موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ١٤ يونيو / حزيران ٢٠٢٠
البطريرك الكلداني لويس روفائيل ساكو، يكتب: بعد كورونا لا بدّ من نهج جديد للتنشئة الدينية
قراءة لمستجدات واقع غير مسبوق مع ما نستوحي منها من تطلعات!
البطريرك الكلداني الكاردينال لويس روفائيل ساكو

البطريرك الكلداني الكاردينال لويس روفائيل ساكو

الكاردينال لويس روفائيل ساكو :

 

نمّر منذ عدة أشهر في ظروف قاسيّة، سبّبها تفشي وباء كورونا الفتَّاك، الذي ضرب معظم دول العالم،  مع ما رافقه من مشاعر العزلة والخوف والقلق وعدم الثقة و”الوسواس”، وتداعيات طالت الصحة والعلاقات الاجتماعية، والثقافية والاقتصادية والدينية. هذه قراءة لمستجدات واقع غير مسبوق مع ما نستوحي منها من تطلعات!


 

متغيّرات تحت الحجر المنزلي

وإذا بنا أمام واقع استثنائي. فللحماية من هولِ الوباء، اُجبِرنا على ملازمة البيت. وغيَّر "الحجر المنزلي" حياتنا ورؤيانا وخططنا وتعاملنا. صرنا نعمل ونتعامل "عن بعد". بات الانسان "من البيت" يواصل عمَلَه إلكترونيًا، والطالب دراسته إلكترونيًا. ومن البيت يتابع المؤمن صلاته، عبر البث الالكتروني للصلوات والقداديس، لان الصلوات في الكنائس تم تعليقها خشية تفشّي الفيروس بسرعة بين المُصلّين. هذه الحالة شملت جميع البشر والديانات. فالديانة الاسلامية علَّقت صلاة الجماعة في المساجد، حتى في شهر رمضان والاحتفال بعيد الفطر، فراح الفرد المسلم يصلي في بيته، ويصوم ويحتفل بالعيد. وعلى الارجح ان المملكة العربية السعودية سوف تلغي موسم الحج هذا العام بسبب فيروس كورونا. وهذا يشكل منعطفًا جديدًا. بعد تخفيف الحجر المنزلي، هناك اجراءات وقائية جديدة لأداء الصلاة، كتحديد عدد الحضور، والتباعد الاجتماعي. ورؤساء الدول يعقدون اجتماعاتهم عبر الدائرة التلفزيونية المغلقة بسبب شبه استحالة السفر، ولربما نحن في الكنائس الشرقية اذا استمر الامر على هذا المنوال سنعقد سينودسنا عبر الدائرة الالكترونية! لقد احدثت جائحة كورونا انقلابًا في حياة الفرد وفـي حياة المجتمع. وقد صرح الرئيس الامريكي دونالد ترامب ان: بعد كورونا انتهت العولمة وانتهى النظام العالمي الجديد. أجل لم يعد العالم كما كان.


 

الفرد يتحمل مسؤولية نفسه

"الحجر المنزلي" جعل الفرد يتحمل مسؤولية نفسه وبناء إنسانيته. وخلق ذلك عند المؤمن اشتياقًا الى الروحانيات، وحالة من الصلاة. هذا ما لمسناه من مئات التعليقات على الفيسبوك البطريركي، الذي نبث عِبره احتفالنا بالقداس اليومي، منذ تعليق الصلاة الجماعية في كنائسنا. لقد ولَّد هذا البثّ المباشر عند المشاركين، كنيسة بيتية، ورسَّخ عندهم الرجاء بالخلاص من وباء كورونا.

 

كذلك خلقت جائحة كورونا حالة ايجابية من التضامن الانساني، وتمتين العلاقات، فالناس راحوا يحاربون أسباب الألم في حياتهم وحياة المجتمع. هذا ما نشاهده في تفاني الاطباء والكهنة، والمتطوعين وجماعات الخدمة، الذين عرّضوا حياتهم للخطر كي يوفّروا المستلزمات الضرورية للناس لمعالجتهم أو للتخفيف من معاناتهم. انهم يستحقون الشكر والتقدير، ولا بدّ من توثيق هذا المرحلة لتخلّد ذكرهم.

