موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
عدل وسلام
نشر السبت، ١٠ فبراير / شباط ٢٠١٨
القدس: كيف صارت جوهر الصراع بدلا من السلام؟

إبراهيم غرايبة - الغد :

يقدم كتاب كارين آرمسترونغ عن القدس معالجة تاريخية نزيهة وممتعة، وقد أنشئت أورسالم (القدس) لتكون مدينة السلام، كان ذلك قبل النبي إبراهيم، وحين زارها أقام فيها معبدا إلى جوار معابد الكنعانيين كما اشترى من الملك الكنعاني أرضا في حبرون (الخليل) لتكون مقاما ومكانا مقدسا له وذريته وأتباعه، وقد أراد الملك أن يقدم الأرض هدية، لكن إبراهيم فضل أن يشتريها بماله، وثمة تطابق بين فكرة المدينتين المقدستين مكة والقدس أن تكونا مدينتين لا يجوز فيهما القتال أبدا، والحال أنه غلب على تاريخها السلام والوئام بين جميع الأديان والملل والمذاهب التي تراها مدينة مقدسة، وعندما تحولت الامبراطورية البيزنطية إلى المسيحية في منتصف القرن الرابع الميلادي كان الكنعانيون والفينيقيون كما اليهود ما يزالون يزورون الأماكن المقدسة بالنسبة لهم وكل يمارس طقوسه على طريقته.

والتزم المسلمون التزاما قويا بحماية المقدسات والحجاج والزوار، ولم تكن الخروقات المحدودة التي جرت لأسباب دينية أو سياسية، لكنها بسبب ضعف الدولة القائمة في بعض الأحيان، وغلبة الفوضى والتمرد، كما هو الشأن في التاريخ والجغرافيا، لكن احتكار المدينة المقدسة ومنع الآخرين من دخولها أو ممارسة شعائرهم الدينية أو التضييق عليهم جرى في عهد الامبراطورية البيزنطية بين عامي 335م – 638م وقبل ذلك وفي ظل الهيمنة الصليبية بين عامي 1099 - 1187 هذا برغم أن المسيحية لا ترى للمدينة مكانا مقدسا مرتبطا بالشعائر والحج كما يرى اليهود والمسلمون، هي فقط مكان تاريخي مليء بالذكريات والأحداث في الضمير والتاريخ المسيحي، لكن الحج اليهودي مرتبط بالمكان وعلى نحو يكاد يتطابق مع الحج الإسلامي في مكة!

ومما يلفت الاهتمام في تاريخ المدينة أنه بعد استعادتها من الفرنجة ظلت حوالي مائة سنة مدينة شبه مهجورة تكاد تقتصر على المسيحيين الشرقيين من العرب والسريان والنساطرة والأرمن والقبط والإثيوبيين والروم الشرقيين، ويزورها الحجاج القادمون من أوروبا، وكانت لهؤلاء كنائسهم الخاصة بهم، وكان ثمة عداء قوي بين المسيحيين الشرقيين والغربيين، عداء ديني وقومي، وأما المسلمون واليهود فقد ظلت ذكريات الرعب تهيمن عليهم، ولم يشعروا بالاطمئنان والتحمس للعودة إلا بعد خروج الفرنجة نهائيا من عكا في العام 1292، وقد بذل الملك فريدريك الثاني عندما تسلم القدس لمدة عشر سنوات بعد صلاح الدين جهودا كبيرة لإعادة التعايش الإسلامي المسيحي، وكان يتحدث العربية بطلاقة ومطلعا اطلاعا جيدا على الدين الإسلامي والثقافة العربية، لكنه تعرض لعداء مسيحي ومحاولات عدة للقتل، كما عارض الملكَ العادل ابن صلاح الدين قطاعٌ واسع من المسلمين بسبب تسليمه المدينة للفرنجة، وعادت المدينة للمسلمين بعد عشر سنوات كما اقتضت المعاهدة التي وقعت بين العادل الأيوبي وفريدريك الثاني.

وتفتق ذكاء السلطان الظاهر بيبرس الذي كان في حالة توتر وحرج بسبب الاعتداءات على الحجاج المسيحيين في إقامة مدارس ومساجد ومقامات إسلامية في المدينة لأجل جذب المسلمين إليها، لكن الفكرة الأكثر ذكاء كانت في إقامة مقام للنبي موسى بين القدس وأريحا ومقام للنبي صالح في رام الله وصارت أعداد كبيرة من المسلمين تزور المقامين في موعد احتفالات القيامة المسيحية ثم يزورون القدس والأماكن المقدسة فيها وهم يتلون ويحتفلون بطريقتهم الإسلامية في طقوس وشعائر تشبه كثيرا مشاعر اليهود والمسيحيين، وأمكن بذلك جذب أعداد كبيرة من المسلمين إلى المدينة في المواسم والأعياد المسيحية؛ ما أشاع أجواء من الأمن والسلام وأبعد قطاع الطرق وخفف الصراعات الدموية بين المسيحيين الشرقيين والغربيين التي كان الجنود المسلمون يضطرون في بعض الاحيان للتدخل لفضها، وأما اليهود فقد عرفوا في ظل المسلمين وبخاصة الأمويين والأيوبيين والعثمانيين عصرا ذهبيا من السلام لدرجة أنهم أضفوا على عمر بن الخطاب وعبد الملك بن مروان وصلاح الدين وسليمان القانوني كثيرا من الاحترام والقداسة، حتى إنهم صاروا في ظل الدولة العثمانية أكثر من ثلثي سكان المدينة، لدرجة أن أهل القدس طالبوا السلطان عبد الحميد في العام 1891 بوقف الهجرة اليهودية إلى القدس وفلسطين.