موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٢٤ يوليو / تموز ٢٠١٧
أوضاع الكنيسة الرومية الأرثوذكسية وأملاكها في فلسطين

أ. د. كامل أبو جابر :

الصراع المتجدد مع الغرب على ارض المنطقة العربية ومواردها وممراتها البرية والبحرية والجوية وفلسطين قلبها متجدد بدأ حتى قبل بزوغ فجر الاسلام. كل شبر من ارضها ثمين، استشهد لحمايته الملايين من المسلمين والمسيحيين عبر التاريخ.

قامت الدعوة الى ضرورة اعادة نظر شاملة في اوضاع الكنيسة الارثوذكسية نظراً لتكرار اللغط والضجة الاعلامية المفتعلة احياناً وبعضها كان يدور احيانا حول شبهات لبيوع اراض للكنيسة وبعضها للمطالبة بما يسمى بتعريب الكنيسة التي استثني العرب من رئاستها من بدايات القرن السادس عشر حتى اليوم.

لم تعان اي طائفة مسيحية ما عانته الكنيسة الارثوذكسية منذ قيام دولة اسرائيل. تقوم الكنائس الاخرى الكاثوليكية واللاتين وبعض الكنائس البروتستنتية وغيرها بالتصرف باملاكها واراضيها حسب ظروفها دون ان يصاحب ذلك الضجة التي تقوم بين فترة واخرى حول اوضاع الكنيسة الارثوذكسية المقدسية ولعل ذلك يعود الى عدة اسباب اهمها ان الكنيسة الارثوذكسية المقدسية كانت من اكبر مالكي الاراضي في فلسطين وبالتالي في مدينة القدس بالذات، حيث يقوم مبنى رئاسة الوزراء ومبنى الكنيست الاسرائيلي وغيرها من المباني الحكومية الاسرائيلية المهمة على الاراضي المملوكة للكنيسة الرومية الارثوذكسية المقدسية وهي اراض حصلت عليها اسرائيل باجواء الاحتلال والضغوطات المختلفة وبفرض الضرائب الباهظة وغيرها من الوسائل.

اضف الى هذا ان الطائفة الرومية الارثوذكسية هي الاوسع انتشاراً بين جميع الطوائف المسيحية الاخرى، اضافة للتعارض العربي الارثوذكسي العقيدي والسياسي والسكاني مع العقيدة الصهيونية التي تعمل للقضاء على العروبة التي كان رجالات ومفكرو الارثوذكس وما زالوا في الصفوف المتقدمة للدفاع عنها. كل هذا يفسر مدى رغبة اسرائيل في اخراج هذه الطائفة والتضييق والتحايل عليها بل وفي حملها على الهجرة خارج ما تسمية اراض اسرائيل بشتى الوسائل.

ومما يزيد في تعقيد الامور بالنسبة الى الكنيسة الرومية الارثوذكسية ان القائمين عليها من اصول يونانية يسهل اتهامهم والتهجم عليهم لا من اسرائيل وحسب وحتى احيانا ولو بحسن نية من بعض رجالاتها.

ولكن لا بد من الاشارة الى ان الاحتجاج العربي على احتكار الكرسي البطريركي لرجال الدين اليونان مستمر منذ اعتلاء كرسي البطريركية البطريرك جرمانوس (1505 – 1553) والذي قام بتعيين ابن اخته مكانة والذي استمر باتباع نهج سياسة قريبة باقصاء الكهنة العرب عن جميع المناصب في الكنيسة، وقام جرمانوس كذلك بتشكيل اخوية القبر المقدس من رجال الدين اليونان وبقي الوضع الى اليوم حيث لا يوجد في المجمع المقدس سوى عدد قليل من العرب. احتج العرب انذاك بمختلف الوسائل لدى البطريركية والسلطات العثمانية ولكن مع مرور الزمن تجذرت اليوننة (Hellenization) بحيث تكاد مناصب الكنيسة العليا تخلو الا من عدد قليل جداً من رجالات العرب.

