلفنة المنطقة كي تبقى إسرائيل الدولة المهيمنة فيها. وجدير بالذكر التنويه بأن الغرب يؤيد عملية تهجير المسيحيين من المنطقة ويعتبره ذلك مجرد دمار مصاحب لا بد منه (Collateral damage) في سبيل اسناد ودعم الهدف الأكبر وهو بقاء وهيمنة إسرائيل. كما ولا بد من التأكيد أن مشكلة العالم الغربي ليست مع الإسلام بشكل عام بدليل علاقاتها الجيدة مع دول إسلامية عديدة كاندونيسيا والباكستان وتركيا وحتى إيران الشاه وماليزيا... مشكلتها هي مع العرب مسلمين ومسيحيين ويعود السبب في ذلك إلى النفوذ الصهيوني.

حقيقة الأمر تظهر أنه لا يوجد اليوم ولا كان من سياسة الدولة الإسلامية تاريخياً أي مخطط لتهجير المسيحيين من المنطقة وأن مثل هذه الهجرة إن تمت فقد كانت لأسباب طوعية شخصية فردية خاصة وأن ما تقوم به بعض الفئات المتطرفة اليوم من اضطهاد للمسيحيين لا علاقة له لا بروح الإسلام والغالبية العظمى من المسلمين ولا بسياسة أي دولة إسلامية تحترم أصول دينها ومبادئه الراقية.

هناك أنواع من الهجرة لا بد من الإشارة إليها، الأولى تطوعية شخصية كأن يقوم فرد أو عائلة بالهجرة إلى بلد آخر إما لأسباب اقتصادية أو غير ذلك. الثانية والتي لا سابق لها في تاريخ المنطقة وهي عمليات التهجير القسري والتي تعمل إسرائيل جاهدة لتحقيقها لأسباب في غاية الأهمية أولها القضاء على ما تبقى من الفكر العربي القومي الذي انهار في أعقاب حرب الـ 1967 والذي كان العرب المسيحيين من رواده وبناته منذ منتصف القرن التاسع عشر والأمر الآخر ولعله الأكثر أهمية ألا وهو القضاء على التعددية والتي هي من أبهى وأروع ملامح الحضارة العربية الإسلامية وكذا مخاطبة الغرب أن الصراع على فلسطين يهودي وغربي من جهة ومع الإسلام المتهم بالإرهاب والعنف. ويعود النوع الثالث من الهجرة إلى أجواء العنف وعدم الاستقرار الذي تشهده المنطقة منذ زمن والذي تعمل إسرائيل لأجله وبحيث يجد المواطن المسيحي وكأنه يقع ما بين طرفي العنف والتعصب الصهيوني من جهة والمد الإسلامي المتطرف وغير المسؤول من جهة أخرى وبحيث أصبح بعض المسيحيين يتسائلون «وهل لنا مستقبل في المنطقة؟» ويتسائل آخرون منهم «وكيف أصبحت أرضنا العربية طاردة لنا كما هي حالنا اليوم رغم أن توجهنا وظهرنا وظهيرنا وعمودنا الفقري هو إلى الإسلام والمسلمين».

مثل هذا القلق النفسي والتوجس والخوف من المستقبل ربما هو النوع الرابع الذي يقف خلف هجرة المسيحيين من المنطقة اليوم.

تؤكد جميع المصادر أن عدد المسيحيين في الأردن انخفض اليوم إلى ما يقارب الثلاثة والنصف بالمئة من عدد السكان يعيش معظمهم اليوم في العاصمة عمان وان بقيت لهم جذور في مختلف مناطق المملكة في الكرك، مادبا وعجلون وبعض قراها والفحيص والسلط وإربد والزرقاء وعمان.

منذ تأسيس الدولة الأردنية وهم ممثلون على الصعيد السياسي في جميع مؤسسات الدولة حيث شاركوا في انتخابات المجالس التشريعية والانتخابات البرلمانية منذ ذلك التاريخ وإلى اليوم. وهم ممثلون في البرلمان الأردني اليوم بتسعة مقاعد وتجدهم ممثلون في مختلف أجهزة الدولة المدنية والعسكرية كذلك. كما وأن لهم حضور فاعل وواسع في القطاع الخاص.

