موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ١٩ أغسطس / آب ٢٠١٩

انتقال سيدتنا مريم المميّز إلى سماء الأبدية

بقلم :
أشخين ديمرجيان - القدس

بما أنّ مريم هي كلّيّة القداسة وممتلئة نعمة ومنزّهة عن الخطيئة، فهي بالتالي منزّهة عن عاقبة الموت وفساده وانحلاله (أيضا "بابا باثرا" رقم 17 أ ) لأنّ "أجرة الخطيئة هي الموت، وأمّا هبةُ الله فهي الحياة الأبديّة". ( رو 23:6). "إنّ شوكة الموت هي الخطيئة ..." (1 قور 56:15 ). تَتابع خبر انتقال مريم العذراء إلى السماء نحو عام 63م - سنة رقادها المقدّس - بين جميع المؤمنين في الجيل الأوّل، ثمّ توالى التواتر من جيل إلى جيل، وظهر حتى في ليتُرجيا الكنيسة، وفي احتفال خاص يوم 15 أغسطس/آب من كلّ عام، يسبقه صوم لمدّة أربعة عشر يومًا. سنة 1946 م طلب قداسة البابا بيوس الثاني عشر من بعض اللاهوتيين الذين اختارهم لدراسة الكتب المقدّسة وأقوال آباء الكنيسة منذ فجر المسيحية ، استعدادًا لإعلان عقيدة انتقال العذراء الى السماء. وانصبّ اللاهوتيون على درس هذه المسألة بعناية ودقّة. وبعد أن أكملوا دراساتهم المستفيضة لمدّة أربع سنوات قدّموها الى المعنيين في حاضرة الفاتيكان. كان شبه إجماع حول وجود هذا الايمان لدى الأساقفة واللاهوتيين وسائر المؤمنين من الشعب المسيحي حسب التقليد المسيحي على مرّ العصور. وفي 1 نوفمبر /تشرين أوّل سنة 1950 ثبت العيد في نصّ رسمي حين أعلن قداسة البابا بيوس الثاني عشر انتقال العذراء مريم إلى الأخدار السماويّة عقيدة إيمانية: "إنها لحقيقة إيمانية أوحى الله بها، أنّ العذراء مريم دائمة البتولية والمنزهة عن كل عيب ، بعد أن أنهت مسيرة حياتها على الأرض رُفِعَت بالنفس والجسد إلى المجد السماوي ". ويعلّم المجمع الفاتيكاني الثاني: "إنّ مريم بعد أن أكملت حياتها الزمنية، انتقلت بنفسها وجسدها إلى مجد السماء، وعظّمها الرب كملكة العالمين لتكون أكثر مشابهة لابنها (رؤيا 19، 16) المنتصر على الخطيئة والموت". رأي الكنيسة إن الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية تتفق على انتقال العذراء نفسًا وجسدًا إلى السماء. وتؤمن بأن العذراء أسمى المخلوقات وأنّ منزلتها أعلى من منزلة الملائكة. ويقول القدّيس غريغوريوس بالاماس: "انّ مريم العذراء تخطّت بدرجة لا توصف الملائكة ورؤساء الملائكة والقوات السماوية بسبب قربها من اله الكلّ. وبسبب المعجزات الباهرة التي بها تحقّقت". يقول القدّيس يوحنا الدمشقي : " كما أنّ الجسد المقدّس النقي ، الذي اتخذه الكلمة الإلهي من مريم العذراء ، قام في اليوم الثالث ، هكذا كان يجب أن تُؤخذ مريم من القبر، وأن تجتمع الأمّ بابنها في السماء". النبيَّان أخنوخ وايليا يجب الاعتراف بأنّ اثنين على الأقلّ من البشر -حسب العهد القديم– رفعهما الله إليه، من غير أن يعبرا بوّابة الموت، وهما : أخنوخ (إدريس) والنبي إيليا من أنبياء العهد القديم، عدا السيّدة مريم العذراء. وبهذه المناسبة فإنّ أخنوخ وإيليا هما النبيّان الشاهدان لمعجزة قيامة السيّد المسيح وفقًا لآباء الكنيسة. النبي أخنوخ (إدريس) (عبر 11 : 5) "بالإيمان نُقِل أخنوخ لكي لا يرى الموت ولم يوجَد لأنّ الله نقله. إذ قبل نقله شُهِد له بأنّه قد أرضى الله". (وفي ابن سيراخ 16:44) : "أخنوخ أرضى الربّ، فنُقل إلى السماء، وكان مثلاً يشجّع الأجيال المُقبلة على التوبة". النبي أخنوخ: من نسل شيث. معنى اسمه