موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٧ فبراير / شباط ٢٠١٦
أعمال الرحمة في "سنة الرحمة": زيارة المرضى

المطران بولس ماركوتسو :

نحتفل هذه السنة بيوبيل الرحمة. في برنامج الكنيسة المحلية في الأرض المقدسة نُقدّم كل شهر تأملاً وتفكيراً حول عمل من أعمال الرحمة الـ14. هذا من جهة ومن جهة أخرى، نحتفل في شهر شباط من كل سنة، وبالضبط بيوم 11 الشهر، بيوم المريض العالمي الذي نحتفل به هذه السنة بطريقة مميزة لأن قداسة البابا اختار الأرض المقدسة وخصوصاً مدينة الناصرة كمركز محوري لاحتفالات يوم المريض العالمي. لذلك نكرّس تأملنا لشهر شباط لزيارة المرضى.

1. الأسس الإنسانية

لزيارة المرضى أسس إنسانية عفوية وطبيعية، منتشرة في كل الحضارات والديانات. ولكن، في بعض الأحيان، أسباب الزيارة غير سليمة وطرق ممارساتها غير صالحة وأهدافها غير مثمرة. لذلك، يساعدنا الوحي الإلهي في الكتب المقدسة ويثبّت جودة هذه الممارسة الإنسانية وتصلح بعض الجوانب غير السليمة ويكمّل معانيها.

2. الأسس الكتابية: لماذا نزور المريض وكيف؟

صفحات كثيرة من الكتاب المقدس تتكلم عن أهمية زيارة المرضى. ولكن المقطع الأهّم هو إنجيل القديس متى 25: 31-46، المدعو بالدينونة العظمة، خصوصاً تلك الآية رقم 40 المؤثرة: "الحق أقول لكم: كلما صنعتم شيئاً من ذلك لواحد من إخوتي هؤلاء الصغار، فلي قد صنعتموه".

نرى في هذا الفصل، وبصورة جلية، تماهياً مؤثراً وقوياً بين المريض والسيد المسيح. من يزور المريض يزور السيد المسيح. وهذا التماهي يثبّت هوية وشخصية المؤمن المسيحي ويعرّف ويحدّد الإيمان السليم. زيارة المرضى وعمل الخير للمتألمين والمحتاجين وصية من وصايا الربّ. أعطانا السيد المسيح مثلاً رائعاً وهو مَثَل السامري الصالح. وبعدما عرضَ هذا المَثل أضاف بكل سلطان: "اذهب واعمل انت أيضاً كذلك".

وبمناسبة الاحتفال بيوم المريض العالمي قدّم لنا البابا فرنسيس شعاراً مريمياً جميلاً جداً: "كونوا رحماء مثل مريم العذراء التي قالت لخدام عرس قانا الجليل: مهما قال لكم فافعلوه". والسيد المسيح يقول، بكل وضوح، للذين مارسوا وصيته أي أعمال الرحمة: "تعالوا، يا من باركهم أبي، فرثوا الملكوت المعد لكم منذ إنشاء العالم" (متى 25: 34).

ويعلمنا سفر أيوب كيف يجب أن نتجنّب بعض الاخطاء، لربما غير مقصودة، في زيارة المرضى: يجب ألا نحوّل الضحية إلى مُذنب والمريض الى مُضطهَد والزائر إلى معلم طبيب (نُقدم نصائح مناسبة أو غير مناسبة فيما يجب أو لا يجب أن يعمل المريض). كما قال المزمور 41: 6 "إن دخل أحد ليراني تكلم بالباطل وقلبه يجمع فوق الإثم إثما ثم يخرج ولا يكف عن الكلام". وخصوصاً يشجعنا سفر أيوب إلى أن نُعطي المريض مجالاً واسعاً للحديث.

زيارة المرضى عمل إنساني وإلهي في نفس الوقت. فلذلك القديس يعقوب يطلب في رسالته: "هل فيكم مريض؟ فليدع شيوخ الكنيسة، وليصلوا عليه بعد أن يمسحوه بالزيت باسم الرب. إن صلاة الإيمان تخلص المريض، والرب يعافيه. وإذا كان قد ارتكب بعض الخطايا غفرت له" (5: 14-15). يدعونا القديس يعقوب إلى أن ندخل إلى أعماق الانسان، ألا نكتفي بالمجاملات الاجتماعية أن نصل الى خير المريض الحقيقي، أي خيره الروحي والأبدي. وهكذا تتحول الزيارة الى بشرى سارة. زيارة المريض زيارة إيمان.

