موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٧ ابريل / نيسان ٢٠٢٣
احتفالية خميس الاسرار ورتبة غسل أرجل التلاميذ‎‎ في أبرشيّة أربيل الكلدانيّة

ستيفان شاني :

 

احتفل رئيس أبرشيّة أربيل الكلدانيّة المطران بشار متي وردة، الخميس 6 نيسان 2023، بقداس خميس الأسرار ورتبة غسل أرجل التلاميذ، وذلك في كاتدرائية مار يوسف الكلدانيّة، رافقه الاب سافيو حندولا خوري الكاتدرائية. وبعد القداس، رُفِع القُربان إلى مزار خاص استعدادًا لرتبة "المسكة"، والتي تُصلى عشية يوم الجمعة.

 

وفيما يلي عظة سيادته بهذه المناسبة:

 

خميس الفصح

 

"حبٌ حتّى بذل الذات" (يو 13: 1- 18)

 

"أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى"، هذه كانت شهادة يوحنا الإنجيلي وهو يروي لنا ما حصل في احتفالية ربّنا يسوع بالفصح مع تلاميذه، فروى لنا حادثة غسل ربّنا يسوع لأرجل تلاميذه، فيما روى مرقس ومتّى ولوقا قصّة أخذ الخبز ورفع الشكر لله ومُباركته ومُقاسمته مع التلاميذ قائلاً: "خُذُوا كُلُوا. هَذَا هُوَ جَسَدِي" (مت 26: 26)، "وَأَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ. لأَنَّ هَذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا" (مت 26: 26- 28). وكلا الحادثتين نابعتنا من محبّة يسوع للعالم، لتُصبح ساعة الانتقال ساعة المحبّة.

 

كتبَ بولس في رسالتهِ إلى كنيسة فيلبي الآتي: "فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضاً: الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ" (فل 2" 5- 8)، وهذا ما حصل بحسب يوحنا الإنجيلي في ليلة الفصح، ليلة العبور إلى الله، ليلة كشفَ فيها ربّنا يسوع عن محبته، فقَامَ عَنِ الْعَشَاءِ وَخَلَعَ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا. ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا" (يو 13: 4- 5).

 

يعِرف ربّنا يسوع بانَّ تلاميذه ليسوا كلّهم أطهاراً (يو 13: 11)، وأنَّ واحداً منهم سيُسلّمه، وآخر سيُنكره، فيما يتخلّى عنه الجميع ليواجه الموت وحيداً، فواجه قصور محبّة أصدقائه، بأن يُنعِمَ عليهم بمحبّة وافرة، فكان لهم خادماً، في مشهدٍ تعلّم منه بولس عِبرَة للحياة فكتبَ لكنيسة روماً:" لاَ يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ، بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ." (روم 12: 21)، فالحبُ وحده قادرٌ على أن يُعيد إلى البيت الإبن الضآل، ومحبّة يسوع قادرة على أن تُنعِم على بُطرس والتلاميذ ببدءٍ جديد، إن استجابَ لهذه المحبّة. لذا، تخلّى عن مجدهِ، ولبس ثياب العبد وركع أمامهم، وبدءَ يغسل لهم أقدامهم المتّسخة بالتراب، ليُصبحوا أهلاً لمواصلة المسيرة معهُ، فقد تجسّد ليُقدِس الإنسان، هو الذي قالَ أن تقديس ذاته هو من أجل الآخرين، ليتقدسوا بالحق (يو 17: 19)، فالمحبة لا تحتفِظ بشيءٍ لذاتها، بل هي عطاءٌ كليٌّ من أجل خير الآخر، عطاءٌ حتّى بذل الذات، وكان ربّنا يسوع قدوة لنا في تجسد هذه المحبّة واقعا، ويُريدنا أن نلتزِم هذا الطريق: "أَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً" (يو 13: 15). هكذا، سيأخذ معه في ساعة انتقاله كلَّ الذين يلتزمون تباعتهُ، لأنّه تجسد لكي يجذب إليه كل البشر (يو 12: 32).

 

أمام هذه النعمة يقف الله منتظراً جواب الإنسان، عارفاً أنّ قلبهُ ميّالٌ نحو الشر، "وَانَّ كُلَّ تَصَوُّرِ افْكَارِ قَلْبِهِ انَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْم" (تك 6: 5)، فيُمكن للإنسان أن يقبلها متواضعاً مثل بطرس، أو أن يرفضها، مثل يهوذا، الذي دعاه ربّنا يسوع صديقاً، مثلهُ مثل كلِّ التلاميذ الآخرين.