يعيش المسيحيون في الأردن بشكل جيد وفعال، ولهم دائماً دورهم المشارك في حياة المجتمع الأردني حيث ساهموا في بناء الدولة والمؤسسات الوطنية، فمنهم الوزير والمحافظ والمدير ورئيس البلدية والضابط والمعلم، وعاداتهم وتقاليدهم محترمة من قبل الجميع، فهناك أماكن العبادة والأديرة والرهبانيات، ويبقى نهر الأردن مكان السيد المسيح (يسوع) شاهد على مسيحية هذه الأرض الطيبة، وكنائسهم مفتوحة للجميع تقام فيها الشعائر الدينية بكل حرية على مختلف طوائفهم وانتماءاتهم، ولهم مدارس مسيحية ومؤسسات تربوية تبني الطالب وترسخ فيه حب الوطن والمواطنة وتقوي علمه. والمسيحيون في الأردن موزعزن إلى طوائف مختلفة أهمها الطوائف الأرثوذكسية الشرقية والطوائف الغربية والبروتستانتية على أنواعها.

تقوم العلاقة بين المسيحيين والمسلمين في الأردن على الاحترام المتبادل والإيمان بالله الواحد وتبادل القيم والأخلاق الحميدة التي تجمع ولا تفرق، إن كان في الكنيسة أو الجامع، وهذه العلاقة لها من العمر 1400 سنة مع محافظة كل طرف على العقائد الإيمانية التي تعبر عن علاقته بالله التي يتمسك بها وتعبر عن هويته ومحبته للخالق.

للمسيحيين في الأردن ولنوعية العلاقات التي تربطهم بالمملكة الهاشمية ولموقعهم في المجتمع الأردني وضع خاص مختلف عن أوضاع المسيحيين في كل الدول العربية المحيطة بهم. فمن جهة، يتمتع هؤلاء بمكانة محترمة وبرعاية ملكية خاصة تترجمها نسبة تمثيلهم في مجلس النواب التي تفوق نسبتهم العددية من الشعب الأردني حيث تصل نسبة التمثيل السياسي لمسيحيي الأردن 8% ويعود ذلك إلى وعي الدولة الأردنية، مستندة إلى الإرث الفاعل والنابض للوجود المسيحي في الأردن الذي لا مصلحة هناك لتغييبه. ومن أبلغ سمات اندماجهم في المجتمع الأردني أن تصل إلى حد انتخاب مسيحي في الهيئة الإدارية لأحد الأحزاب التابعة للإخوان المسلمين، في سابقة لا مثيل لها في كل التنظيمات الإسلامية. لكن من جهة ثانية، يشعر المسيحيون في الأردن بوجود منحنى، ولا سيما في الأوساط الرسمية التي يمتد إليها تأثير التيارات الإسلامية، لتأكيد الهوية الإسلامية الغالبة، وخصوصاً على المستوى التربوي وبالتحديد في التعليم الرسمي، حيث يطغى الطابع الإسلامي على المواد التدريسية، بدءاً بكتاب التاريخ وصولا إلى مناهج التربية الأخرى.

يمكن القول إن للمسيحيين موقعاً متميزاً في الأردن على جميع المستويات. ويدين كثير من الأردنيين بهذا الموقع للأسرة الهاشمية المنحدرة من عائلة النبي محمد (ص). حيث أصبحت الشرعية الدينية والإسلام المعتدل نموذجاً للمسيحيين على صعيد التحديث ومواكبة العصر واستيعاب أفكار الحداثة وقولبتها وتقديمها للمجتمع الأردني بطريقة متناسبة مع تطلعاته ونمط حياته تحترم خصوصياته وقيمه. ويتناقل الأردنيون المسيحيون أن العلاقات المميزة مع الأسرة الهاشمية بدأت مباشرة بعد انتقالها إلى منطقة شرق الأردن من الحجاز.