انا شخصياً لا اجد مانعاً ان يكون البطريرك يوناني او عربي او غير ذلك، تماماً كما هي الحال في منصب بابا الكاثوليك الذي تعددت جنسيات باباواته على مدى الزمان. لكن اعتقد ان الاستمرار عبر قرون طويلة باستثناء العنصر العربي من هذا المنصب وبالذات ان جميع افراد الرعية دون استثناء على ارض الاردن وفلسطين هم عرب، أمر في غاية الغرابة.

احسب ان على القائمين على الامر وبالذات غبطة البطريرك الحالي كيريوس كيريوس ثيوفيلوس الثالث وهو العالم المثقف ان يعالج هذا الامر بحكمته ورويته المعهودة به لذلك لا بد من معالجة امور هذه المؤسسة العريقة ام الكنائس التي تعود جذورها الى بطريركها الاول يعقوب اخو السيد المسيح عليه السلام على مدى الالفي سنة الماضية.

منذ نهاية الحرب العالمية الاولى والبدء بتنفيذ وعد بلفور حيث تم اعطاء الصندوق القومي اليهودي (الكيرين كايميت) بموجب صك الانتداب على فلسطين سنة 1922 حيث منحها حق اعطاء تأشيرة الهجرة الى يهود العالم الى فلسطين بالاضافة الى مهمة شراء الاراضي ازدادت الضغوطات على البطريركية الرومية الارثوذكسية التي لابد لنا وان نذكر انها لا تعمل في فراغ وانما في اجواء محمومة من احتلال وتهجير وهضم حقوق. واجواء عقيدة صهيونية متطرفة تصر ان "اليهود شعب الله المختار" الذي يحق له ما لا يحق لغيره.

على بطريركية الروم الارثوذكس المقدسية ان تتصرف ضمن عدد من الحكومات والمؤسسات الدولية وغيرها الامر الذي لا تواجهه الكنائس الاخرى اذ عليها ان تتعامل مع حكومة المملكة الاردنية الهاشمية والسلطة الوطنية الفلسطينية والى حدٍ ما مع الحكومة اليونانية وفوق هذا كله مع احابيل ومخططات الدولة الاسرائيلية التي يسهل عليها ان ترتكز في معاملاتها متى شاءت الى القانون العثماني او البريطاني او الاردني او الاسرائيلي وان تشرع وتفرض الضرائب المرهقة كيفما تريد.

وعليها التزامات متعددة بعضها روحي والاخر مادي ومواردها المالية في غاية المحدودية اذا ما قورن الامر بالموارد التي تتوفر للكنيسة الكاثوليكية اولدى اللاتين او اللوثريين او غيرهم وتتوفر لدى دولة اسرائيل دوماً السبل لارهاق مواردها متى شاءت اما بالاستملاك باسم الصالح العام او بوسائل اخرى من اهمها الضرائب التي تفرضها احيانا وباثر رجعي.

واذا ما اضيف الى ذلك ضعف الادارة والتخطيط والاعلام في جهاز البطريركية الوظيفي والتي على الرغم من ضرورة تعاملها اليومي مع العدد الكبير من الدول والمؤسسات الا انها لا تمتلك الادارة الضرورية لتواجه هذه المهام بالكفاءة المطلوبة الامر الذي يزيد من تعقيده ان القانون الاردني لسنة 1958 منح جميع الصلاحيات الى شخص البطريرك الذي لا يشاركه احد في ادارة شؤون الكنيسة الروحية والدنيوية من جوانبها كافة لم يقم دوماً باتخاذ القرارات الضرورية الصعبة بالشفافية اللازمة بل والاعتماد على اشخاص معينين بالاردن وفلسطين او من الاعوان المقربين وهكذا ازدادت الضبابية حول جميع ما يتعلق بشؤون الكنيسة والطائفة على مختلف الصعد مثل التصرف بالاملاك، شؤون الكهنة، ورجال الدين، المحاكم، المدارس وغيرها.

منذ عشر سنوات تم تشكيل المجلس الاستشاري الارثوذكسي لأول مرة بتاريخ الكنيسة من شخصيات ارثوذكسية وتم تعيينهم من قبل غبطة البطريرك الحالي بهدف التعاون وتقديم المشورة للبطريركية من أجل حسن ادارتها في جميع الامور وحسب ما ورد في كتاب التكليف.

