موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
العالم العربي
نشر الثلاثاء، ٢٥ يونيو / حزيران ٢٠١٩
إميل أمين يكتب لموقع أبونا: ’البابا والمسلمون.. شركاء حوار وجوار‘

القاهرة - إميل أمين :

مثير جدًا شأن البابا فرنسيس، الفقير خلف الجدران الأسطورية للمؤسسة الرومانية الكاثوليكية، المثير في حله وترحاله، في أفكاره ومعطياته. رجلٌ يقود دفة كنيسته في مواجهة الماضي الأليم، ويدفع بها نحو مستقبل أكثر رحابة.

ينتشلنا فرنسيس دومًا وأبدًا من ضيق الأيديولوجيات وأحادية الدوجمائيات، إلى رحابة الإيمانيات، وإلى عظمة تواضع الروح، سيما وأن أقواله مشفوعة بأعماله في بناء الجسور وهدم الجدران. لطالما تساءل الكثيرون: لماذا ينظر العالم الإسلامي إلى فرنسيس نظرة مودة واحترام، تقدير وإجلال؟

يومًا تلو الآخر يثبت الرجل ذو الرداء الأبيض أن في قلبه متسع للجميع، وفي أفكاره موصلات للدفء الإنساني، وعلى لسانه دعوات للرحمة وجبر المنكسرين، وبشارة للإنسانية المحطمة على صخرة العولمة التي سلّعت الإنسان وسحقته إلى حد المحق.

خلال سنوات حبريته الماضية، أظهر فرنسيس أنه صديق طيب القلب للعالم الإسلامي، وهو يمضي في هدي المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962-1965)، ذاك الذي شرّع الأبواب للحوار والجوار مع العالم الإسلامي قبل أزيد من خمسة عقود، ورسّخ لعلاقة مبنية على الاحترام والتعاون عبر الوثيقة الشهيرة "في حاضرات أيامنا".

على أن زمان فرنسيس، جاءت فيه النوازل بما لم تعرفه أوقات البابا يوحنا الثالث والعشرين، وخلفه بولس السادس، فقد كان الصراع وقتها قائمًا مع الشيوعية، ومحتدمًا بين حلفي وارسو والناتو، في حين أن قضية عالمنا المعاصرة الإشكالية، هي التطرف والإرهاب والأصولية، وليس سرًا أنه فيما بعد 11 من سبتمبر، بات عند كثيرين من مفكري الغرب الإسلام صنوًا للإرهاب، والمسلمين إرهابيين بالضرورة إلى أن يثبت عكس ذلك.

مرات عديدة خلال الأعوام الماضية وفي مناسبات متباينة كان فرنسيس يرفض رفضًا جامعًا مانعًا هذا الطرح ويذهب إلى أن الإسلام ليس مرادفًا للإرهاب، وأن المسلمين لا يمكن أن يكونوا كما يريد البعض تصويرهم إرهابيين صباح مساء، كل يوم، ومن مشارق الشمس إلى مغاربها. أكثر من ذلك تحدث البابا الأرجنتيني الأصل عن وجود عنف وتطرف داخل الكاثوليكية، وبقية أتباع الأديان، ما يعني أن القضية غير موصولة بحكم قاطع بالإسلام والمسلمين، مرة وإلى الأبد.

كانت شهادة فرنسيس ولا تزال جسرًا حقيقيًا، سار ويسير عليه أصحاب النوايا الصالحة، دعاة الوفاق لا الافتراق، ومن أجل إنسانية تتجاوز كارثية القوميات الصاعدة في الغرب، منذرة ومحذرة من انفجار وشيك يعود بأوروبا بداية، وأميركا تاليًا، إلى أزمنة الصراعات الأيديولوجية القاتلة، وربما الحروب الدينية المهلكة من جهة. ومن ناحية ثانية، إنسانية قادرة على التصدي والتحدي للأصوليات الضارة التي أخذت صحيح الدين والإيمان في الشرق الخلاق إلى دروب ضيقة، تحت رايات فاقعة وأصوات زاعقة من التكفير والقتل وإراقة الدماء.

فرنسيس المحبوب من العالم الإسلامي مرة جديدة خلال الأيام القليلة الماضية يفتح مسارب الأمل أمام البشرية التي يكاد ظلام الأنانية المتمحورة حول الذات أن يسدل أستاره من حولها.

