موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٠ مارس / آذار ٢٠١٨
الامير والبابا.. حوار التعايش المشترك

القاهرة - إميل أمين :

الزياره التاريخية التي قام بها الايام القليلة الماضية سمو ولي عهد المملكة العربية السعودية الامير محمد بن سلمان تنقل فكرة الحوار من الأطر التنظيميه ومن داخل القاعات المكيفة والفنادق الفاخرة الى مستوى التحقق الانساني والوجداني على الارض ما يعني ان المساله تتجاوز حديث الاقوال الى الافعال والنوايا الى التنفيذ.

هي المرة الاولى في التاريخ قديمة وحديثة التي يزور فيها مسؤول سعودي الجنسية رفيع المستوى بل ارفع ما يكون لمقر كبير الاقباط الكتله العددية الاكبر للمسيحيين العرب في الشرق الاوسط والعالم العربي مع ما لهذا اللقاء من دلالات وتبعات واستحقاقات.

قبل نحو عامين تقريبا وتحديدا في ابريل نيسان من عام 2016 كان اللقاء الكبير بين خادم الحرمين الملك سلمان وبين بابا الاقباط تواضروس الثاني وقد زار الباب الملك في مقر اقامته وقت ان حل ضيفا كريما على ارض المحروسه وبدا وقتها ان رؤيه تصالحيه تسامحيه تشمل توجهات المملكه ضمن سياقات عهد جديد، ولم يكن الامير محمد وقتها قد اضحى وليا للعهد، غير ان تاثيرات رؤيته للمشهد في المملكه كانت واضحه وفاعلة.

يمكن للذين تابعوا هذه الزياره ان يخلصوا الى الكثير من الرؤى والتحليلات غير انه في المقدمه من جميعها يمكن القطع بان هناك قيادة شابه جديده في المملكه تمضي في طريق اعاده نشر وسطيه الدين الاسلامي الحنيف وقياده السفينه بعيدا عن انواء وامواج التطرف والعنف تلك التي ولدت العدوات ورسخت الكراهات بين البشر وكان من نتائجها الطبيعيه تلك الطفرات الارهابيه الشريره التي عانت منها المملكه بنفس القدر الذي يعاني منها من حولها.

قبل بضعة اشهر كان الامير محمد بن سلمان يتحدث عن رؤيته 20 30 للمملكه وفيها توقف طويلا عند عقود التكلس والتحجر التي اصابت عقول الشباب وقادتهم الى ضروب الارهاب و استمع الجميع الى رؤيه عقلانيه تصدر عن شخصيه نهضويه تود اعادة الدين لصحيح مساره وتدرك ما للشرق الخلاف من قيمه ادبيه و فكريه بل و من مكانه خاصه في التاريخ فهو مهبط الوحي و ارض التسامح قبل ان تقود نظريات الصدام و المواجهه العالم.

لقاء الامير محمد بن سلمان مع البابا تواضروس طريق لحوار ثقافي ناضج وهو لا يظهر الا عن شخصيه نمت وترعرعت في اجواء فيها الكثير من الوعي الحضاري.

ادرك الامير محمد بن سلمان انه ليس من قبيل المبالغه في القول ان العالم الاسلامي في اشد الحاجه اليوم الى حركه فكريه تفاعليه تنير امامه الطريق نحو تجديد البناء الحضاري من خلال تطوير الشعوب وترقيتها وازدهار حياتها الماديه والمعنويه واصلاح مجتمعاتها ااصلاح شاملا ياتي على دروب الفساد من الجذور بمنهج من رشيد و باسلوب حكيم وبفهم بصير لفقه الاولويات وليس باسلوب الطفره او الارتجال او بصوره العواطف او نزوة العقل فقد جر علينا هذا الاسلوب الارعن المصائب والبلايا وما كانت له قط فوائد ومزايا وآن للعالم الاسلامي ان يعود الى الرشد الحضاري و ان يقلع عن التجارب الفاشله التي كان ضررها اكبر من نفعها ، وان يتجه الوجهة القويمه نحو المستقبل، باحترام كرامه الانسان و اشاعه العدل و افساح المجال امام العقول المبدعه للمشاركه في اصلاح الاوضاع و بناء حصون العلم و المعرفه، و تقديم الصوره الحقيقيه للاسلام وللحضاره العربيه.

في هذا الاطار كان الامير محمد بن سلمان يدرك كيف ان المسيحيين العرب قد لعبوا عبر التاريخ دور خلاقا ومثلوا قيمه مضافه في زخم الحضاره العربيه بالعلوم والمعارف لاسيما السريان العرب الذين ترجموا التراث اليوناني القديم الى اللغه العربيه ومنها ترجمت تلك العلوم الى اللاتينيه، و ليعرف الغرب بعدها كيف يمضي قدما في اثرها وانتخلف اصحابها عندما فعلوا امرين غير مرغوبين:

اولا انهم اغلق باب الاجتهاد والتجديد فتوقف الابداع وسادت عقليه الاتباع.

