موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٧ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٥
الأب روموالدو فرنانديز الفرنسيسكاني: راهب المعرفة ومحبة الآخر

حلب - الأب ريمون جرجس :

"كلُّ حبرٍ يؤخذ من بين النَّاس، ويُقام لدى الله من أجل النَّاس" (عبرانيِّين 1:5)، هذه الكلمات من الرِّسالة إلى العبرانيِّين تؤكِّد بوضوحٍ إنسانيّة خادم الله، فهو من الناس ولخدمة الناس. من أولويته أن يعمل لما هو صلة الناس بالله. أن يجعل الله قريباً، حاضراً في حياة المؤمنين، في همومهم وأفراحهم, في آلامهم ومرضهم. فحضور الله في قلب الكثيرين يعود بفضل عمل الكاهن. لهذا السبب يختار الرّب كاهن "من أجل الناس في صلتهم بالله". "ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر ويدوم ثمركم لكي يعطيكم الآب كل ما طلبتم باسمي" (يو 15: 16). الكاهن كخادم لله يعيش للرب مع الناس، يسأل السؤال نفسه الذي طرحه شاول، أي بولس، لمّا تراءى له السيّد في طريقه إلى دمشق: "ماذا تريد أن أفعل؟" (أع 9: 6). والرب الذي أعد لبولس طريق الخدمة قائلاً له على طريق دمشق "قُمْ وَقِفْ عَلَى رِجْلَيْكَ لأَنِّي لِهَذَا ظَهَرْتُ لَكَ لأَنْتَخِبَكَ خَادِماً وَشَاهِداً بِمَا رَأَيْتَ وَبِمَا سَأَظْهَرُ لَكَ بِهِ (أع 26: 16). وكما اختار السيد الربّ التلاميذ وبولس بمشيئة مطلقة ووهبهم النعم ومنها سر الكهنوت المقدس، كذلك اختار الرّب روموالدو فرنانديز، ليكون له خادماً ورسولاً في كنيسته الجامعة وفي الكنيسة الشرق.

ولد الأب روموالدو فرنانديز فريرا عام 1937 في مدينة سَمُورة الإسبانية، عاش وترعرع فيها إلى أن لبى دعوة الرب فدخل السلك الرهبني وانتقل للدراسة في مدينة مارتوس التابعة لمقاطعة خاين في الأندلس وهناك حصل على شهادة البكالوريا. ومن بعدها انتقل إلى تشايبيونا وهي ضمن مقاطعة قادس إلى الجنوب من الإسبانيا لمتابعة دراسته ونيل درجة الدبلوم في الفلسفة واللاهوت. بيد أن لقاءه بالأب أليخاندرو ريثيو أستاذه في مادة اللغة اللاتينية كان السبب في إضفاء طابع هام على حياته. فهذا الأخير المتخصص في علم الآثار المسيحية فتح الأفق أمام هذا الراهب الشاب فنمى لديه حبه للآثار المسيحية.

في عام 1960 توجه هذا الراهب من اقصى غرب البحر المتوسط إلى الشرق إلى الأراضي المقدسة ليقدم نذوره الرهبانية الطاعة والفقر والعفة وليعيش دعوته فلبس ثوب القديس فرنسيس الاسيزي واصبح بذلك واحداً من الرهبان حراس الأراضي المقدسة. في القدس بعد سيامته الكهنوتية عام 1963 أمضى سنة في خدمة قبر الرب يسوع في كنيسة القيامة وأنكب في أثنائها على دراسة الكنائس الشرقية.

في 26 حزيران 1965 وصل إلى سورية، فخدم في قرية القنية والغسانية وفي مدينة حلب، ما يقارب 17 سنة. بيد أن نذر الطاعة ألزمه السفر إلى مصر إذا عهد إليه في عام 1983 إدارة المركز الفرنسيسكاني للدراسات الشرقية في القاهرة. وأمضى هناك عشر سنوات إلى أن عاد ثانية إلى سورية عام 1993، وهذا المرة إلى دمشق كرئيس وحارس لمقام القديس بولس والذي ما يزال فيه إلى اليوم.

