موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٦ مارس / آذار ٢٠١٦
البطريرك الراعي في رسالة الفصح: لبنان بحاجة إلى قيامة قلوب أبنائه

بيروت - ليبانون فايلز :

وجه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، رسالة الفصح الى اللبنانيين بعامة والمسيحيين بخاصة مقيمين ومنتشرين، تحت عنوان "شهود القيامة"، في حضور المطارنة، الرؤساء العامين والرئيسات العامات، وجاء فيها:

"المسيح قام، حقاً قام، قيامة المسيح هي جوهر إيمان المسيحيين، كما أعلن القديس أغسطينوس الذي اختبر مفاعيلها في ارتداده إلى الإيمان المسيحي، بعد غربة طويلة عن الله، أضاع فيها زهرة شبابه. ما جعله يؤكد، في كتابه "مدينة الله"، أن "خارجاً عن المسيح، الذي لم يخيب أبدا الجنس البشري، لم يخلص أحد، ولن يخلص أحد". فالمسيح مات ليفتدينا من خطايانا، وقام ليبررنا بقيامة قلوبنا. وهو ضمانة مثلثة: ضمانة لقيامتنا الروحية بنعمة التوبة والغفران، وضمانة لقيامتنا الحسية بقيامة أجسادنا ممجدة، وضمانة لحقيقة المسيح فادي الإنسان، ولأصالة رسالته الخلاصية. ما جعل بطرس الرسول بعد أن شفى مقعدا عند باب الهيكل باسم يسوع المسيح، يؤكد أمام رؤساء الكهنة وحراس الهيكل المستائين من فعلته: "ليعلم الجميع أن هذا الرجل يقف هنا أمامكم صحيحا معافى باسم يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه أنتم، وأقامه الله من بين الأموات. هذا هو الحجر الذي رفضتموه أيها البناؤون، فصار رأسا للزاوية. فلا خلاص إلا بيسوع، وما من اسم آخر تحت الشمس، وهبه الله للناس، نقدر به أن نخلص"، وما جعل بولس الرسول، الذي اختبر القيامة بارتداده بنعمتها من مضطهد المسيح والكنيسة إلى خادم المسيح ورسول الكنيسة، أن يجزم قائلا: "إن كان المسيح لم يقم، فتبشيرنا باطل وإيمانكم أيضا باطل وأنتم بعد في خطاياكم، وكنا أشقى الناس جميعا".

أضاف: "يسعدني، بيقين هذا الإيمان، أن أقدم أطيب التهاني مع أخلص التمنيات بعيد قيامة المسيح وقيامة قلوبنا، لإخواني السادة المطارنة، أعضاء سينودس كنيستنا المقدس، وقدس الرؤساء العامين والرئيسات العامات وجميع الكهنة والرهبان والراهبات وأبناء كنيستنا وبناتها في لبنان والنطاق البطريركي وبلدان الانتشار. نرجو لهم ولنا جميعا ثمار هذا الحدث الخلاصي، وفرح العبور، مع فصح المسيح، إلى حياة جديدة بقيامة القلوب، نشهد بها لقيامة المسيح وفعلها في تاريخ البشر. إذا نعمنا نحن، رعاة الكنيسة وكهنتها ورهبانها وراهباتها بقيامة قلوبنا، استطعنا أن نقود شعبنا إليها عبر خدمتنا الراعوية ومؤسساتنا. فحيث يصل الرأس يصل الجسم كله".

واردف: "كثيرون هم شهود القيامة كحدث تاريخي: النسوة اللواتي أتين باكرا إلى القبر لتحنيط جثمان يسوع ووجدن الحجر قد دحرج، والملاك أنبأهن بقيامة يسوع، بطرس ويوحنا اللذين رأيا القبر الفارغ وفيه المنديل والأكفان، المجدلية التي لم تجد جثمان يسوع في القبر، بل رأت ملاكين أنبآها بقيامته، ثم رأته شخصيا وظنته للوهلة الأولى البستاني، حراس القبر أنفسهم الذين أقامهم بيلاطس لئلا يأتي تلاميذ يسوع ويسرقوا جثمانه ويدعوا أنه قام من بين الأموات، كما كان يعد قبيل موته. هؤلاء، كما روى متى الإنجيلي، رأوا الزلزلة العظيمة عندما نزل ملاك الرب من السماء ودحرج الحجر عن باب القبر وجلس عليه. وكان منظره كالبرق، وثوبه أبيض كالثلج. فارتعبوا وصاروا مثل الأموات. ورجع بعضهم إلى المدينة وأخبروا رؤساء الكهنة بكل ما حدث. فاجتمع رؤساء الكهنة والشيوخ، وبعدما تشاوروا، رشوا الجنود بمال كثير. وقالوا لهم: أشيعوا بين الناس أن تلاميذ يسوع جاؤوا ليلا وسرقوه، ونحن نائمون. وإذا سمع الحاكم هذا الخبر، فنحن نرضيه ونرد الأذى عنكم. فأخذ الحرس المال وعملوا كما قالوا لهم".