والثاني استبعاد الاخر المغاير عرقيا و دينيا و كاني به ليس موجود بل في بعض المرات ذهبت قوى التطرف والاصوليه لاعتباره انتقاص من صورة الاسلام،و صوره الحضاره العربيه وكأن الحياه لا تستقيم الا بعزله و اقصائه و بعيدا عن المجموع الكلي للمواطنين وفي بلدانهم بعينها اصابها السقم الفكري و الجد ب الثقافيه و غابت عنها روح التسامح.

داخل الكاتدرائيه المرقسيه مقر بابا الاقباط رحاب الباب تواضروس بضيف مصر العزيز و عبر عن اعجابه بالتطورات التي يقودها ولي العهد السعودي في بلاده ما يساهم في تنميه المنطقه العربيه برمتها ومن جهه ثانيه ابدى كبير القط شكره للمملكه التي تستضيف مئات الالاف ان لم يكن اكثر من المصريين والذين يجدون كل رعاية و محبه، ومن بين هؤلاء المصريين المسيحيين الذين يعملون في ظل اطر طيبة من السلطات هناك. بعين التقدير نظر البابا تواضروس للامير الشاب معتبرا انه بات قياده لتلك الحلقه الذهبيه اي الشباب العربي هؤلاء الذين على اساسهم تقوم التنميه و تتقدم البلاد.

لكن ماذا عن الامير الشاب و عن رؤيته للاقباط من المصريين اولئك الذين كانوا هدفا يسيرا محببا ومرغبا للارهابيين اصحاب الشر كما درج الرئيس السيسي على وصفهم؟

لم يكن له ليغيب عن ناظري الامير الشاب ان الارهابيين والتكفيريين قد دفعوا الكنيسه القبطيه دفعا لان تخرج عن ثوبها الوطني في الحال والاستقبال قلبا وقالبا لارض مصر ترابها وهوائها، بشرها وحجرها ، نيلها ومعابدها اهلها الطيبين من المسلمين والمسيحيين دون تفرقه او تميز.

لكن الاقباط ادركوا مسبقا سيناريوهات الشر المعده لمصر باكملها و ليس لهم بنوع خاص ومحاولات تفريق اللحمه و السدى، وشق صف النسيج الاجتماعي المصري، ولهذا حين احرقت الكنائس والاديره خلال فتره ارتفاع المد الاصولي الاعوام القليله الماضيه في مصر لم يهدد كبير القبط او يتوعد ولم ينذر اويحذر و لم يسعى الى المحافل الدوليه للتنديد والمطالبة بالاستقلال التام او الموت الزؤام كما كان يتطلع الكارهين والحاقدين.

رفع الرجل صوته معتبرا ان هذه الحرائق بخور يرتفع للسماء فداء لمصر وانه ان احرق الكارهون الكنائس سيصلي الاقباط في المساجد وان اوا حرق المساجد الامر الذي حدث بالفعل في منطقه بئر العبد في سينا نصلي معا في شوارع المحروسه.

وقال البابا يومها نفضل مصر كوطن بدون كنائس عن ان يكون للاقباط كنائس بلا وطن.

اختزن الامير محمد في ذاكرته هذا المشهد ولهذا تحدث تحت سقف كاتدرائيه الاقباط في القاهره قائلا ان الواقع يقول بان الاقباط لديهم مكانه في قلوب كل مسلمي العالم وليس مصر فقط مضيفا المسلمون يجب ان يعرفوا ذلك الدور الوطني الذي تحملته الكنيسة المصرية.

الامير الشاب قدم لبابا الاقباط تعزيه في من وصفهم :"شهداءكم الغاليين علينا وعلى مصر و العرب و العالم"، واضاف: "واشهد لكم في موقفك تجاه العنف الذي حدث لكم وعدم رد الاذى بالاذى ذلك الموقف الذي كان مميزا جدا ومضربا للمثل".

عهد جديد يدشنه محمد بن سلمان وبخاصه حين يستشهد في رحاب البطريرك بالتوجه القراني السمح: "لكم دينكم ولي دين"... اي حوار او جوار واي عيش مشترك حقيقي ينشده الامير الشاب في الشارع العربي، ولهذا صدق وزير الخارجيه البريطاني بوريس جونسون حين اشار اليه بانه مصلح واجب الدعم، وهو الذي يؤكد للبابا المصري على رغبته في التعاون الدائم وكذلك في مسيرة جديدة للتعامل الاسلامي المسيحي بل ويوجه لبابا الاقباط دعوة لزيارة المملكة العربية السعودية الامر الذي كان بمثابه ضرب من ضروب الخيال او المستحيلات قبل بضعة اعوام.

خلاصة المشهد الخلاق الاخير الذي جرى على ارض المحروسه يمكن بلورته في القول ان اي تقارب مسيحي اسلامي يفوت الفرصه على المتشددين والارهابيين ويقوي مناعه الامم والشعوب في مواجهه فيروسات التعصب والفوضى ويقاتل اليات الكراهيه. محمد بن سلمان رؤية تحديثية عصرانية تستحق الاشادة والدعاء بالتوفيق والسداد.