موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
عدل وسلام
نشر الأربعاء، ١٩ ابريل / نيسان ٢٠١٧
الصليب والقيامة والقضية الفلسطينية

بيت لحم - القس د. متري الراهب :

في مثل هذا الوقت، وقبل ما يزيد عن الألفي عام، شهدت القدس حدثًا قطر له الجبين. في مثل هذا الوقت، عُلّق شابٌ في الثلاثينات من العمر، علق على خشب بين الأرض والسماء. في مثل هذا الوقت، قامت السلطات الرومانية واستجابة لضعوطات الجهات الدينية بإعدام فادي البرية.

من يتأمل في الأناجيل سيظن للوهلة الأولى أننا أمام دراما إلهية، بل هكذا فسّر اللاهوتيون ما حصل يوم الجمعة العظيمة. الله يسلم مسيحه للموت لخلاص البشرية. ولا شك أن هذا اللاهوت هو جزء مهم من الرسائل البولسية. فالرسول بولس يؤكد المرة تلو الأخرى أن في موت المسيح حياة للنفس البشرية.

ولكن في هذا العام، أود أن ألقي الضوء على بعد آخر للصليب مثلما نفتكر فيه أو نكتب عنه. فالصليب لم يكن دراما إلهية فحسب، بل هو تعبير أيضًا عن دراما أخرى بشرية. وهنا أود الإشارة إلى ثلاث معانٍ للصليب يجدر أن نتأمل بها:

1- الصليب كان جريمة إنسانية اقترفتها السلطات الرومانية بتفويض وتحريض من القيادات الدينية. الصليب بهذا المفهوم هو واقع نعيشه نحن سكان الكرة الأرضية، وخاصة نحن أبناء الشعوب العربية. الصليب من هذا المنظور هو حالة فلسطينية وأصدق تعبير لما يجري على هذه الأرض المقدسة ومنبت الرسالات السماوية.

من هذا المنظور ليس الصليب حدثًا تاريخيًا فحسب، بل هو عنوانٌ لتاريخ شعب عاش تحت الاحتلال وذاق شر البلية. الصليب من هذا المنظور هو خلاصة لما نعيشه نحن سكان هذه المنطقة الشرق أوسطية. لذلك لم يكن يوم الجمعة العظيم مجرد سويعات ودقائق مرت وانقضت، ولم يكن الصليب حدثًا عبر عنا وانقض، بل إنما الصليب واقع لما تعيشه اليوم الكثير من الجماعات وفي كل بقاع الكرة الأرضية.

لذلك لم يجد الشعراء والكتّاب والفنانون الفلسطينيون، المسيحيون منهم والمسلمون، رمزًا أصدق تعبيرًا عن آلام وآمال شعبن، غير الصليب. أي أنظروا هذا الإنسان، قائلاً Ecce Homo، لذلك كتب محمود درويش قصيدته:

"وضعوا على فمه السلاسل
ربطوا يديه بصخرة الموتى
وقالوا: أنت قاتل!
أخذوا طعامه والملابس والبيارق
ورموه في زنزانة الموتى
وقالوا: أنت سارق !"

الصليب هنا هو رمز للفلسطيني الذي يقبع في سجون الاحتلال والذي طُرد من أرضه وسُرقت ممتلكاته بل وطورد.

وفي قصيدة أخرى بعنوان "قال المغني" يكتب درويش:

"المغني على صليب الألم
جرحه ساطع كنجم
قال للناس حوله
كل شيء.. سوى الندم!
هكذا مت واقفًا!
واقفًا متّ كالشجر
هكذا يصبح الصليب
منبرًا أو عصا نغم
ومساميره.. وتر!
هكذا ينزل المطر
هكذا يكبر الشجر!"

الصليب هنا ليس قضاء وقدر، بقدر ما هو خيار واختيار عن طيب خاطر وإصرار واقتناع وأمل.

أما الأديب العربي معين بسيسو فأنشد قائلاً:

"واقترعوا يا شعبي
من يأخذ ثوبي بعد الصلب
كأس الخل بيمناي
وإكليل الشوك على رأسي
باراباس ابن السكين طليق
وابنك يا شعبي
ساقوه إلى الصلب وللرجم!"

