موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٦ سبتمبر / أيلول ٢٠١٩
إميل أمين يكتب لـabouna.org: بابا الفقراء في القارة السمراء

إميل أمين – خاص أبونا :

مع إشراقة شمس نهار الرابع من ايلول الحالي، استهل البابا فرنسيس، أسقف روما، زيارة تاريخية إلى ثلاثة من أفقر دول إفريقيا الواقعة على المحيط الهندي: موزمبيق، مدغشقر وموريشيوس، دول تعرف معنى الفقر وتعيشه، وترزح تحت البؤس وتئن منه، وتعاني من الكوارث الطبيعية وتدفع اكلاف عالية لخسائرها جراءها.

لا يختار فرنسيس الدول التي يزورها بشكل عشوائي، بل من وراء رحلاته حول المسكونة أهداف ورسائل، يحملها في قلبه وينقلها بمحبة صادقة، من دون مواراة أو مدارة ، وجل همه الإنسان في كل زمان ومكان.

يعن لنا أن نتساءل هل فرنسيس هو بابا الفقراء بالفعل؟

الشاهد أنه ومنذ أن تم اختياره بابًا للكرسي الرسولي، يمارس فرنسيس ضربًا من ضروب الفقر الروحي النادر وراء جدران الفاتيكان، فهو يرفض كل مظاهر العظمة والفخامة التي كانت تحيط بالحبر الأعظم تاريخيًا، أو على الأقل ما تبقى منها بعد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، فلا يرتضي أن يبدل صليبًا ذهبيًا صليبه الفضي الذي يحمله منذ أن كان رئيسًا لأساقفة الأرجنتين، كما لم تطأ قدماه شقة القصر الرسولي المخصصة للبابوات، إذ لا يزال مقيمًا في غرفتين متواضعتين في نزل "سانتا مارتا"، بالقرب من القصر الرسولي. أضف إلى ذلك أن كثير من المراقبين ومن حرس البابا السويسري، قد راوه بالعين يتسلل في بعض الأمسيات من الأبواب الخلفية برداء أسود كما بقية الكهنة، وليس برداء البابا الأبيض، ليحمل صدقات إلى فقراء روما ومشرديها.

يسعى فرنسيس البابا الأبيض إلى إفريقيا السمراء، في بادرة تضامن من رأس الكنيسة التي يتجاوز مؤمنيها في قارات الأرض الست، المليار والثلاثمائة مليون. بادرة من بابا كان لا ينفك يزور الأحياء الفقيرة في الأرجنتين التي ينحدر منها، والتي لم يره أحد فيها يستقل سيارة خاصة أبدًا، بل جالسًا وسط زحام وسائل النقل التقليدية، يعيش مع الناس مقتربًا من الآمهم، ومتطلعًا معهم إلى تحقيق آمالهم.

لا تزال إفريقيا ترزح تحت نير الظلم الإنساني، وعبودية القرن الحادي والعشرين، عبودية رأس المال، بعد أن تخلصت بدرجة كبيرة من عبودية البشر، ولهذا تحتاج إلى من يرفع صوت العدل وينادي للمسبيين بالحرية، وللمظلومين بالعدالة، وللجوعى والعطاش بالشبع والإرتواء.

أضحت إفريقيا اليوم، ومع أسف شديد، ملعبًا لحروب الأمم، وها نحن نرى الأقطاب الكبرى حول العالم تتكالب عليها، بعضهم يتطلع إلى استغلال ثرواتها الطبيعية، فيما البعض الآخر يتهيأ لأن يجعل منها ساحة خلفية لأغراض خفية، مثل نشوء وراتقاء الجماعات الإرهابية، مستغلين أوضاعها الأمنية القلقة، وحروبها الأهلية المشتعلة.

قبيل توجهه إلى موزبيق دعا فرنسيس إلى الصلاة من أجل "المصالحة الأخوية في موزمبيق وأفريقيا، معتبرًا أن ذلك هو الأمل الوحيد من أجل أن يتحقق سلامًا وطيدًا ودائمًا".

يدرك الحبر الاعظم أن "كعب أخيل" الذي تنفذ منه الشرور إلى القارة السمراء هو الصراعات البينية، تلك التي تنشب من جراء ذرائع متباينة، منها ما هو ديني طائفي، ومنها ما هو عرقي وقومي، وجميعها تخلف وراءها معادلة من الألم والخوف، الموت والفناء صباح مساء كل يوم.