تابع البطريرك الراعي: "انها مأساة إخفاء الحقيقة بالرشوة. فالحاقدون على يسوع والحساد بسبب كلمة الحق التي قالها، وجسدها بالأفعال والآيات، ودافع عنها بجرأة ووداعة، فأحبه الشعب وسار وراءه، أرشوا مرة أولى يهوذا الإسخريوطي بالمال ليسلم إليهم يسوع، ومرة ثانية الحرس ليكذبوا ويخفوا حقيقة القيامة التي سطعت كالشمس وخذلتهم. فكم أن "حبل الكذب قصير" بحسب القول المأثور، ألم ير هؤلاء الحرس الكفن الذي تركه الرب في القبر علامة لقيامته؟ وكيف رأوا تلاميذ يسوع يدحرجون الحجر الكبير ويسرقون جثمانه، وهم يسترسلون في النوم. الرشوة بالمال أو بالوظيفة أو بالوعود إنما تعمي القلوب. مأساة إخفاء الحقيقة بالرشوة تتواصل ويا للأسف، كل يوم، ويذهب ضحيتها مواطنون أبرياء بل وأوطان وكرامات ومؤسسات كما هو حاصل عندنا. نحن المؤمنون بقيامة المسيح، أصبحنا أبناء وبنات نور القيامة، نور الحقيقة التي أعلنها المسيح، وهي حقيقة الله والإنسان والتاريخ. وما أحوج العالم إليها، لكي ينعم بالوحدة الثابتة والحرية الحقة".

وقال: "كثيرون هم شهود القيامة كحدث خلاصي فيهم. نكتفي بذكر أربعة فقط معروفين من الجميع: الطوباوي شارل دي فوكو، من مدينة ستراسبورغ الفرنسية، الملقب "بالأخ شارل". إرتد إلى الإيمان الكاثوليكي بعد أن فقد إيمانه في فرنسا، وعاش في الخلاعة والشراهة والسكر مبددا ثروة أهله. بدأ ارتداده مترددا بين الجزائر والمغرب، في فرقة من الجيش الفرنسي أرسلت إلى مدينة وهران في الجزائر، لقمع انتفاضة قام بها المسلمون ضد الإستعمار الفرنسي. بعد عودته إلى باريس واصل ارتداده بواسطة أب روحي. ثم أكملها في الأرض التي عاش فيها يسوع: الناصرة، بيت لحم، أورشليم. إعتنق الحياة الرهبانية وارتسم كاهنا، متخذا إسم الأخ شارل. عاش في الجزائر حياة التقشف والقداسة، وأسس أخوة يسوع الصغار. وفيما كان يعيش في محبسته، دخل عليه مجرم ليلا وقتله بالرصاص، ورمى جثته في حفرة أمام المحبسة. وذلك في أول كانون الأول 1916.

الأب عفيف عسيران، المسلم الشيعي، الذي مر في حالة ملحدة سنة 1943. وبعد قراءته إنجيل التطويبات، المعروف بعظة الجبل، قبل سر العماد المقدس سنة 1945، وهو في سن الخامسة والعشرين. نال شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة Louvain في بلجيكا. وفي 1954 إنضم إلى "أخوة يسوع الصغار" التي أسسها الطوباوي شارل دي فوكو، وأقام معهم سنوات في الجزائر وفرنسا وإيران، وفي جامعة طهران نال شهادة دكتوراه في الأدب الفارسي. في سنة 1962، إرتسم كاهنا في أبرشية بيروت المارونية. وأسس بعدها، "بيت العناية الإلهية بالأولاد المشردين". توفي في 3 آب 1988، وتجري حاليا دعوى التحقيق في تطويبه.