 

إلهنا يعرِف خفايا قلوبنا، وهو عالمٌ أنَّ فينا ما يمنع تقديسنا، وأننا نسعى لفرضِ إرادتنا من أجل السلطة والشهرة والنجاح والثروة جشعاً، ونرتكِب سلوكيات بغيضة، وفينا أصوات تهمُس فينا أكاذيبَ تُعارض مشيئة الله، وتُقسيّ قلوبنا، وتُغلِق الباب أمام رحمتهِ، وترفض محبته، مُدعيةً وهماً أنها قادرة على العيش من دون الله، أو أنها تعرِف الحقيقة، وترفض طُرقَ الله. لذا، يُصبح الغسل ضرورةً من أجل تجديدنا، ويعرِض الربّ ذلك بتجرّد تام، من دون أن يفرضهُ علينا، فغسل أقدام يهوذا لم تمنعه من مواصلة الخيانةِ، وخيانة يهوذا، ونكران بطرس، وهرب التلاميذ، لم يُوقِف مسيرة ربّنا يسوع تجاه الصليب، فخطيئة الإنسان لا تُقرِر مشيئة الله، بل على العكس، في الوقت الذي حضرَ فيه ابليس في قلبِ يهوذا: "فَحِينَ كَانَ الْعَشَاءُ وَقَدْ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ" (يو 13: 2)، اختارَ ربّنا يسوع أن يكشِف على نحو واضحٍ معنى ومضمون رسالته؛ أن يخدمُ، وأن يتغلّب بمحبته على خطيئة يهوذا، فغلبَ الخيانة بالأمانةِ لبُشرى الله، فهو تجسّد ليُحِبَّ كلَّ إنسان، خاصّة الخاطئ، البعيد عنه. فهو، ربّنا يسوع، "كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى الْعَالَمِ. كَانَ فِي الْعَالَمِ وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ. إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ" (يو 1: 9- 11). هناك مَن سيستجيبُ إلى النور وينكشِف أمامهُ، في حين أن غيره اختار أن يبقىَ في الظلمةِ.

 

يُحكى أن أبينا إبراهيم استقبلَ شحاذاً في خيمتهِ فقدّمَ له ماءً ليشربَ ويغسلَ قدميه، وطعاماً ليأكل، ووقفَ يخدمهُ. ولكنَّ هذا الشحاذ صارَ يلعنُ الله لأنه لا يعتني به، بل أبقاه فقيراً يشحذ طعامهُ، فغضِبَ إبراهيم لأن الشحاذ أهانَ إلههُ، فطرده خارجَ الخيمةِ. فترأى له الله وسأله: لماذا طردته يا إبراهيمَ؟ فردَّ إبراهيم: لقد أهانكَ يا ربًّ!

 

فأجاب الله: منذ خمسين سنة وهذا الشحاذ يلعنني ويُهينني وهيأتُ له طعامهُ كلَّ يوم ووفّرتُ له ما يكفيهِ من خبزٍ وماء، ولم أؤاخذه على اهاناته! ألم يكن بمقدوركَ أن تتحمّلهُ أنت ولو لساعاتٍ يا إبراهيم؟

 

فإذا كان الله لا يملُّ من خطايانا، ويبدأ كلُّ مرّة من جديد معنا، بل هو الذي يغسل لنا، ويُطهرِنا ممّا يمنع تقديسنا، فلن يكون التقديس ثمرة تدّين الإنسان، بل نعمةٌ من الله، تنتظرُ مَن يقبلها بإيمان: "قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: "يَا سَيِّدُ لَيْسَ رِجْلَيَّ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً يَدَيَّ وَرَأْسِي" (يو 13: 9)، وكأن بُطرس يقول: أحتاج يا ربّ لأن تغسل ليّ رجلي لأني اسيرُ في طرقٍ خاطئة، وأن تغسل لي يديّ الملوثتين بالجشع والعنف، والأهم أن تغسل لي رأسي، ففيه أفكار خاطئةٌ، ومنه تنبع الأفكارُ الشرير (مر 7: 14- 22).

 

يقينا أن الغسل الخارجي هو الخطوة الأولى نحو الغسل الأهم، غسل القلب والفكر من كل الأكاذيب والأفكار الباطلة التي لنا عن الآخرين، والتي تمنعنا من التواصل معهم على نحو صادِق، بل نراهم ونتعامل معهم وفقَ مقاييسنا وأهوائنا ورغباتنا، مثلما فينا أفكارٌ عن الله لا نريد التنازل عنها، فنسمع بطرس يقول لربّنا يسوع: "يَا سَيِّدُ أَنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ!، "لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَداً!" (يو 13: 6، 8)، بمعنى، أنت الربّ والمُعلِم، كيف يُمكن أن تكون خادما لي؟ أنا الإنسان الذي يجب أن أخدُمك!