لا شك ان غبطة البطريرك مشغول الى درجة انه لم يتمكن من اللقاء مراراً مع المجلس الامر الذي دفع المجلس الى تقديم استقالة معللة بالاسباب. كان رد غبطة البطريرك عليها رفض قبولها شفوياً طالباً من المجلس البقاء مع اشارة الى ان العلاقة والامور ستتغير مستقبلاً.

هذه هي الاجواء التي قامت بها العاصفة الاخيرة والمتكررة حول ما نقل في بعض الصحف الاسرائيلية والفلسطينية والاردنية وغيرها عن بيع 528 دونما من اراضي القدس الى شركة اسرائيلية.

من الضروري الاخذ بعين الاعتبار ظروف واحوال "بيع" او تأجير الحكر طويل الامد لهذه الارض الموزعة على مناطق الطالبية، ورحافيا، ونيوت، وولفسون ومنطقة محطة القطار والمقام عليها مبنى الكنيست الاسرائيلي ومحكمة العدل ومرافق وحدائق عامة وشوارع ومقابر ومسار سكة الحديد ومباني سكنية منذ عشرات السنين في فترة قيام دولة اسرائيل وهي منتشية بروح الانتصار سنة 1951 حيث تبين حقيقة الامر ان تم وضع يد اسرائيل على الاراضي من خلال ابرام عقود حكر فرضتها اسرائيل لمدة 99 عاما بايجار سنوي زهيد يحق لها تجديده لمدة حكر اضافية مماثلة بحيث تقوم هي بتحديد بدل الايجار والبت باي خلاف من قبل محكمة العدل العليا الاسرائيلية حيث يمكن القول بانها الخصم والحكم بنفس الوقت. منذ ذلك الوقت تمت محاولات متعددة لنقل ملكية الارض الى اسرائيل ومنها محاولات تزوير سنة 2000 ضد المرحوم البطريرك ثيوذيروس الذي تم تزوير توقيعه وبعد التحقيق التي قامت به الشرطة الاسرائيلية نتيجة الشكوى التي تقدمت بها البطريركية ثبت التزوير وتم الغاء الصفقة المزورة وحكم على بعض المزورين بالسجن.

لقد تم احتلال ارض فلسطين كاملة من قبل اسرائيل التي تمكنت من التحايل على جميع قرارات الامم المتحدة والقانون الدولي وافشال جميع المبادرات العربية والغربية للتوصل الى تسوية عادلة للاحتلال الذي ما زال جاثماً على ارض فلسطين وشعبها وبحيث تسمى الزحف من اليمين المتطرف الى ذاك الاكثر تطرفاً غير ابهة بحقوق العرب جميعهم مسلمين ومسيحيين ولا بالقانون الدولي ولا قرارات هيئة الامم المتحدة.

هذه هي الاجواء التي اكتنفت اعمال بطركية الروم الارثوذكس المقدسية منذ ذلك التاريخ والى اليوم حيث تجد نفسها امام خصم عنيد ومخطط ومكابر يتصرف ضمن عقيدة توراتية تلمودية تعتقد ان لها حقا بان تتصرف كيفما شاءت دون اي اعتبار للاخر.

ان الزوبعة الاعلامية الاخيرة جاءت متأخرة 66 سنة حيث تم التصرف الفعلي بهذه الاراضي عام 1951 بالضغط على البطريرك الطاعن بالسن والمريض انذاك "بتأجيرها" لمدة 99 سنة تنتهي في 2051 قابلة للتجديد تلقائياً وفي حال قيام خلاف حول مدة او قيمة الايجار تقوم المحكمة العليا الاسرائيلية بالبت فيه. وفي ضوء اختلال الموازين والحيلة ما بين اسرائيل والبطريركية قام البطريرك حالياً بتوكيل شركة يهودية للتصدى للاحابيل الاسرائيلية من منطلق ان لا يفل الحديد الا الحديد.

واضح كل الوضوح ان البطريركية لم تكن قادرة على التصدي للمخطط الاسرائيلي لا بحكم طاقتها الذاتية ولا مع واقع الاحتلال متعدد الطاقات والقادر على انتقاء القانون الذي يريد ليصل الى اهدافه ليحصل على الارض.