أيضًا هنا المصلوب هو رمز للشعب الفلسطيني الذي سلبت منه أرضه، وذاق الأمرّين، بينما المحتل هو طليق.

أما الفنان إسماعيل شمّوط فرأى هو أيضًا في الصليب أجمل تعبير عن القضية الفلسطينية، فرسم خارطة فلسطين كامرأه عذراء بثوب أبيض ناصع مكبلة على الصليب، تلفظ أنفاسها.

أجل، ما زلنا في الشرق الأوسط نعيش لحظات الجمعة العظيمة. وكم طويلة هي هذه الجمعة. وما زال سكان هذه الأرض الضعفاء معلقين بين الأرض والسماء، بين آلام الحاضر من جهة وآمال المستقبل من جهة أخرى.

ما زال آلاف الفلسطينيين مكبلين بالسلاسل في زنازين الاحتلال الاسرائيلي. وما زال الأقباط في مصر وكما شهدنا هذا الأسبوع، ما زالوا مضطهدين من قبل جماعات دينية إرهابية لا لعلة اقترفوها بل لأنهم آمنوا بإنجيل المسيح. أجل ما زلنا وحتى هذه اللحظة نعيش أسبوع آلام طويل يبدو وكأنه لن ينتهي.

2- ولكن ليس الصليب محض تراجيديا إلهية، بل فيه رسالة سماوية، تعلن أن المصلوب تبرى من كل التهم التي ألصقته به الإمبراطورية.

ونرجع إلى محمود درويش وهو يتحدث عن التهم:

"وضعوا على فمه السلاسل
ربطوا يديه بصخره الموتى
وقالوا : أنت قاتل!
أخذوا طعامه والملابس والبيارق
ورموه في زنزانة الموتى
وقالوا : أنت سارق !"

من يقاوم الاحتلال يصبح إرهابيًا يستحق الموت، ومن يصلي في الكنائس يقال عنه كافر لا يستحق العيش. أصوات الذئاب السعورة والتي يقودها إما رجال السياسة أم رجال الدين تصرخ: اصلبه.. اصلبه.. إنه يستحق الموت!

ولكن من على الصليب يعلن الله براءة المصلوب: "لم أجد فيه علّة تستوجب الحكم!". العلّة ليست في المصلوب، بل في الإمبراطورية وسياستها الاستعمارية، والعلة في الحركات الدينية التي تخاف التعددية وتقضي بقتل النفس البشرية.. أما المصلوب فبُرئ.

3- لم يكن الصليب يومًا نهاية للقضية، والكلمة الأخيرة لم تكن يومًا لظلمة القبر المددية، بل كانت الآلام، وجاء الصليب إيذانًا بفجر الحرية. هذا ما آمن به محمود درويش أيضًا عندما أنشد:

"يا داميَ العينين والكفين
إن الليل زائل
لا غرفة التوقيف باقية
ولا زرد السلاسل
نيرون مات، ولم تمت روما
بعينيها تقاتل
وحبوب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل!

ودماء الشهداء صارت بذارًا للكنيسة..

الصليب يذكرنا أن الكلمة الأخيرة لم تكن يومًا للإمبراطورية ولا للحركات التكفيرية، وأن القلبة ليست لقوى الظلام والاستبداد والعنصرية، بل لقيم العدالة والإخاء والإنسانية. وأن خلف ظلام الجمعة موعدٌ لفجر أحد جديد تسطع فيه شمس الحرية. لذلك رسم الفنان إسماعيل شمّوط بجانب الصليب طفلاً يحمل حمامة بيضاء يرمز للغد الواعد والمستقبل المشرق الذي سيأتي بالسلام والحرية.

قصة الصلب هي قصتنا نحن، هذه روايتنا. فهذه القصة ليست بغريبة عنا. بل قصة نبتت في أرضنا وصارت رمزًا لقضيتنا. أجل في الصليب نرى مرآة لآلامنا وآمالنا. هناك نرى انعكاسًا لواقعنا، كما نرى فيه الوعد بخلاصنا.