موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٨ يوليو / تموز ٢٠١٩

الأحد الخامس بعد العنصرة

بقلم :
الأب بطرس جنحو - الأردن

فصل شريف من بشارة القديس متَّى (متى 8: 28- 9 :1) في ذلك الزمان لما اتى يسوع الى كورة الجرجسيين استقبله مجنونان خارجان من القبور شرسان جدا حتى إنه لم يكن احدٌ يقدر ان يجتاز من تلك الطريق * فصاحا قائلين ما لنا ولك يا يسوع ابن الله . أجئت الى ههنا قبل الزمان لتعذبنا * وكان بعيدًا منهم قطيع خنازير كثيرة ترعى * فأخذ الشياطين يطلبون اليه قائلين ان كنت تخرجنا فائذن لنا ان نذهب الى قطيع الخنازير * فقال لهم اذهبوا . فخرجوا وذهبوا الى قطيع الخنازير . فاذا بالقطيع كله قد وثب عن الجرف الى البحر ومات في المياه * امَّا الرعاة فهربوا ومضوا الى المدينة واخبروا بكل شيء وبأَمر المجنونين * فخرجت المدينة كلها للقاء يسوع . ولما راوه طلبوا اليه ان يتحول عن تخومهم * فدخل السفينة واجتاز واتى الى مدينته. بسم الأب والأبن والروح القدس الإله الواحد أمين. في النص الإنجيلي لهذا ال?وم، ?تجلَّى ِّ الصراع ّ الأزلي ّ الأبدي، ب?ن مملكة الله، الَّذي هو مصدر الح?اة، ومملكة َّ الش?طان، الَّذي ھو مسبب الموت. "ما لنا ولك ?ا ?سوع ابن الله، َ أجئت إلى ههنا لتعذّبنا؟ ". قالتها الشياطين ليسوع ، وكم نقولها نحن في حياتنا، إلا نقول له مرات كثيرة في ظروف المرض أو الموت والحروب والضيق. هل خلقتنا يا رب لتعذبنا ، هل خلقتنا يا رب للعذاب؟ كلنا نقول هذا في لحظات الضعف والإنهيار. أيها الأحباء إن أرضنا هي بحر الدموع كما يقول القديس نكتاريوس. أي هي مكان َّ الشقاء والألم، َّإلا َّ أن َالله لم ?خلُقنا للعذاب ولكن الشيطان عدو الإنسان ّ والإنسان?ة ونبع ِّكل ُّ الشرور في العالم، أي الشيطان مصدر عذابنا. والرب أتى ليخلصنا من شقائنا وليخرج منها شياطين نفوسنا كما أخرجها من هذين الشابين. الكثيرون منا لا يؤمنون بوجود الشيطان إذ يقر به البعض وينكره البعض الأخر. كذلك، ِفْكَرةُ الجنون، َّ ?تقبلُها البعض و?رفضها البعض َالآخر. لكن في الحالَت?ن فهي حقيقة موجودة. إن الإنسان ِ المعاصر، هو قاب َ قوسْ?ن أو أدنى من الجنون، ولو بنسب مختلفة . ومن يقصد عيادات الطب النفسي أو المشافي العقلية يدرك ذلك.ول?س ّكل مرض ٍّنفسي هو جنون، ول?س ّكل جنون هو بسبب َ مباشر من َّ الش?طان. فقد ?حصل الجنون، أو أي مرض ّ نفسي، نت?جة ُّ الصورة القد?مة َ الموجودة في ِ أذهاننا .فمع ُّ تطور العلم ّ والطب بسبب طب?عة العصر والقلق، وهموم الح?اة، ّفأعصاب الإنسان المعاصر مهترئة من أمور كثيرة وضغوط نفسية يتعرض لها الإنسان . أما ناجم عن اختلال في عمل ِّ الدماغ، وتخريب في خلا?اه، ِ نت?جة الاِبتعاد عن الله. أو رغبة ف?نا أو شهوة أو غضب أو هوى ، كل أنان?ة وحسد وغيرة، هي مشروع ٍ جنون كامن ف?