 

يشير البابا  فرنسيس في كتابه "الحياة بعد الوباء" الذي صدر قبل ايام في الفاتيكان، الى نقطتين اساسيتين هما: الاولى، أهمية بناء عالم أفضل عقب الأزمة التي نعيشها بسبب الوباء، والثانية، زرع الرجاء الذي يغذّيه الإيمان في القلوب وسط مشاعر الضياع الكبيرة.


 

نحن أمام حالة مختلفة عن المألوف

نحن في مطلق الأحوال أمام وضع جديد يختلف عن المألوف. لقد جعلت جائحة كورونا والحجر المنزلي والتباعد الاجتماعي، ووسائل التواصل الاجتماعي Social media الناس أكثر حرصًا على حياتهم وحياة عائلاتهم، وانسانيتهم وايمانهم. وصاروا أكثر تفكيرًا وتحليلاً وشجاعةً في التعبير والنقد والمطالبة باصلاحات. أصبحوا، كما يلاحظ الآن، أكثر من أي وقت مضى، لا يقبلون بسهولة ان يُفرض الدين عليهم بالقانون والاكراه، بل يريدونه نابعًا من قناعة داخلية، وحرية شخصية، تجعلهم يُحبّون ما يقتنعون به.

 

إن التعافي من وباء كورونا، ووسائل التواصل الاجتماعي يوفران لنا أفقًا رحبًا للتحليل، واعادة النظر في نمط تفكيرنا وطريقة قراءتنا للنصوص الدينية المختارة، وشرحنا للمصطلحات اللاهوتية المستعملة، ومراجعة أسلوب تعليمنا وعملنا الراعوي، واحتفالنا بالأسرار كالقداس والعماد والرسامات وبركة الزواج. هذا التغيير يحتّم علينا إيجاد لغة جديدة، وعبارات قصيرة، وبسيطة ومفهومة تثير الدهشة لدى المتلقي لقبول البشارة، والشغف في عيشها، مما يعزز جاذبية الكنيسة والثقة بها.

 

في فترة كورونا الطويلة نسبيًا، اشتركت معنا في القداس راهبات البطريركية الاربع مع الاسقفين المعاونين وكاهن الارشيف، وعلى الأغلب، في كل قداس ثمة مزمور جديد بدل المزمور المعين، وترتيلة للتقادم واخرى لرتبة السلام جديدة بدل المُعتمدة، وانتيفونات جديدة للروح القدس. وهكذا بالنسبة للموعظة القصيرة (دقيتان او ثلاثة) والطلبات خصوصًا المتعلقة بالخلاص من كورونا، وذكر النوايا التي يطلبها المشاركون عبر الفيسبوك للصلاة من أجل موتاهم ومرضاهم، وتزيين الكابيلا. انها امور منعشة. لماذا لا! فالقداس احتفال بموت المسيح وقيامته، وليس مجرد فعل عبادة. احتفال بحضوره بيننا، لذا تحرك الصلاة فكرنا وجسدنا وقلبنا كرفع اليدين والسجود، ورسم اشارة الصليب والوقوف والجلوس. جسدنا يصلي!


 

ضرورة التجديد

نحن آباء ورعاة، ولسنا منظّرين، ولا موظفين في مكاتبنا. نحن باحتكاك متواصل مع مؤمنينا، خصوصًا أننا نعرف حاجاتهم التي يعبّرون عنها. وندرك جيدًا أن الكاريزما الذي لدينا هو لمساندتهم ومرافقتهم في صعوباتهم ومسيرتهم عبر صلاتنا واحتفالنا بالاسرار، وشرحنا لكلام الله، واجابتنا على اسئلتهم باهتمام ومتابعة وتواضع.

 

قال لي أحد اساقفتنا في أمريكا أنه بعد احتفاله بالقداس في دير للراهبات في زمن كورونا، سأل اثناء الفطور الراهبات عن معنى الكلمة السريانية-الكلدانية "رهوونا" Rahouna (العربون بالعربية)، التي وردت في صلاة القداس، وهي تعبير لاهوتي مهم في الروحانية المسيحية. أجابت الراهبات اننا لا نعرف! تعجَّب الاُسقف كيف أنهنَّ يصلين كلمات لا يفهمنها. فأخذ يشرح لهن معنى الكلمة.