المواطنون المسيحيون في الأردن يعيشون حياتهم العادية، في مختلف المدن والقرى، بكل أمان واطمئنان ويقيمون علاقات اجتماعية جيدة مع المجتمع الإسلامي فاختلاف الدين لم يفرز في الحياة اليومية والاجتماعية جماعتين إسلامية ومسيحية. ويساهم المسيحيون في الحياة الاجتماعية والتجارية والعلمية ويخدمون في الجيش وفي مختلف المؤسسات الحكومية أسوة بالمواطنين المسلمين.وتجد الكثيرين منهم في طليعة المثقفين والمؤهلين علمياً في مختلف المجالات... وكذلك تقيم الرئاسات الدينية المسيحية علاقات طيبة جداً مع رجال الدين الإسلامي ومع رجال الحكومة. والمسيحيون الأردنيون لا يخشون على الإطلاق تراجع الحكومة عن موقفها التقليدي المتسامح... فالحكومة والمواطنون المسيحيون والمسلمين يخضعون للدستور الأردني... الذي يؤكد أن الإسلام دين الدولة وبالتالي فمن الذي يجعله أمراً بديهياً أن تنطبق بعض القوانين النابعة من الدين، على المسلمين لا على المسيحيين، بشأن مسائل الأحوال الشخصية. ولذلك وتوخياً للمساواة، فلقد حفظ الدستور وحفظت القوانين للمواطن المسيحي الكثير من الامتيازات التي يتمتع بها المواطن المسلم لأنه مسلم... فعلى سبيل المثال، يؤكد الدستور الأردني والقوانين السارية المفعول على حق الكنيسة في تأسيس محاكمها، ويعترف الدستور لها بالصلاحيات التي للمحاكم الشرعية على المسلمين في أمور الأحوال الشخصية والوقف... ويحق للمواطن المسيحي، في مسائل الأحوال الشخصية، بل يجب عليه أن يلجأ إلى محكمته الكنسية، وعلى السلطة المدنية أن تنفذ قراراتها... كذلك تعفى الكنائس من الكثير من الضرائب شأنها في ذلك شأن المساجد، ويحق للمسيحيين أن يبنوا كنائسهم ومدارسهم كما يشاؤون.

وينتمي المسيحيون إلى كثير من الاتجاهات السياسية، منها المحافظة والليبرالية ومنها القومية واليسارية، ويقومون بدور مهم في الحياة الاقتصادية والثقافية وفي المهن الحرة. وهم ناشطون أيضاً في الحركة النقابية. وبرزت أهمية الدور الذي يقوم به المسيحيون في الأردن على المستوى السياسي بانتخاب أول مسيحي، عزيز مساعدة، في الهيئة الإدارية لحزب جبهة العمل الإسلامي (الذراع السياسية للإخوان المسلمين في الأردن) وإعلان مسؤولي الحزب استعدادهم ليس فقط لترشيح مسيحيين على قوائمه بالانتخابات المقبلة، للمرة الأولى في تاريخ الحزب الذي تأسس رسمياً عام 1992، بل لقبول دخول أعضائه المسيحيين في هيئته القيادية العليا، وهي سابقة جديدة من نوعها في تاريخ الأحزاب الإسلامية في المنطقة.

الخاتمة:

لم يتعرض المسيحيون الأردنيون، في يوم من الأيام للعنف والإرهاب، بل عاشو بسلام مع إخوتهم المسلمين حياة اجتماعية وسياسية ووطنية عادية، وجدير بالذكر أن العائلة الهاشمية وحكوماتنا الرشيدة تحافظ بكل اهتمام على الأماكن المسيحية المقدسة في الأردن، وبنوع خاص على مقام النبي موسى في جبل نبو ومقام النبي ايليا، وموقع استشهاد يوحنا المعمدان في مكاور، وموقع عماد السيد المسيح، حيث تفضلت الحكومة ومنحت مجاناً العديد من الكنائس مواقع لإقامة الأديرة والكنائس. لذلك لا شيء يخيف المواطن المسيحي من دستوره وحكومته، فهو مواطن بحقوق المواطنة، شأنه في ذلك شأن المواطن المسلم... فاختلاف الدين والتعددية أمور شرعية يحميها القانون، والعلاقات بين المسلمين والمسيحيين جيدة جداً، كذلك فإن علاقات رجال الدين المسيحي مع جميع السلطات في الأردن جيدة جداً... والمستقبل يوحي بمزيد من الاطمئنان لوضع المواطنين المسيحيين... ولا شيء في الأفق يوحي لهم بالقلق مقارنة بالمسيحيين في دولة إسلامية أخرى.