بالكنعانيّة "مَن يسير وراء، مَن يتبع، مَن يتثقّف". آمن أخنوخ بالله وتبعه وأحبّ البِرّ وكره الخطية، وتعلّق بطريق الله والقداسة، فأهانه الناس. لكن أخنوخ لم يكترث للاضطهاد وأدرك أنّ أهمّ شيء في حياته أن يكون في سلام مع الله. وبالمقابل كافأه الله واختاره لكي يخدمه، ويكون نبيّه تعالى في أثناء تلك المرحلة الصعبة الشريرة. ومثل جميع الأنبياء في العهد القديم، راح أخنوخ يشهد عن المخلّص الذي سيأتي الى العالم، وأنّه سيعود مرّة ثانية ليعاقب الذين رفضوا أن يتوبوا ويؤمنوا به. كان يعلّم قائلاً: "هوذا يأتي الرب في ربوات قدّيسيه ليصنع دينونة على الجميع، ويعاقب جميع فجَّارهم على جميع أعمال فجورهم التي فجروا بها، وعلى جميع الكلمات الصعبة التي تكلّم بها عليه خطاة وفجار." (القديس يهوذا تداوس 14:1و15) . النبي الياس (إيليا) (سفر الملوك الثاني - 1: 11-12 ) "كان أليشاع يرافق إيليا ... وفيما كانا سائرَين، وهما يتحادثان، إذا مركبة نارية وخيل نارية قد فصلت بينهما. وصعد إيليا في العاصفة نحو السماء، وأليشاع ناظر وهو يصرخ: «يا أبي، يا أبي، المركبة وفرسانها». ثمّ لم يعد يراه". وبالتالي أي مؤمن يطّلع على الكتاب المقدّس يُدرك أنّ رفْع جسد أخنوخ وإيليا في العهد القديم يُعَدّ مسألة كشف أو إعلان إ لهي. مريم العذراء بريئة من الدنس يقول القديس أغسطينوس : "إنّ مريم العذراء قد تحرّرت بنعمة خاصة من الخطيئة..." تؤمن الكنيسة أنّ رفع السيّدة مريم العذراء بالجسد والروح إلى السماءعبارة عن إعلان إلهي. ومن الواضح، أنّه إذا رُفع جسدا أخنوخ وإيليا إلى السماء، كم بالحريّ أن يُرفع جسد سيّدتنا مريم العذراء؟ خاصة وأنّها تسمو على هؤلاء ببراءتها من الدنس والخطيئة، فمن اللائق جدًا أن لا تبقى في القبر. كان المسيح أيضًا ملتزمًا بالوصيّة التي تنصّ على إكرام الأب والأمّ، وهكذا كرّمها بعدم السماح لجسدها بالتحلّل مثل سائر البشر، وهي البتول الطاهرة التي حملت كلمة الله واعتنت به ووقفت بجواره في آلامه وعند موته على الصليب. وخلاص السيّدة عن طريق المسيح يمهّد لرجاء جميع المؤمنين. أمّا تكريمها في هذا الشأن فيتناسب مع حب المسيح الذي أتمّ بوفاء وصيّة الله بإكرام الوالدين . وممكن منطقيًّا أن نرى انتقال السيّدة مريم إلى الأمجاد السماويّة بالآية الأولى من الفصل الثاني عشر من سفر الرؤيا ليوحنا الحبيب : "آية بيّنة ظهرت في السماء: سيّدة مُلتحفة بالشمس وتحت قدميها القمر...". هذه السيّدة هي مريم العذراء، ولا يراها يوحنا الحبيب تحت الأرض في القبر، بل في السماء. وكما أنّ صاحب المزامير في المزمور 16 (15) كتب: "يا رب لن تدَعْ وليّك يرى فسادا" ،فيمكننا من هذا المنطلق أن نفرض بالعقل السليم أنّ السيّد المسيح لم يسمح لجسد والدته التي حملته بأن يرى فساد القبور وانحلال الجثث . خاتمة تكرم الكنيسة الأرثوذكسية والكاثوليكية قبر العذراء الفارغ في كنيسة "ستّنا مريم" بقرب الجسمانية أي بستان الزيتون. وبذلك تشهد بشكل غير مباشر على انتقال السيدة نفسًا وجسدًا إلى الامجاد السماوية. ومن الدروس لنا إكرام الوالدين وإكبار العذريّة. يُعَدّ عيد انتقال مريم العذراء إلى السماء "فصح" السيّدة مريم العذراء، لأنّ الفصح يعني الانتقال من أرض العبودية إلى السماء وإلى رجاء القيامة. أيتها الأمّ القديسة صلّي لأجلنا وتشفّعي فينا وفي مرضانا عنده تعالى، واحفظينا من الشدائد نحن الملتجئين إليك... آمين!