 

توفي أحد كهنتنا، فنشر موقع البطريركية الخبر بهذه الصيغة: "انتقل الأب… إلى الاخدار السماوية…، ونسأل الله ان يُسكِنه فسيح جناته! كتبت إليّ سيدة تسأل عن معنى هذه التعابير الجغرافية الغامضة؟ وقالت: اين هي الأخدار السماوية، والجنات الفسيحة؟ فطلبتُ تغييرها بعبارة أخرى معروفة: رقد (فلان) على رجاء القيامة وهي الأنسب. كما سألني شخص آخر: أين نار جهنم التي نصلي إلى العذراء مريم لكي تخلصنا منها؟ وكذلك مخاطبة المؤمنين بعبارة "غنم مرعاك" ألا يمكن استبدال الاولى بـ"لكي تخلصنا من الشرير"، والعبارة الثانية  بـ"بناتك وابنائك". من المؤكد أن هناك لغة رمزية لهذه التعابير، لكن ينبغي أن نكون حذرين من استعمالها كونها لا تساعد على التوضيح والهضم والقبول والتعزية. كذلك نقرأ في وسائل التواصل الاجتماعي بعض انتقادات لأشخاص من الديانات الاخرى حول بعض التقاليد والعادات والممارسات الظرفية التي انتفت الحاجة اليها، ويطالبون بالتخلي عنها! لا بدّ من مقاربات جديدة!


 

خطاب للانسان المعاصر

على سبيل المثال، غالبًا ما تستجدّ حالة مع سكرتيرة البطريركية، وهي ذات ثقافة عالية، عندما اُراجع معها مقالاً ما، وتقرأه بعيون المتابعين، تلحّ بأسئلتها: ماذا يعني هذا؟ اشرح لي. أنفعلُ أحيانًا، لكن أرجع وأقول: الحق معها، أنا أفهم ما أكتب، لكن ليس بالضرورة أن يفهمه الآخرون! فلا بدّ لي أن اُعبّر لهم بوضوح عمّا اُريد إيصاله اليهم بمفردات بسيطة، واضحة ومفهومة.

 

الكنيسة ومرجعيات الديانات الاخرى معنية بهذه المراجعة الضرورية والمتمعنة، بارادة واثقة ورؤية واضحة، انطلاقاً من مشاعر الابوّة والرعاية المسؤولة.

 

 التجديد ينبغي الّا يكون كما يفعل بعض رجال الدين، بالتلاعب بالكلمات في مواضيع  بهذه الخطورة، بل في مواجهتها بمنتهى الدقة والوضوح. لماذا يتردد القول هنا وهناك (في أوساطنا)، بان الله غاضبٌ على البشر لذلك عاقبهم بكورونا، أو ان الله سمح به ليتوب البشر... هذا التفكير يتعارض مع القيم المحورية لرسالة المسيح التي تُشدد على ان الله محبة وكليّ الرحمة والصلاح، وأن الله يحترم الطبيعة ولا يتدخّل في حرية الإنسان، وتلك فرصة للناس أن يتآلفوا ويتقاربوا خصوصا في مثل هذه الأحوال.

 

في حال أردنا أن يفهم الناس الدين، لا بد ان نُطوِّر الهيكليات ونجعلها أكثر فعاليّة، كذلك نصوص التعليم، وطريقة التنشئة الايمانية، وذلك بالبحث عن مفردات وعبارات بسيطة ومفاهيم إنسانية وروحية وأخلاقية  مقبولة تساعدهم ليكونوا أكثر قُرباً من المسيح وروحانية الانجيل، وأمينين له، وأكثر تآلفا مع بعضهم البعض. أما المعترضون المعاندون، فهم موجودون في كل زمان، كما كانوا في زمن يسوع الذي تجاوزهم.


