موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢ مارس / آذار ٢٠١٣

الصحراء Vs المدينة

بقلم :
يارا حوراني - الأردن

في الصحراء، لا يوجد غير الرمال والسماء، وطبعا النسيم العليل. أما في المدينة، فهناك الأبنية والسيارات والازدحام والتكنولوجيا وأبراج الاتصالات والانترنت والهاتف، والأوراق وما لا يُحصى من المعدات والواجبات الواجب إنجازها، وفي وسط كل هذا يصل للإنسان إدراك ويقين أن كل شيء ضروري وأساسي لكي يستطيع التماشي والعيش في هذه المدينة، فيلهث ساعيا لامتلاك كل ما طالت يداه وما لم تطل، وكلما مَلَك شيء، لهث لامتلاك غيره، وفجأة يجد أن ما امتلكه للآن لا يكفي بل ويحتاج أيضا للتغيير والتطوير، فقد أصبح قديما ولا يُلبي الاحتياجات المتزايدة، وهذا التطور لا يسمح لنا ولو للحظة التفكير إذا كنا نحتاج مواكبته أو لا، بل يجرفنا ونُصاب بفيروس الاقتناع أننا لا نستطيع التخلي عنه ويجب أن نحصل عليه. وعليه، لا يعود هناك متسع من وقتنا أو تفكيرنا لأي إضافة، سواء كانت هذه الإضافة هي أنفسنا، أي التفكير بحالنا وتنمية وتربية النفس والعناية بها ثقافيا وإيمانيا وروحانيا وأحيانا صحيا، وقد تكون هذه الإضافة هي الغير، الآخر في حياتي، فقد نهتم باحتياجاته المادية ولا نهتم به "كشخص" مكوَّن من روح وجسد وعقل، وغالبا ما تكون هذه الإضافة، وأشدد على كلمة غالبا، هي "الله". "فالله" لا يوجد له محل في المدينة، إلا إذا أَفرَغ له البعض محلا خاصا أو نحن وَعينا لحاجتنا لهذا، ولكن غالبا ما ننجرف بدوامة المدينة، وكما قلت سابقا، لا نجد الوقت الكافي لنفكر بغير ماديات هذا العصر. قد تقولون أن هذا كلام مُجحِف، وأن الكثير منا يفكر بالله عدة مرات باليوم ويصلي أحيانا، ولكن أسألكم: هل هذا هو المطلوب؟ هل أفكر به أحيانا أو أصلي له أحيانا وفقط؟ ولأسألكم أيضا: بمن أنا متصل أكثر، بالهاتف المحمول أم بالله؟ الانترنت أو الكتاب المقدس؟ هل كل ما أملك بين يدي الله أم الله جزء من هذه الأملاك؟ هل صليبي أحد الإكسسوارات في غرفتي وزينتي أو هو علامة نصري وفخري وله مكان وموضع مختلف؟ هل موعد صلاتي ثابت ومُلزِم لي كما موعد عملي وموعد المسلسل وموعد أصدقائي وغيرها من المواعيد؟ هل عملي أو دراستي خاضعين لمزاجيتي كما هي حياتي الروحية والصلاة؟ أنا أيضا منجرفة مثلكم وأكثر، وأحيانا ألتزم وأحيانا لا، وبحسب حالتي النفسية والجسدية، ولكن هل هذا الوضع صح؟ سليم وصحي؟ هل أعيش في قلق وانجراف وفقدان السيطرة على حياتي وذاتي على أقل تقدير؟ هل أصبحت الماديات تتملكني وتُخضعني لها بدلا من أن أتملكها أنا وأُخضعها وأُفَصِّلها كما يناسبني؟ هل فكرت يوما بما يُناسبني حقا؟ هل أنا شخص انتقائي انتقي ما أحب فعلا وأرغب أم أنا شخص مُسيّر أستقبل ما يأتيني وأرضى به؟ هل أجد وقتا لأفكر بكل هذا؟ ألدي فرصة لأبني وأُشكّل حياتي كما أرغب أنا لا كما تفرض عليَ هذه المدينة الصاخبة؟ هل فكرت أن كل هذا قد يكون من حيل الشيطان ليُبعدنا عن أنفسنا وعن الله؟! لنعد للصحراء، فبالصحراء لا يوجد ما يُشتتنا أو يُلهينا، لا يوجد ما يفرض نفسه علينا بقوة ونلهث لانتقائه، لا يوجد غير الرمال والسماء ونحن، مما يضعنا أمام أنفسنا والله، بتجرد تام... تخيلوا معي رحلة إلى الصحراء، لمدة أسبوع مثلا، بدون نت، بدون أبراج اتصالات، بدون هواتف، أو ازدحام، بدون تلفزيون ولا متطلبات مادية نلهث خلفها، ولا مواعيد عمل أو أي تشتت، هل سينهدم العالم؟ كلا، لن يحصل شيء، ولكن ما سيحصل أهم بكثير من كل هذا، وهو العودة للذات ولله، العودة للتفكير، تشغيل الحواس وتنبيهها، التعمق فيها واستيعاب كل هذه العمليات واختيار ما يناسبنا ونبني عليها، يجب أن نكون أحرار ومالكين لأنفسنا، سنتعلم أنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" والخبز هنا يشمل كل الماديات في عصرنا، ونعي عندها أننا أتينا ومصيرنا وعودتنا هي من وإلى الله، وليس لنا سواه، وهو الذي يُغنينا ويملأ علينا حياتنا وما بعدها، وأن له السيادة والسلطان، ولكن علينا أن نعي ذلك ونفسح له ليدخل ويملُك، وعندها، بعد هذه الرحلة نعود للمدينة مالكين لا مُستَملَكين، أسياد لا عبيد، أحرار نتحكم بحياتنا وننتقي ما نرغب وجوده بحياتنا ونُبعد ما لا نرغب... فعودوا للصحراء وتجردوا فتكونوا أسيادا كما يليق بورثة ملك الملوك خالق وسيد كل شيء.