عرفت أرضنا الطيبة سوريا الأب روموالدو العالم بآثار سورية منذ أكثرمن أربعين عاماً، يجوب مراراً وتكراراً أديار والتلال وجبال التي منها ارتفعت آيات الحمد والتمجيد لربنا يسوع المسيح، في القرى الأثرية في ريف حلب وإدلب، مدققاً وباحثاً ومكتشفاً وكاتباً بهذه الكنوز الدفينة مع أخويه الأب بسكال كاستلانا وانيياس بينيا. فمنذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي، قام الإخوة الروّاد الثلاثة بعزم عنيد في التغلغل أعماق عالم قديم بدراسة المعالم المسيحية السورية القديمة وذلك من خلال زيارتهم علمية لكنائس سورية البيزنطية والأديرة وأعمدة العموديين وأبراج النساك، للتعرّف بعمق على أنواع الحياة النسكية. هؤلاء الثلاثة الذين كانوا فرسان حراسة الأراضي المقدسة غدوا أيضاً من الآن فصاعداً فرسان اكتشاف ودراسة الآثار المسيحية في شمال سورية وراحوا يتنقلون سيراً على الأقدام من قرية إلى أخرى لدراسة هذا العالم الفريد والوحيد للقرى المسيحية السورية ساعين إلى تخليد هذا التراث وإطلاع العالم عليه. فقاموا بإزاحة حجارة القرن الرابع والخامس والسادس، التي تنطق لغة الإيمان إيمان الأجداد إيمان كنائسنا الشرقية. ليسوا من الرهبان المتخصصين الدارسين في علم الأثار المسيحية، لكنهم رهبان مار فرنسيس أُرسلوا إلى هذه الأرض فدرسوها وعرّفوها على الآخرين من خلال أبحاث وكتب ما تزال موجودة في المكتبات وقد ترجم البعض منها إلى عدّة لغات أجنبية. ومن يقرأ مؤلفاتهم وهي عشرات الكتب والمقالات، يشعر وكأن الحياة دبت في المدن الميتة. نذكر على سبيل المثال: النساك العموديون السوريون العام 1975، نسّاك الأبراج السوريون العام 1980، نسّاك الأديرة السوريون العام 1983.

ويبقى لهم الفضل الأكبر في إحصاء وتوثيق الآثار والمواقع وتصويرها ورسم مخططاتها وتحديد مساحاتها ومقاساتها الهندسية وفك رموزها. اهتموا بتاريخ الرهبان، واكتشفوا أيضاً الميناء النهري على العاصي، وعدة طرق رومانية ومدن طال البحث عنها. إكتشافوا ضريح القديس مارون في براد, قبور بعض النساك المتوحدين في بشكوح، وجبل باريشا، والدير الغربي، والجبل الأعلى، مئات بل آلاف من كنائس وأديرة وأعمدة عموديين، وأبراج متوحدين، ومناسك، وكتابات مغاور، نقشتها أو كتبتها أيدي تقية على جدران البيوت وعلى العتبات العليا. ولسوء الحظ كثير من هذه الآثار التي درسها وصورها اختفت بسبب أو لآخر وبقيت هذه الدراسة والصور كنز لا يقدر بثمن.

كما كان للأب رومالدو من حبّ عميق لدراسة الآثار المسيحية في دمشق ومحيطها. فكان له عدة كتب نذكر منها: كتابه عن دير القديس توما الرسول في صيدنايا، وآخر عن الطرقات التي سلكها القديس بولس من وإلى دمشق، والثالث عن مار مارون، والرابع عن الرموز المسيحية المكتشفة على جدران الأوابد المسيحية السورية، وقد دعمت جميعها بالصور لتكون مرجعاً لكل من أحب الإطلاع والدراسة. فجميع أبحاثهم العلمية واكتشافاتهم الآثرية الثمينة، تُعدّ الأولى في ما كتب عنه في المجال علم الآثار. فإن أردنا أن نتعرّف على أصولنا وتاريخنا في الشرق يجب الاهتمام بهذه الأبحاث والكتب في جامعاتنا وترجمتها، لأنَّها لا تتناول تاريخ حجارة ميتة إنّما تاريخ الكنيسة الجامعة في الشرق.

تقديراً لجهودهم ولعملهم، منح قداسة البابا بنيدكتوس السادس عشر مساء يوم الجمعة 29-1-2010 بمشاركة سعادة السفير البابوي المطران ماريو زيناري، تكريماً للأبوين باسكال كاستيلانا، ورموالدو فرناندس، وسام الصليب السامي باسم الكنيسة وباسمه، والذي تم بعد القداس في صالة الكاتدرائية بحضور أساقفة ورؤساء كنائس حلب.