يتضح مما سبق أحوال المسيحيين في الأردن تختلف اختلافاً جذرياً عن أحوالهم في معظم البلدان العربية الأخرى حيث التوجس والقلق وحتى الاضطهاد أصبح أمراً مألوفاً. ويعود الفضل في هذا إلى الأسرة الهاشمية وملوكها اللذين تتابعوا على عرش البلاد بداية بالملك عبد الله الأول فطلال وبعده الحسين واليوم الملك عبد الله الثاني وحيث يتصف كل منهم بالحكمة والحلم وحسن الاختيار. ولعل اعتدالهم وتفاعلهم مع شعبهم جعل منهم القدوة الحسنة لشعبهم الذي تفاعل معهم دوماً بإيجابية وطيب خاطر رغم تتالي الأزمات وشح الموارد. فالنهج الهاشمي كان منذ تأسيس الدولة الوسط الذهبي المعتدل الذي لا شك بأنه يمثل روح الإسلام التي من أروع ملامحها التعددية وقبول الآخر امتثالاً للآيات الرائعة في القرآن الكريم وجلها تذكر المسيحية والمسيحيين بالإيجاب وتدعو إلى الرعاية بهم وحيث تقول إحدى آياته الكريمة "لكلّ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة".

فالفضل إذاً هو للنظام الهاشمي الذي تمكن بوعيه وقدرته على الحركة من استيعاب الأزمات دون التخلي بالطبع عن القيم الروحية والاجتماعية المستحبة والذي في احترامه للعقود والمواثيق التاريخية وعلى رأسها العهدة العمرية كان دون شك السبب الرئيسي والأساسي لتمتع الأردن بالأمان والاستقرار.

ويقول الملك عبد الله الثاني في كلمته التي ألقاها في مؤتمر «نهضة الأمة، حوار الأديان والاسلام من أجل السلام والحضارة» الذي تم عقده في جاكارتا بأن من واجبه... «كسليل النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وراعي الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية في القدس...» أن أخذ على عاتقه خدمة الأمة من خلال التصدي لمخاطر الصراعات الدينية التي تهدد الإنسانية وطرح في هذا المؤتمر رؤياه للنموذج «... الأكثر جدوى للدولة الإسلامية المستدامة والقابلة للحياة هو الدولة المدنية، القائمة على المؤسسات والشورى والعدل...» ولعل الملك عبد الله اليوم القائد الأكثر تأكيداً على أهمية الدين لا على صعيد المنطقة وحسب بل والعالم أجمع حيث يصل الليل بالنهار في سعيه لتشجيع الحوار الهادف والبناء بين أتباع الديانتين المسيحية والإسلام. ومن أبرز مظاهر نشاط الملك تبادل الزيارات وعقد المؤتمرات مع القيادات الأرثوذكسية والكاثوليكية. ففي عهده تمت زيارتان باباويتان للأردن في الأولى للبابا بنديكتوس السادس عشر والثانية للبابا الحالي فرنسيس.

وقام الأردن كذلك بالدعوة إلى مؤتمر دولي 2013 حول مسألة «التحديات التي تواجه المسيحيين العرب» والتقى في 28 أيار 2014 مع رؤساء الكنائس الأرثوذكسية العالمية. وجدير بالذكر كذلك أن الأردن أطلق في عهده ثلاث مبادرات تدعو للحوار مع الذات والعالم كذلك: «رسالة عمان» و»كلمة سواء» و»الأسبوع العالمي للوئام بين الأديان» الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة.

هذا النهج الحميد الذي أرساه الملك المؤسس عبد الله الأول وسار عليه الملك طلال ورسخه الملك حسين ويرعاه اليوم وينميه الملك عبد الله الثاني، جعل من الأردن واحة أمان واستقرار من جهة ويرشحه اليوم تلو الآخر ليصبح النموذج للدولة العربية الإسلامية الحديثة التي تكذب دعاوى التطرف والإرهاب فتخاطب العالم أجمع، وبالذات العالم الغربي، من منطلق الثقة بالنفس أن الإسلام لا علاقة له بما يفعله بعض المسلمين، بل انه دين الرحمة والتراحم والشورى لا دين أولئك اللذين يشعرون انهم غرباء في هذا العصر المر اللذي يحدوهم الهروب والاغتراب في الماضي حسب تصوراتهم المشوهة.