ومدح السيد المسيح كثيراً الايمان الذي يجب أن نمارسه في زيارة المريض عندما قال له قائد المئة في: "يا ربّ، لست مستحقاً أن تدخل إلى بيتي بل قل كلمة واحدة فيبرأ عبدي" (متى 8: 8). وفي أعمال الرسل نرى أمثالاً كثيرة حول زيارة المرضى تطبيقاً لما طلبه السيد المسيح.

3. في تاريخ الكنيسة: مَن يزور مَن؟

في تاريخ الكنيسة أصبحت وصية السيد المسيح ممارسة متواصلة. نرى هذا، في سبيل المثال، في عهد آباء الكنيسة حيث نقرأ شهادة القديس بوليكاربوس، أسقف ازمير، الذي كتب: "يزور كل الكهنة جميع المرضى، دون إهمال الارامل واليتامى والفقراء".

وفي سياق تاريخ الكنيسة الطويل تأسست المستشفيات الكثيرة في كل مكان وفي كل زمان. وكانت الكنيسة الرائدة في هذا المجال حتى قبل الدول والامبراطوريات. ونرى أيضاً الكنيسة تُؤسّس الرهبانيات المختصة في هذا العمل، أي في زيارة المرضى والاهتمام بهم ومعالجة امراضهم. وأمثال هذه الرهبانيات: رهبان وراهبات الرحمة (Mercedari)، رهبان وراهبات القديس كاميلو، والرهبان "احسنوا ايها الاخوة" (Fatebenefratelli) ورهبان وراهبات "العناية الالهية" ((Cottolengo وكثيرة اخرى.

اما عدد القدّيسين الذين تميّزوا في زيارة المرضى لا يحصى. في هذا الزمان، وبكل بساطة، يمكن ان نقدّم مثل الطوباوية الام تريزا من كالكوتا التي تميزت ببطولة رائعة في زيارة المرضى خصوصاً المنبوذين منهم والمتروكين. ونقدم ايضا مثل قداسة البابا الحالي فرنسيس. كما هو معروف يقوم البابا فرنسيس بمقابلة عامة كل يوم اربعاء ويخصّص اكثرية وقت المقابلة لزيارة المرضى المتواجدين في ساحة او قاعة مار بطرس. يمرّ من مريض إلى مريض ويصلي عليه ويتكلم معه ويشعره بمحبته وبتعاطفه. وفي كل زيارة راعوية الى بلد او الى مدينة معينة، يُدخل في برنامجه دائماً زيارة المرضى او حتى يشارك وليمة معهم.

ومحلياً نذكر هنا القديسة مريم بواردي والقديسة ماري الفونسين غطاس والمكرم سمعان سروجي الذين مارسوا زيارة المرضى، حسب دعوتهم الخاصة، بطريقة فريدة. حتى القديسة مريم التي كانت راهبة تأملية وكانت دائماً مريضة وبحاجة إلى علاج كانت السباقة في الاهتمام بالراهبات المريضات الاخريات في الدير.

واذكر هنا أيضاً مثل اعضاء الاخوية المريمية (الليجوماريا) الذين يتخذون زيارة المرضى كواجب اسبوعي مقدس ورسولي. ويطيب لي أن اُشدّد على ذكرى الاخت مارجريت قشوع (المتوفية في 2009)، بنت رام الله،التي كانت تقوم بهذه الزيارات بانتظام ودقة، وبالرغم من كل الظروف وبطريقة ايمانية وإنجيلية مؤثّرة.

4. الخلاصة

الاهتمام بالمريض علمٌ طبّي ولكن زيارتهم هو فنّ. فنٌ يتطرق إلى جوانب كثيرة: مَن يزور مَن؟ كيف ولماذا نزور؟ متى وأين نزور؟ يمكن أن تكون الاجوبة كثيرة. ولكن، في اخر المطاف، جوابا واحداً هو الصحيح: نزور المرضى عن محبة وعن مشاركة. "لأن محبة المسيح تأخذ بمجامع قلبنا" (2 كورنتوس: 5-14). بكلمة اخرى، زيارة المريض تخلق لقاءاً انسانيا وإيمانيا حقيقياً.

الزيارة الناجحة هي الزيارة التي تُشعر المريض بأنه لا يزال محبوباً من قِبل الله ومن قِبل الانسان، بأنه لا يزال انساناً يتمتع بقيمة وبأنه لا يزال مهمّاً لنا جميعاً. والزيارة الناجحة هي التي تُشعر المريض بأنه يُمكن أن يتّحد بالمسيح المتألم على الصليب وأن يتحول الى رسول حقيقي وتؤول آلامه إلى فداء وخلاص له وللآخرين. المريض رسول.