يصرح الكاردينال بيترو بارولين، أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان، بأن إفريقيا قبل كل شيء هي أرض غنية بالإنسانية والقيم والإيمان، وهذا هو التوجه الذي يحرك البابا فرنسيس.

هل من قضايا بعينها سوف يركز بابا الفقراء عليها في كلماته الرئيسة خلال تلك الزيارات؟

المؤكد أن البابا فرنسيس سوف يركز في خطاباته على ثلاث قضايا جوهرية، تتقاطع مع حاجات أفريقيا الأساسية، ألا وهي: السلام، وحماية الخليقة في سياق "كن مسبحًا"، ثم ثقافة اللقاء.

تحتاج النقاط الثلاث المتقدمة إلى إلقاء شيء من الضوء عليها، ذلك أن البداية هي إشكالية السلام المفقود، والتي أشرنا إليها، لاسيما في ظل وجود مشعلي الحرائق بكثرة هناك من أجل تحقيق أهداف براجماتية أناركية قصيرة النظر، أهداف لا تأخذ في حسبانها إلا كل ما يعزز سر الإثم، ويباعد بين أفريقيا وبين سر البعث، ولهذا يذهب فرنسيس إلى أفريقيا محملاً بالرجاء في تغيير الأوضاع وتبديل الطباع، من الحروب إلى السلام، ومن الكراهية والخصام، إلى المحبة والوئام.

الجزئية الثانية التي اهتم البابا بها طويلاً هي تلك المتعلقة بحماية الخليقة من خلال الحفاظ على البيئة، ولعل الجميع يتذكر الرسالة العامة التي حملت عنوان "كن مسبحًا"، والتي أصدرها البابا فرنسيس، المعروف بأنه أحد أهم أجراس الإنذار للبشرية كافة، للتنبه واليقظة من الأهوال التي يتعرض لها كوكب الأرض جراء التغيرات المناخية، تلك التي تسببت فيها الأنانية الإنسانية الساعية إلى تعظيم المنافع الاقتصادية على حساب الطبيعة، والتي جاء دورها الآن لتتمرد، بما يمكنه أن يسحق ويمحق الوجود الإنساني عليها، مرة وإلى الأبد.

ثم تتبقى الجزئية الثالثة، تلك التي أولاها البابا فرنسيس اهتمامًا كبير، والتي تجسدت بأجمل صورة في وثيقة الأخوّة الإنسانية التي صدرت في أبوظبي خلال زيارة البابا الشهيرة في شباط الماضي. الناس أعداء ما يجهلون، وخطاب الكراهية يطرد خارجًا كافة علائم المودات، ولهذا فإن ثقافة اللقاء والأخوّة بحسب فرنسيس، هي القادرة على إلقاء المخاوف من الآخر خارجًا، وتبديلها بإقامة الجسور بين الأمم والشعوب والقبائل.

حمل فرنسيس في قلبه أبدًا ودومًا أفريقيا، ولعل الذاكرة الكونية لن تنسى ما حيت مشهد بابا روما وهو يجثو في شهر نيسان الماضي على الأرض ويقبل أقدام قادة جنوب السودان، طالبًا منهم أن يكونوا على مثاله في القدرة على الصفح والغفران، ومن أجل أن يسود السلام في ذلك البلد الوليد، وأن تنتهي مسيرة الحروب الأهلية. قبّل فرنسيس أقدام المتخاصمين ليضرب بذلك مثالا بتواضع غير مسبوق من حبر روماني كان يحمل وحتى النصف الأول من القرن العشرين على محفة ترفعها الأكتاف ولا يخطو على الأرض.

سيكون الحوار ولاشك نقطة جوهرية مضيئة ولامعة في خطابات الأب الأقدس خلال زياراته الثلاث. والحوار يعني التخلي عن لغة العنف والتراشق بالأسلحة، ويطرح نفسه كوسيلة لحل الصراعات والاختلافات بين الأطراف المتضادة التوجهات والرؤى.

يحمل فرنسيس في زياراته فرح سر المصالحة، فحيثما يحل برداءه الأبيض العتيق وحذاءه البالي الذي تكشفه لحظات صعوده درج الطائرة، فإنه يذكر العالم بالفقر الروحي، الواجب أن يملىء القلوب في زمن الرأسمالية والنيوليبرالية وتسليع الإنسان.

فرنسيس بابا من طغمة البابوات الخيرون والمغيّرون.