المطلوب ليس مجرد فزعة او هبة للهجوم او الدفاع بل مخطط طويل الامد يعيد الامور الى نصابها بدءاً من ترتيب البيت البطريركي الداخلي من جهة وعلاقتة لا مع المواطنين العرب الارثوذكس وحسب بل وعلاقته مع الاردن وفلسطين واليونان وغيرها من الدول.

واعتقد ان الدولة الاردنية بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني بحكم حقها ومركزها التاريخي كوارثة للعهدة العمرية وتقدمة الشريف الحسين بن علي الذي اثر المنفى على الرضوخ لمطالب وعد بلفور وبحكم بنود معاهدة السلام الاردنية الاسرائيلية واتفاق جلالة الملك عبدالله الثاني مع سيادة الرئيس الفلسطيني محمود عباس عام 2013 حول حماية الاماكن المقدسة الاسلامية والمسيحية على الدولة الاردنية ان تأخذ زمام المبادرة لاعادة الامور الى نصابها.

ولخطورة الامر ولاهميته الامنية والحياتية والتاريخية اقترح تشكيل لجنة ملكية عليا لتدرس الامر من كافة الجوانب وتقدم الافكار والمقترحات الكفيلة بتسوية الامور بما يرضي جميع الاطراف وقد ترى الدولة الاردنية ان تشكل هذه اللجنة الملكية العليا بالتشاور مع بطريركية الروم الارثوذكس المقدسية والسلطة الفلسطينية ورجالات الطائفة من الاردن وفلسطين.

اعتقد ان الارثوذكس العرب في الاردن وفلسطين سيرحبون بمثل هذه المبادرة التي قد تعدل وضعاً تاريخياً مختلاً تمام الاختلال على مدى اربعة قرون على الاقل كما وتطمئنهم بان لهم رأياً في شؤون كنيستهم ولغتها واملاكها وكافة شؤونها.

لا يجوز ان تقوم مثل هذه الزوابع بين لحظة واخرى التي تقود الى قيام تساؤل حول دور العرب الارثوذكس الذين منذ بدء يقظة العرب من منتصف القرن التاسع عشر والى اليوم وهم في الصف الاول في الدفاع عن العروبة وعن كل شبر من ارض فلسطين خاصة وارض العرب عامة والذين اختلطت دماء شهدائهم مع دماء الشهداء من اخوانهم المسلمين في الدفاع عن فلسطين. فهذه الزوابع أمر لا يجوز استمراره.

المساءلة ليست دينية وحسب بل وسياسية وطنية كذلك وعلى الرغم من انني كنت اكرر احيانا ان في مواطني الكنيسة العرب من الرجالات والخبرة والحكمة ماهو كفيل بتدبر الامور دون تدخل خارجي لا من الحكومة الاردنية ولا غيرها الا انني اصبحت اليوم على قناعة ان الامور تعدت ذلك فالاحتجاجات العربية المستمرة والمتجددة بين فترة واخرى منذ بدايات القرن السادس عشر لا بد من معالجتها بشكل لائق ومعقول، اما ان تبقى الامور على ما هي عليه وتمرير المشكلة من جيل الى اخر فهو امر لا يجوز كما لا يجوز استمرار الهبات المناكفة للكنيسة الارثوذكسية بحيث يبدو وكأن الارثوذكس العرب الاقحاح يبيعون ارضاً عربية فامر لا يجوز الاستمرار فيه.

لا بد من معالجة اوضاع المواطنين العرب الارثوذكس الذين يشعرون انهم في ورطة غير قادرين على الخروج منها وحدهم ويقدرون سعة صدر الدولة الاردنية بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني في احتوائها الانساني والاسلامي لهم يشعرون لا بالازمة الحضارية الخانقة التي تمر بها الامة كافة وانما بازمة داخلية خاصة بهم يتمنون تدخل جلالة الملك للخروج منها اذ ما بين تطرف دواعش الدهر من جهة وقسوة التطرف الصهيوني من جهة اخرى لا ملاذ ولا بيت لهم سوى البيت الهاشمي الذي يحافظ على التعددية التي هي احدى ابهى واروع سمات حضارتنا العربية الاسلامية.