 

تجديد البشارة عبرة تاريخ الكنيسة

هذا التجديد لتعزيز "البشارة"، هو ما فعلته الكنيسة عِبر تاريخها، في حقبة الآباء Church Fathers اللاهوتيين، والعصر الكلاسيكي، والثورة الصناعية، وفي عصرنا هذا من خلال المجمع الفاتيكاني الثاني في الستينيات من القرن الماضي وسينودسات الأساقفة بروما كل ثلاث سنوات ورسائل البابوات. الكنيسة كونها "أم ومعلمة" تشدّد دومًا على التأوين والتجديد وإصلاح القوانين والنظم، بعقلية أكثر إنفتاحًا وتجاوبًا مع الزمن، ومن دون خوف أو عقد.

 

إن المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني دعا الى الانفتاح المستمر على إصلاح الذات، أمانةً للمسيح الذي يدعوها للاستمرار في الاصلاح، عبر مسيرتها، لانها بحاجة اليه (قرار في الحركة المسكونية، 6). كذلك دعا البابا فرنسيس في الإرشاد الرسولي "فرح الانجيل" كل مسيحي الى ان يكون جريئًا وخلّاقًا في عملية إعادة التفكير في أهداف الأنجَلَة وهيكليتها واسلوبها وطرقها، داخل جماعته الخاصة. بإتحاد الواحد مع الاخر، كإخوة وأخوات، بقيادة الأساقفة، في تمييز راعوي واقعي وفطن (فرح الانجيل 33).

 

 هكذا فإن قوة الكنيسة هي في مواجهة كذا تحديات بشجاعة ووضوح، ولا يمكن ان تستمر في الطريقة التقليدية وكأن كل شيء بديهي، وكأنه صالح لكل زمان ومكان، ومعتمد عليه بنحو مطلق.

 

اليوم، الأساقفة مدعوون بالأحرى، والجماعات الكنسية خصوصًا "النخبوية" أن يلتفتوا إلى الضرورة الملحة في تشجيع البحث عن وسائل فعّالة ومناسِبة للتقدم اللاهوتي والليتورجي والروحي والقانوني والعمل الراعوي، على ضوء رسالة المسيح التي كان محورها الانسان، وتعزيز كرامته، والعيش الإيجابي المشترك. هنا لا بدّ أن نقرأ نحن المسيحيين قراءة معمقة للتطويبات، وليس قراءة غيبية، فالتطويبات مشروع انساني وروحي حيوي، يُعبّر عن السعي للانتصار على الظلم والتمييز والالم وتحقيق التغيير المرجو مما يمنح تعزية لكل هؤلاء المظلومين. التطويبات ليس مشروعًا لما وراء الموت، والا ما معنى طوبى للساعين الى السلام فانهم ابناء الله يُدعوون (متى 5/ 9)؟


 

دور العلمانيين المؤمنين

أليس هذا هو دور الروح القدس ان يذكّرنا بأقوال المسيح ويرشدنا الى الحق (يوحنا 16/ 13) لكي نُعبّر عنها بأسلوب مناسب، بالتعاون مع المؤمنين، كلٌّ حسب اختصاصه. إذ لا يمكن ان يحتكر رجال الدين كل ما هو ديني، ويعدّون المؤمنين تابعين لهم كالقطيع، وهذه العبارة لا تزال تتردد في ليتورجياتنا الشرقية.

 

يتكلم مار بولس عن تنوع المواهب (1 قورنثية 12/ 27). ثمة مواهبيون علمانيون رائعون يمكن أن يتحمَّلوا مسؤوليات كبيرة في الكنيسة، ويُسهموا في تقدّمها. نذكر على سبيل المثال كيارا لوبيك، مؤسسة حركة فوكولاري، وكيكو اركويلو وكارمن مؤسسي جماعة الموعوظين الجدد، واندريا ريكاردي مؤسس جماعة سانت ايجيديو، وراوول فوليرو مؤسس جماعة خدمة المصابين بالبرص، والام تيريزا، ومن شرقنا نذكر الاخ نور مؤسس حركة إيمان ونور وقنوات نورسات، وملحم خلف مؤسس جماعة فرح العطاء. وفي العراق، عماد حسيب مؤسس جماعة محبة وفرح، والمرحومة الحان نهّاب مؤسسة بيت عنيا، الاختان خالدة وشميرايتا وبيت الرجاء…

 

عسى أن تعود إلينا الحياة بعد كورونا أكثر إنسانية وحماسة، والإيمان أكثر نضوجًا وعمقًا، فلا نعود كما كنا.