نا. إن المجنونان يمثلان البشرية التي بقيت زماناً طويلاً مستعبدة لعدو الخير، صارت خارج المدينة والبيت، أي خارج الفردوس الذي أقيم لأجلها، وتعرت من ثوب النعمة الإلهية، تؤذي نفسها بنفسها! إن مثل هذه النفوس تبدو كأنها ساكنة في قبور، فإن أجساد غير المؤمنين ليست إلا نوعاً من القبور يدفن فيها الأموات أي النفوس الميتة حيث لا تسكن فيها كلمة الرب. قد رأينا السيد المسيح ينتصر على الشيطان في هذه المواقع الثلاثة: فقد إنتصر عليه في البرية حينما جاء ليجربه، وفي مياه نهر الأردن إذ أعطانا البنؤة والسلطان أن ندوس كل قوات العدو بالولادة من الماء والروح في مياه المعمودية المقدسة (يوحنا 3: 5) ، وها هو الان يلتقي بساكنا القبور ليخلصهما من الروح النجس ويردهما إلى بيتهما. لذا شهدت الشياطين أن السيد المسيح هو (إبن الله)، وهي نفس شهادة بطرس الرسول له في نواحي قيصرية فيلبس (متى 16: 16). لقد إعتبرت الشياطين أن طردهم من الإنسان عذاباً لهم، بعد أن وجدوا راحتهم في عذاب الإنسان !يقول القديس جيروم ( إذ رأت الشياطين السيد المسيح على الأرض، ظنوا أنه جاء يحاكمهم ! إن مجرد وجود المخلص هو عذاب للشياطين). لعل الشياطين أدركت أن السيد لن يسمح لها بدخول إنسان آخر، فقد جاء لخلاص بني البشر ( يوحنا 3 : 16، 17 )، ولا طلبت منه الدخول في حيوانات طاهرة يمكن أن تستخدم كتقدمة في الهيكل، فإستأذنت أن تدخل الخنازير النجسة. فقال لهم : إمضوا، فخرجوا، ومضوا إلى قطيع الخنازير. "وإذا قطيع الخنازير كله قد إندفع من على الجرف إلى البحر، ومات في المياه " (متى 8: 32)، (فأذن لهم يسوع. فخرجت الأرواح النجسة، ودخلت في الخنازير، ربما يتساءل البعض : لماذا سمح الله للشياطين أن تدخل في قطيع الخنازير؟ لقد أراد يسوع أن يعرف الناس أن الشياطين حقيقة وليست وهماً بدليل ملموس على عكس ما يعتقد الصدوقيون لأن الصدوقيين يقولون أنه ليس هناك قيامة ولا ملاك ولا روح… ( أعمال الرسل : 23). أراد يسوع أن يوضح للناس عنف الشياطين، وطبيعتهم المحبة للهلاك، حتى بالنسبة للحيوانات غير العاقلة، إذ لم تحتمل الخنازير دخول الشياطين فيها، بل سقط القطيع كله مندفعاً إلى البحر ومات في الحال! فما حدث للمجنونين كان أقل بكثير مما حدث للخنازير، إذ لم يسمح الله للشياطين أن تؤذي المجنونين إلا في حدود معينة. أراد يسوع أن يظهر للحاضرين قيمة النفس البشرية، فهي عنده أثمن من ألفين من الخنازير، وأنه مستعد مهما كلفه الثمن أن يترك قطيع الخنازير يهلك من أجل إنقاذ شخصين. أراد يسوع أن يظهر عنايته بخليقته، إذ لم تستطع الأرواح الشريرة أن تدخل حتى في الخنازير بدون إستئذانه ! فعلى الرغم من عنف الشياطين وقسوتها، فهي أمام السيد المسيح في غاية الضعف. لعل غرض الشياطين من إغراق الخنازير كان أن يهيجوا كل أهل الكورة على السيد المسيح، إذ لم يحتملوا الخسارة المادية التي لحقت بهم، فطردوا رب المجد من كورتهم، والعجيب أنهم هربوا بل إعتراهم خوف عظيم (لوقا 8: 37)! خافوا من الذي يخلص الناس من الشياطين !! وكان عليهم أن يفاضلوا بين أمرين : بين الشياطين وهلاكهم من جهة، وبين السيد المسيح وخلاصه مع الخسارة المادية من الجهة الأخرى.. ألفا خنزير مقابل خلاص النفس البشرية ! لقد وجدوا الثمن غالياً جداً، لأن ( قلبهم ذاهب وراء الماديات، حزقيال 33 : 31 )، فطلبوا من السيد أن يذهب عنهم (لوقا 8: 37)، وأن ينصرف عن تخومهم (متى 8: 34). فلتكن قلوبنا دائماً وأبداً مستعدةً لاستقبال يسوع ليُقيم فيها حسب ما يشاء، وما علينا نحن إلا أن نكون فرحين لأن أعمالنا ستكون مقيدة بالشيء الصالح الذي أتى يسوع به إلينا. وهذا يحتاج منا إلى صلاةٍ دائمة. آمين