 

الفصح الذي يدعونا إليه ربّنا يسوع، والذي يُريدنا أن نصنعهُ لذكره دوماً، هو فصحُ المحبّة، حتّى بذل الذات من أجل خير الآخر وسلامة حياتهِ، وهي نابعة من قلبٍ قَبِلَ نورَ الله، وفتح له الباب ليدخل ويُقيمَ فيه، ويُطهّره من كل الأفكار الشريرة، وصارَ أهلاً لاستقبالِ ربّنا يسوع، بل لن تكون له الحياة إلاَّ بالمسيح يسوع الذي يحيا فيه (غلا 2: 20)، فننظر إلى الآخرين بعيون يسوع، ونقبلهم مثلما يقبلهم هو، فنصير الافخارستيا التي نحتفلُ بها، مثلما روى لنا احد الكهنة الذي دُعيَّ يوماً ليحتفل بالذبيحة الإلهية في البيت الذي كانت تعيش فيه القديسة الأم تريزا.

 

يقول كان فرحي عظيماً، وقمتُ بترتيب كل ما يلزم لمثل هذه اللحظة، وبدأتُ احتفالية القُداس بفرحٍ، مؤمناً بأني أحتفل بقداس يسوع، وبحضور إنسانة عظيمة تشهد لمحبّة يسوع في العالم. وكانت دهشتي عظيمة، عندما شاهدتُ الفرح على وجه الأم تريزا وهي تقبلُ القُربان من يدي، وكيف ضمّت يسوع إلى قلبها، وقالت: "آمين"، عندما قالتُ لها: "جسد المسيح"، وانسحبت من بين المُصلين لتشكر، ثم خرجت من المُصلّى، لتحتضنَّ رأس مريض كان يحتضر، وكأنه رأس يسوع حتّى مات بين أحضانها. لقد حققت فعلياً عبارة "أمين" التي قالتها عندما تناولت القُربانة، وصارتَ هي الافخارستيا التي احتفلت بها، لأنها سمحت لجسدِ ربّنا يسوع أن يحوّل جسدها إلى جسدهِ هو، إلى الحياة المُباركة في الخدمة المتواضعة.

 

لذلك، يترك ربّنا يسوع وصيتهُ لنا قائلا: "وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ بَعْضاً. بِهَذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضاً لِبَعْضٍ" (يو 13: 34- 35)، ويدعونا فيها لأن نُحِبَّ مثلما يُحبُّ هو، حبٌّ إلى أقصاه، وليس بحسب طاقتنا نحن، حيثُ نُبادِلُ الحب مع يُحبّنا، أو نُبادرُ بالحب إزاء مَن نبتغي منه شيئا. أن نُحبَّ فنرى صورة الله مرسومةً فيهم، وتكون خدمتهم عملاً مُقدساً. يُروى أنّ القديسة الأم تريزا طلبت من أخواتها عندما بيت خدمة البُرص في اليمن، أن يخدمنَّ بأمانةٍ ومجّانية، ويعشنَّ دعوتهنَّ بفرحٍ. قررت بعد مدّة زيارة أخواتها في اليمن، وعبّرن لها عن فرحهنَّ بالخدمة، ولكنهنَّ اشتكينَّ من أنهنَّ غير قادراتٍ على حضور القُداس بسبب عدم وجود كاهنٍ أو كنيسةٍ قريبة، وعندما سألوها عن توضيح لهذه المُشكلة أجابت الأم تريزا مُشيرة إلى البُرصِ: هذا هو قُداسكنَّ.

 

في هذا العشاء يُظهر لنا ربّنا يسوع المسيح أن الافخارستيا هي أكثر من خبز وخمر، هي حب وخدمة مَن هم من حولنا. فلما نتقاسم الخبز مع الجائع، ونروي عطش مسكين، ونستضيف غريباً في قلوبنا، ونفتح قلوبنا لمريض، ونستمع ونُصغي إلى أحزان الآخرين، عندها نعيش افخارستيا يسوع. ففي الخدمة الصادقة يكون السير خلف يسوع بأمانة، والذي غلبَ قصورنا عن محبتِه، وضعفنا أمام التجربة، بأنه أحبنا أكثر من ذي قبلُ، فوهبَ لنا جسدهُ ليكون لنا غذاءً للحياة.