القديسة Edith Stein، من عائلة يهودية ممارسة مؤلفة من سبعة أولاد، تخصصت في الفلسفة وتخرجت بشهادة دكتوراه. فكانت المرأة الأولى في المانيا بهذا الاختصاص. ودافعت عن حقوق المرأة ودورها في المجتمع الأهلي والعلمي. اعتنقت الإيمان المسيحي الكاثوليكي بعد بحث علمي وروحي امتد من سنة 1916 إلى 1921. قبلت سر العماد المقدس في أول كانون الثاني 1922، وهي بعمر إحدى وثلاثين سنة، وبعد شهر قبلت سري الميرون والقربان. دخلت رهبانية الكرمل سنة 1933. استشهدت في أفران الغاز في معتقلات Auchwitz في 9 آب 1942.

الكردينال Jean-Marie Lustigier، المرتد من الدين اليهودي إلى الكنيسة الكاثوليكية. هو بولوني يهودي هاجر إلى باريس مع أهله. وبعد عودتهم إلى بولونيا، مكث في فرنسا متنقلا بين مدينتي اورليان وباريس. احتضنته عائلة كاثوليكية. اعتنق الدين المسيحي ونال سر العماد المقدس سنة 1940 وهو بعمر 14 سنة مستبدلا اسمه اليهودي هارون باسم جان-ماري. بعد ثلاث سنوات بلغه خبر إحراق أمه في أفران الغاز في معتقلات Auchwitz، ومن قبلها الراهبة المرتدة Edith Stein. دخل المدرسة الإكليريكية وارتسم كاهنا سنة 1954. وفي أواخر سنة 1979 رقاه القديس البابا يوحنا بولس الثاني إلى الدرجة الأسقفية، مطرانا لأبرشية اورليان، ثم عينه سنة 1983 رئيس أساقفة باريس، توفي في 5 آب 2007".

وأردف: "يحتاج عالم اليوم إلى شهود قيامة وسط الجماعة السياسية وحكام الدول. شهود يختبرون قيامة القلوب بمشاعر الإنسانية والعدالة والسلام. فالقوى السياسية الإقليمية والدولية تفرض الحروب المدمرة للحجر والبشر في بلدان الشرق الأوسط وبخاصة في فلسطين والعراق وسوريا وسواها، وتوقد نارها وتمولها وتمدها بالسلاح وترسل إليها الإرهابيين والمرتزقة وتغطيها سياسيا، من أجل مآرب سياسية، ومصالح اقتصادية، وأهداف استراتيجية. هؤلاء هم أشخاص ماتت المشاعر الإنسانية في قلوبهم، بل قلوبهم ماتت. إننا نصلي من أجل أن تمسها نعمة القيامة المنتصرة على الموت. وللكتل السياسية والنيابية في لبنان التي ترمي سدة رئاسة الجمهورية في الفراغ منذ سنة وعشرة أشهر، وتحجم عن واجبها الدستوري بانتخاب رئيس للبلاد منذ سنتين كاملتين من دون مبرر، وتتسبب بشل المجلس النيابي وتعثر عمل الحكومة وتفشي الفساد، نرجو أيضا قيامة القلوب، رحمة بلبنان وشعبه ومؤسساته. ونرجوها لكي يصبح الخطاب السياسي والديني والاجتماعي خطاب سلام وتلاق واحترام. نرجوه خطابا حياتيا قائما على التعاون والمشاركة المتوازنة في الحكم والإدارة، المرتكزة على التعددية، البعيدة عن الروح المذهبية والفئوية".

وختم البطريرك الراعي: "لبنان بحاجة إلى قيامة قلوب أبنائه لكي نحافظ عليه كما يراه المجتمع: لبنان الرسالة، مع القديس البابا يوحنا بولس الثاني، لبنان النموذج في القيم الحضارية، مع المدير السابق للأونيسكو السيد رينيه ماهو، لبنان رئة الحرية والحداثة بالنسبة لمحيطه العربي، مع رئيس الحكومة القطرية السابق الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني، لبنان العيش المشترك، مع الرأي العام الخارجي، الذي يؤدي دورا كبيرا في تظهير الصورة الحقيقية للعالم العربي، وتطوير علاقاته بالعالم الأوروبي، لبنان المنارة للعروبة المتنورة، مع جورج نقاش. يستطيع لبنان أن يحافظ على هويته هذه بمقدار ما تتربى أجياله عليها، وبمقدار ما يتحصن نظامه السياسي بالحياد الملتزم بقضايا العدالة والسلام والنمو في محيطه، والبعيد عن الانخراط في المحاور الإقليمية والدولية، ما يجعله واحة تلاق وحوار وسلام. وفيما نجدد لكم جميعا تهانينا بالفصح المجيد، نسأل الله أن يفيض عليكم وعلى أبرشياتكم ورعاياكم ورهبانياتكم ومؤسساتكم، ثمار الفداء وأنوار القيامة".