المسلمون شركاء، يا لها من صيحة تجعل الباحث في تاريخ العلاقات بين الغرب والشرق، الإسلام والمسيحية، الكنيسة الرومانية الكاثوليكية والعالم الإسلامي، يقف مشدوها، حين يقارب تلك اللهجة وهذا التوجه اليوم، وما جرت به المقادير قبل نحو ثمانية قرون من مواجهات وصراعات لم تترك غير الألم والحسرة على الجانبين. ليس الآن مجال استحضار الماضي، إنه وقت فرح الحقيقة، وبهجة اللقاء الذي يجعل من المسلمين شركاء بحسب دعوة فرنسيس.

خلال الكلمة التي ألقاها فرنسيس ضمن أعمال ندوة نظمتها الكلية الحبرية لللاهوت في جنوب ايطاليا، والتي يديرها الآباء اليسوعيين، حول موضوع "اللاهوت.. فرح الحقيقة في السياق المتوسطي"، أشار الحبر الروماني إلى أن البحر الأبيض المتوسط كان دومًا مكانًا للعبور والتبادل، وللصراعات أحيانًا، وبات اليوم قضية تطرح تساؤلات مؤلمة وغالبًا ما تكون مأساوية.

ما الذي يقصده خليفة بطرس كبير الرسل من وراء هذا الحديث الذي قد يراه البعض ملتبسًا؟

الشاهد أنه يرمي إلى قضية الهجرة المحتدمة بين جانبي المتوسط، حيث الجنوب الفقير والموبوء بعدم الاستقرار السياسي، وبين الشمال الغني والاكثر استقرارًا، بعد سبعة عقود من تراكم رأس المال وإنهاء زمن الحروب.

تحتاج علاقة فرنسيس بإشكالية الهجرة والمهاجرين قراءة قائمة بذاتها، غير أن الرجل من كبار الداعين إلى فتح القلوب الأوروبية قبل الموانئ لاستقبال المهانين والمجروحين من الشط الآخر، وقد أحضر بنفسه معه غداة زيارته لمعسكر لاجئين في اليونان بعض الأسر وأسكنها قصر الفاتيكان، كما طالب الكنائس والأديرة الأوروبية باستضافة هولاء المعذبين في الأرض.

يرى فرنسيس أن جلّ هولاء من الذين لا ذنب لهم في المآسي التي يعيشونها، وعلى هذا الأساس يذكر الأوروبيين بأن الجانب الآخر من المتوسط قد شرّع أبوابه واسعة لهم في سنوات الحرب العالمية الثانية.

يسعى فرنسيس وراء تقليد ديني جديد يُطلق عليه "لاهوت الضيافة"، والمعنى والمبني هنا أن يكون أحد محاور الحياة الدينية والإيمانية. وما اللاهوت إلا إعمال العقل في النقل كما يقول العلامّة توما الأكويني، أي فكر جديد يؤمي إلى تطوير حوار أصيل وصادق يسعى في طريق السلام والوئام لبناء مجتمع أخوي يشمل الكل.

لكن عن أي حوار يتحدث فرنسيس، ومن هم الأقرب بإقامة الحوار معهم في الوقت الحالي؟

الحوار الذي يطالب به بابا روما، يتطلب وداعة الروح، ويبلور نمط حياة بعيدًا جدًا عن الرغبة في التفوق على الآخر، وأبعد ما يكون عن محاولات الاقتناص، إنه حوار مع أشخاص مختلفين الثقافة، حوار يشكل شهادة تصل إلى حد التضحية بالذات.

يدعو فرنسيس طلاب الكليات والمعاهد اللاهوتية، أي جماعة الإكليروس المنوط بهم تنبيه الناس ورفع الالتباس، رجال الدين السائرين غدًا على الطرقات، إلى إتباع دورات دراسية في اللغة والثقافة العربية، وفي ظنه وتقديره أنها الخطوة الأولى لتنمية وتطوير العلاقات من خلال فهم الجذور المشتركة والاختلافات على حدٍ سواء.

يخبر فرنسيس كهنة الغد: "إننا مدعوون إلى الحوار من أجل بناء مستقبل مجتمعاتنا ومدننا، وينبغي أن نعتبر المسلمين شركاء لنا من أجل بناء تعايش سلمي". ولا يكتفي بابا الكاثوليك الذين يناهز عددهم المليار والثلاثمائة مليون حول العالم بهذا، إذ يحذّر من الوقوع في فخ التعميمات، حال قيام مجموعات متعصبة معادية للحوار بأية أعمال، غرضها إفساد مسارب التواصل الخلاقة.

ما بين جنوب المتوسط، وبين شماله ينادي فرنسيس بحتمية بناء خيمة السلام الكبرى التي يعيش فيها الأبناء المشتركون لإبراهيم أبو الآباء.

الخلاصة... الحوار والجوار هما الحل.