لم تكن محبة الأب روموالدو للحجارة وللآثار إلاَّ بدافع من محبته للحجارة الحية، ألا وهي الجماعات المسيحية المحليّة؛ فقد خدمها بإخلاص وأمانة أكثر من خمسين عاماّ وهو يحمل على كتفيه أتعابهم وهممهم، بروح من العطاء والتضحية والعناء والتحديات. فكانت خدمة الإنسان سُلّم أولوياته وأمام عينيه، وكان يقول لا يكفي أن نحب العلم ولكن الأساس هو أن نحب الإنسان. كلُّ بسمة وفرحة تعطيها أو تزرعا في قلب الإنسان، تشعر بأنك إنسان على صورة الله. نعم لم يكن ليتوانى عن تقديم المساعدة مشجعاً هذا ومواسياً ذاك ببسمة وبضحكة أو بنكتة لطيفة لمن كان في زيارته.

في دمشق حمل مسؤوليات رعوية وإدارية عدة. فمنذ وصوله عُيّن نائباً لمطران اللاتين في دمشق وريف دمشق. وشغل ثلاث سنوات كاهن رعية للكنيسة اللاتينية في حي باب توما وستة سنوات رئيس الدير الكبير. وكرئيس لمقام القديس بولس قام بتجديد مغارة مقام القديس بولس كمكان أهتداء رسول الأمم ولتكون أحد المعالم الأثرية الهامة في دمشق. ولمحبته للشأن العام فقد كان السّباق في إقامة روضة أطفال في حي الطبالة الشعبي وبأسعار رمزية لمساعدة الأمهات العاملات وتضم هذه الروضة اليوم ما يقارب 150 طفلاً. كما نشّط أعمال المركز التعليم المسيحي ليكون من أهم المراكز في دمشق. علاوة على حرصه على إبقاء المستوصف الخيري مفتوحاً على الرغم من صعوبة التزام الأطباء.

ومع الأزمة السورية فقد أصرَّ الأب روموالدو على البقاء في سورية وعدم مغادرتها معتبراً ذاته واحداً من أبناء هذه الوطن ولم يدخر جهداً في تقديم العون للمهجرين والمحتاجين. وقال لي قبل اللحظات الأخيرة من عمليته الجراحية: إذا مت، أرغب بأن أدفن في سورية. لم تشهد عيني رجلاً أحبَّ سورية كما كان هو يحبّها. كان يعشق تاريخها، أرضها، طعامها، وبكل تأكيد إنسانيتها والتعايش الإنسان المسيحي مع أخيه المسلم. كثير من مرات حصلت على اتصالات هاتفية من سيد مسلم مُحِبّ: كان يبكي و يقول لي كيف صحة أبونا روموالدو، سلمي عليه وقَبٍّل أيدو بإسمي.

عُرف بالأب الحنون، يلتقي مع كلّ إنسان صغيراً كان أوكبير بروح الدعابة والنكتة، محباً ومحبوباً من الجميع. لا يُحب بما يحاط به من مظاهر التكريم ويراها متنافرة مع من عدّ نفسه "راهب صغير". يستعذب كلّ ما كان يبدو له مريراً لا يُطاق. كان يشع فرحاً، حتى في غمرة احتدام أزماته. كان صريحاً، صادقاً لا يُظهر عكس ما يُضمر، فقد جهد في إبقاء جذوة فرحه الداخلي مضطرمة كي تعكس بأمانة الفرح الظاهري الذي كان يُعبر عنه بنكتة أو بتصفير. لا يحب الكأبة في وجوه الناس حتى في وجوه أخواته الرهبان؛ يحاول تخفيف من شدة المشكلة والمعنات، بكلمة بسيطة: ما اتعصب، بتشرب شاي أو قهوة". حقاً أعطى من ذاته ومن وقته وجهده الكثير وكل ما عنده لتحقيق إرادة الله وليست إرادته ومشيئته.

كانت حياته الكهنوتية، نموذجاً ومثالاً من العطاء. فكان الأمين الصالح الذي عمل على نمو وزنات أعطاه إيَّاها الأب السماوي فعمل على نموها وتقدّيمها للكنيسة التي أحبّها". ولا يسعـنا إلاّ أن نطلب من الأب السماوي أن يتحنن عليه ويمنحه الجياة الأبدية.